في هذه الحلقة من ذاكرة العمل الاسلامي وثيقة نادرة من وثائق الحركة الإسلامية المغربية، نكمل بها الشهادات التي سجلناها ومازلنا نسجلها في هذا الملف. وكنا قد وعدنا القارئ أن نقربه مما توفر لدينا من الوثائق التي توفقنا للعثور عليها، مما حصنها بعض الإخوة وأفلتت من قبضة أجهزة الأمن بعد حملات الاعتقالات التي طالت كل أعضاء الشبيبة والمحسوبين عليها ممن فارقوها ولم يعلنوا عن ذلك في الوقت المحدد(جماعة التبين، والجماعة الإسلامية) . لكننا مع جهد البحث والتنقيب نعترف بأن الوثائق المتوفرة لا زالت قليلة، وقد حرصنا أن نقتسم هذه الندرة مع القارئ، وأن نضعه، بعد أن أمضى وقتا طويلا في متابعة الشهادات والحوارات، أمام الوثيقة التاريخية التي لا يحضر فيها البعد الذاتي ولا التأويل الذي غالبا ما يكون مصاحبا للذكريات والشهادات. على أننا سنعتمد في منهجية عرض الوثائق المتوفرة أهمية الوثيقة، والتعريف بها من حيث الإجمال، وسياق كتابتها، وتلخيص بعض مضامينها، والتعريج على بعض فقراتها المهمة دون أن ننشرها كاملة. وصف عام للوثيقة تقع الوثيقة في ست صفحات، وهي مكتوبة بخط اليد، وليس عليها أي تاريخ. وصفت الوثيقة نفسها بكونها تقرير كتب بتفويض من الجماعة (جماعة التبين) وقرئ عليها. أهمية الوثيقة تكتسي هذه الوثيقة أهمية تاريخية كبيرة، إذ أنها تؤرخ من جهة لحالة تنظيم الشبيبة الإسلامية في الرباطوالدارالبيضاء زمن الصراع بين عبد الكريم مطيع والسداسيين، والطريقة التي انتقلت بها الفتنة من القيادة إلى القاعدة، وموقف الأطراف منها، ومبررات خروج جماعة التبين، والأسس الشرعية والواقعية التي دعتها لإنتاج هذه المبادرة، كما أنها تشهد على بداية التذمر من شيوع بعض المفاهيم الحركية داخل تنظيم الشبيبة الإسلامية، وبوادر ظهور مراجعات فكرية داخل هذا التنظيم. سياق كتابة الوثيقة: من خلال عبارات الوثيقة، ظاهر أنها كتبت من طرف مجموعة 25 التي تحدث عنها كل من الإخوة أحمد المشتالي وعبد اللطيف السدراتي ومحمد الزروالي في شهاداتهم التاريخية، وهي موجهة إلى الأستاذ عبد الكريم مطيع، غير أنها غير موقعة باسم، حيث اكتفت الوثيقة بالإشارة إلى أنها تقرير كتب بتفويض من الجماعة عقب حدوث الفتنة بين الستة وعبد الكريم مطيع. ليس في الوثيقة أي تاريخ مذكر يؤرخ لبداية الفتنة أو للمرحلة التي كتبت فيه الوثيقة بالتحديد. لكن، من الواضح أنها كتبت في نهاية سنة 1977 أي قبل فصل الستة من قبل مطيع بالبيان الذي نشره في جريدة النور والميثاق المغربيتين ومجلة المجتمع والبلاغ الكويتيتين ومجلة الشهاب اللبنانية بتاريخ 26/02/1978 التعريف بالوثيقة توضح الوثيقة (الرسالة الموجهة إلى عبد الكريم مطيع) الهدف من كتابتها في واجب النصح للحركة الإسلامية بناء على ما شاهدته جماعة التبين من تآكل الوضع الداخلي للشبيبة الإسلامية، وقد فضلت الجماعة في بداية النصيحة أن تقدم للموضوع بنبذة تاريخية عن الفتنة، وعن أسباب ظهورها، وكذا نتائجها وآثارها على الحركة. حيث أكدت أن الفتنة بدأت في الدارالبيضاء بوصول محمد بيرواين وعبد العزيز هاشمي من رحلتهما للحج ولقائهما عبد الكريم مطيع بالحرم المكي، ذلك أن عبد الكريم مطيع خ تشير الوثيقة خ كلف هذين الأخوين بنشر الحقائق في صفوف الإخوان، وقد وصل الأمر بعد ذلك إلى الستة، فصاروا يردون على الاتهامات، وانتقلوا من الرد إلى سرد ما أسموه ب تأريخ الحركة وذكرا الوثيقة أن الأخ عبد الحميد أبو النعيم ساهم بجهد طيب في إخماد الفتنة، لكن الوضع خرج عن السيطرة وصار أسوأ مما كان عليه من قبل بعد وصول الأخوين مصطفى المعتصم ولحسن لشكر من رحلتهما لمكة ولقائهما بعبد الكريم مطيع، إذ ستصير الاتهامات أكثر خطورة، ويصير أسلوب التعامل منفرا من قبل هذين الأخوين. هذا بالنسبة إلى الفتنة في البيضاء، أما بالنسبة إلى الرباط، فتنسب الوثيقة، بداية الفتنة وتوزيع الاتهامات إلى الأخ إبراهيم الناية الذي اتصل بإخوة يعقوب المنصور والعكاري وأطلعهما على الاتهامات التي توجهها قيادة الحركة للستة، وتذكر الوثيقة ردود فعل كل من نور الدين دكير وأحمد بلدهم من هذه الاتهامات، كما تشير إلى إرسال نور الدين دكير إلى الحج للقاء مطيع واستفساره في شأن الاتهامات التي أطلقها الخط الثاني : بيرواين وعبد العزيز هاشمي والمعتصم ولحسن لشكر. وهي الإشارة الوحيدة التي يمكن أن نتعرف من خلالها على تاريخ الوثيقة، إذ أنها كتبت بعدما سافر نور الدين دكير إلى الحج لمناقشة مطيع في وضع الحركة بعد الاتهامات التي وجهت للسداسيين. وتخلص الوثيقة بعد ذكر أسباب الفتنة ومن حركها إلى النتائج التي أدت إليها هذه الفتنة، وكيف صدم الإخوة صدمة عنيفة، وكيف أحدثت اضطرابا عميقا في صفوفهم. ووصفت الوثيقة حال التنظيم كما يلي: - معظم الإخوة التزموا بالتنظيم وتابعوا القيادة الجديدة (الخط الثاني) لكن تؤكد الوثيقة أن منهم من تابع القيادة الجديدة منم منطلق اقتناعه بها، ومنهم من تابعها لمجرد الالتزام بالأصل وعدم الخروج عن طاعة الأمير. - أشارت الوثيقة إلى أنه رغم هذه المتابعة ورغم الارتباط بالقيادة الشرعية ورغم طاعتهم للأمير إلا أن حالة اللاإطمئنان هي الملاحظة الأساسية المسجلة بهذا الخصوص. - أن جماعة من الإخوة تابعوا الستة وعزموا على تأسيس جماعة جديدة على هدى من الله لكنها مع ذلك مستعدة لالتبين في أي وقت طلب منها ذلك. - إخوة اعتزلوا الفتنة مطلقا. - إخوة انحرفوا وعادوا إلى جاهليتهم حسب ما تقول لغة الوثيقة. - جماعة اغتنمت الفرصة (تقول الوثيقة أنها هي جماعة الدعوة إلى الله)وبدأت تصطاد في الماء العكر كما تقول الوثيقة وبدأت تستقطب بعض الإخوة وتتهم الحركة بأنها جماعة سياسية تقتسم الغنيمة بعد مقتل عمر بن جلون. وتنسب الوثيقة نشاط هذه الجماعة إلى أخ يسمى بشار علال، وتذكر أن نشاطه كان بشكل كبير في هذه الفترة في مدينة بالبيضاء وامتد بعد ذلك إلى الرباط. - إخوة قرروا اعتزال هذه الطوائف كلها والعمل بمفردهم كلا في قطاعه. وبعد هذا التفصيل الدقيق في موقف الإخوة من الفتنة، عرجت الوثيقة على موقف نور الدين دكير بعد عودته من الحج وبعد لقائه بعبد الكريم مطيع، وسجلت أن دكير لاذ بالصمت ورفض الإدلاء بأي كلام، وزادت إلى مواقف الإخوة السابقة ثلاثة مواقف نلخصهما كما يلي: - جماعة قرروا التجمع لمعرفة مصدر الفتنة. - إخوة قرروا الانفصال كلية من الشبيبة الإسلامية (إخوة من حي اليوسفية وحي التقدم) - إصابة أحد الإخوة بخلل عقلي من جراء هذه الفتنة. مبررات الرسالة تلخص جماعة التبين الأسباب التي دعتها لإرسال هذا التقرير أو الرسالة إلى الأستاذ عبد الكريم مطيع فيما يلي: 1 الوضع الذي آل إليه وضع الحركة بعد اشتداد الفتنة. 2 تصرفات المسئولين الجدد عن الحركة (الخط الثاني) والتي وصفتها الوثيقة بأنها لا تمت إلى الإسلام بصلة، وبدأت تذكر في بعض الصفات الناقضة للإيمان. 3 الانقسامات التي ظهرت بين موال للستة وموال لعبد الكريم مطيع، وادعاء كل طائفة أنها على الحق وأن الأخرى على الباطل، وظهور بوادر العنف كأسلوب لتصفية الخلافات بين الإخوة. 4 ظهور تكتل ثالث في الرباط اسمه الأصليون ينشد الحق ويريد أن يتبين في أمر الفتنة وأي الفريقين على حق. مطالبالتبين قبل أن تشرع جماعة التبين في ذكر مطالبها والموقف المطلوب من القيادة الالتزام به، تحاول أولا أن ترفع الالتباس، وتوضح طبيعة هذه الجماعة، فهي تكتل لا يقصد التكتل كما تقول لغة الوثيقة، وإنما هي جماعة لا زالت تعتبر نفسها منتمية إلى الحركة، وأنها اختارت هذه الطريق لتتعرف على الحق وتلتزم به، وأنها تسعى لالتبين. ثم تشرع الجماعة في ذكر مطالبها التي تلخصها فقي نقطة واضحة هي التحاكم في هذه الفتنة إلى كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودعوة الطرفين إلى إعمال هذا المبدأ، وأن من لم يقبل مبدأ التبين ومبدأ الاحتكام إلى كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن موقف الشرع واضح فيه (تقصد أن الشرع يعده من الفئة الباغية كما وضحت ذلك شهادة الإخوة القياديين في التبين سابقا). وتستشهد الجماعة في تأكيد موقفها وتأصيله بقوله تعالى : وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم مُّعْرِضُونَ، وَإِن يَكُن لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ ، أَفِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ، إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ، وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ وبعد التأصيل، نزلت الجماعة المفهوم أو الحكم على النازلة، وطالبت باجتماع المتنازعين، بحضور إخوة ثقات، والاحتكام إلى شرع الله، واستدلت بقوله تعالى فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم.. جماعة التبين تترجى مطيع وفي ختام الوثيقة تترجي جماعة التبين عبد الكريم مطيع أن يتدخل بصفته القيادة الشرعية لإيقاف هذا الوضع المؤسف داخل الحركة، وتظهر له أنها إنما تدعوه من خلال هذه الرسالة لتعرف الحق فيهلك من هلك على بينة ويحيى من حيي على بينة، كما تدعوه إلى أن يتدارك الحركة مما أصابها من تمزق وانقسام وفتنة وأن ينظر بعين بصيرة إلى الخطر الذي يتهددها ويتهدد مستقبلها في المغرب. والتمست منه الرسالة أن يجتهد للإجابة لهذا الطلب الذي تضمنته وألا يمانع في الاستجابة، كما أكدت له في آخر الرسالة أن هم الجماعة هو النصح لله تعالى، طلبت منه ألا تذهب به الظنون السيئة والتحليلات لقراءة هذه الرسالة وهذا الموقف من الإخوة في غير ما أرادوا من النصح الجميل لقيادة الحركة. فقرة من فقرات الوثيقة لم يكن الإخوة يتصورون في يوم ما أن جماعة تهدف إلى إقامة الحق والدعوة إليه تحدث فيها مثل هذه الأمور، فكانت صدمة عنيفة أحدثت اضطرابا عميقا في وسط الإخوة نتج عنه ما يلي: أ - الدارالبيضاء: معظم الإخوة التزموا بالجماعة وتابعوا المسؤولين الجدد، لكن منهم من تابع عن اقتناع ومنهم من تابع بدعوى الالتزام بالأصل وعدم الخروج عن طاعة الأمير، غير أن الملاحظة الأساسية هي أن معظمهم غير مطمئنين جماعة من الإخوة تابعوا الستة، وعزموا على إنشاء حركة جديدة على هدى من الله وإن كانوا يعلنون أنهم مستعدين للتبين في أي وقت طلب منهم.... ب- الرباط: انتظر الإخوة بشوق كبير معرفة أسباب الفتنة، ولكن بعد رجوع نور الدين دكير سكت ولم يرد الإدلاء بأي شيء، فتأثر الإخوان لذلك وقرروا تكوين التجمع والبحث عن مصدر الفتنة بخطوات أعلنوها بعد ذلك. أفاق فتحتها الوثيقة أشارت الوثيقة إلى بعض المعطيات الجديدة التي تحتاج إلى تدقيق، فالوثيقة تتحدث عن ثلاث تسميات لتكتلات تحتاج إلى شرح: - الأصليون وقد وردت في سياق شرح موقف جماعة التبين، لكن عبارات الوثيقة تترك مزيدا من الغموض حول المراد بهذا التكتل؟ وهل مجرد اسم لمجموعة التبين؟ أم أنه يعني تجمعا آخر داخل الشبيبة الإسلامية كان موقعه بالرباط. - تحدثت الوثيقة عن عزم الستة إنشاء جماعة على هدى من الله ووضعت الاسم بين مزدوجتين، وهو ما يعني ضرورة البحث التاريخي في هذا الجماعة وهل كانت مجرد فكرة؟ أم أنها بالفعل انطلقت وكان لها أتباع؟ - تعرضت الوثيقة لاسم جماعة الدعوة وصفتها بأنها تقتات من الماء العكر وتستقطب الإخوة مستثمرة حدث الفتنة وأن بشار علال هو من يقوم عليها وأنه بدأ العمل من البيضاء ثم امتد نشاطه بعد ذلك في الرباط، وأن الانتقاد الأكبر الذي كان يوجهه للشبيبة الإسلامية أنها حركة سياسية وليست حركة دعوية، وهو معطى يحتاج أيضا لمزيد من التدقيق التاريخي. - تحدثت الوثيقة عن سفريتين إلى الحج للقاء مطيع قام بالأولى محمد بيرواين وعبد العزيز هاشمي، وقام بالثانية مصطفى المعتصم ولحسن لشكر، هما تؤكدان أن الهدف من ذلك ليس هو تنصيب قيادة جديدة للستة، وإنما تسريع عملية سحب البساط من تحت أرجلهم، ذلك أن الخلاف سيبقى قائما حول من هم قيادة الخط الثاني؟ وهو السؤال الذي اختارت في الإجابة عنه كل الشهادات التاريخية، فمن قائل غنه عبد الحميد أبو النعيم ومحمد بيرواين، ومن قائل إنه مصطفى المعتصم ولحسن لشكر، ومن قائل إنه نور الدين بن حجر والمجموعة. والوثيقة التي بين أيدينا تقربنا من تفسير مقبول لهذا الاختلاف، إذ أن هم مطيع لم يكن تنصيب قيادة جديدة بقدر ما كان هو التخلص من الستة. في الأسبوع القادم نص جواب عبد الكريم مطيع على جماعة التبين