جاء نبأ وفاة الأستاذ الحاج علال العمراني رحمه الله بداية هذا الشهر ليفتح معه سؤال التاريخ المنسي والمجهول للحركة الإسلامية المعاصرة بالمغرب، حيث بدأ جيل المؤسسين يرحل دون أن يخلف وراءه سجلا موثقا، اللهم إلا من شذرات تغطي المحطات الكبرى وتقصر عن إماطة اللثام عن جوانب ملتبسة وشائكة من هذا التاريخ، بل إن عوامل الزمن وتلاحق الأحداث فعلت فعلها في ذاكرة العديدين ممن سمحت اللقاءات الثنائية من الاستماع لشهادتهم وقراءتهم للتطورات التي عرفتها الحركة في تاريخها، حيث تلمس الأسى على ضياع كثير من التفاصيل ونسيان كثير من الوقائع واختلاط كثير من الأحداث، هذا دون الحديث عن الجهد المطلوب لتحليل ودراسة هذا التاريخ واستخلاص القوانين والسنن الناظمة لحركته، ذلك أن هذا العمل التحليلي والتركيبي في الآن نفسه، يبقى رهين توفر المعلومة التاريخية، وفي حالتنا تتسم بالندرة الشديدة، حيث لا تتجاوز المحاولات التأريخية حدود عدد أصابع اليد الواحدة، مع كونها بقيت مشوبة بالاعتماد على الذاكرة في استعادة الأحداث مع ضياع الكثير من الوثائق بسبب ظروف الملاحقات والمتابعات الأمنية. الحاج علال العمراني: حالة اسثناء خصوصية حالة الأستاذ الحاج علال العمراني، المولود سنة 1945 بتاونات وخريج التعليم الأصيل بالقرويين، تنبع من كونه يمثل أحد الاستثناءات التي حافظت على ذاكرتها متقدة تجاه أدنى التفاصيل في تطور الحركة، خاصة ما جرى بين التأسيس الأول ممثلا في جمعية الشبيبة الإسلامية (1972) والتأسيس الثاني ممثلا في الجماعة الإسلامية (1981)، ورغم أهمية شهادته على تلك المرحلة، فقد بقي رافضا للتحدث عنها، مكتفيا بالإحالة على أشخاص آخرين من قادة تلك المرحلة، لا سيما بعد أن ظهرت بعض الكتابات المغرضة والمتواطئة، وأخذ تاريخ الحركة يظهر وكأنه حقل ألغام شديد لا يتوقع أحد النجاة إذا ما انزلق إليه، تعمل على إشاعة نظرة سوداوية عاجزة عن الاستيعاب الكلي لمسار التراكم العام لأداء الحركة، ومنكفئة على حسابات وسجالات قديمة لم تستطع التحرر منها للتفاعل مع مستجدات وتطورات الحاضر، دون أن يعني ذلك السقوط في نظرة مثالية طهرانية تختزله في بعض المحطات المشرقة، وهي الموازنة التي اتسمت بها شهادة الحاج علال العمراني، بعد أن تيسرت فرصة لحوار مطول معه في مارس المنصرم، ولم يكن محكوما بهاجس الحديث عن مذكرات ذاتية للنشر، بقدر ما كانت هناك الرغبة في التوقف عند محطات فاصلة من خلال ما عايشه من تجارب بين التأسيسين، وذلك بنفس يطغى عليه نكران نادر للذات، وتعال عن الارتكاس في مهاوي تصفية حسابات شخصية تاريخية، وتدقيق معطيات شهادات شخصيات من الجيل نفسه، منها من قضى نحبه، ومنها من ينتظر. وبرغم ما كان يعتصر الأستاذ الحاج علال العمراني من ألم تقليب مواجع في ذلك التاريخ، إلا أنه في الوقت نفسه، ينقلك بما يرويه من وقائع لتعيش لحظات مشرقة ومجهولة من تاريخ الحركة ومفتقدة في واقعها الحالي، ورغم أن السعي لنشر تلك المعطيات لم يكن مبرمجا في الفترة الحالية، حيث كانت النية استثمارها في عمل تركيبي أشمل، إلا أن وفاته كانت دافعا للإسراع بصياغة بعض من تلك المعطيات مع تعزيزها بمعطيات من لقاءات أخرى، وتقديمها للجيل الحالي من الحركة الإسلامية على اختلاف فصائلها ومكوناتها، أملا في دفع المهتمين من أبنائها للعودة لتلك المرحلة واستنطاق شهادات ما تبقى من قيادات، وأملا في أن يكون سيرنا مرتكزا على وعي نقدي بتاريخ الذات. حيثيات التأسيس الأول يعود تأسيس العمل الإسلامي في صيغته الحركية إلى الجهود الأولى التي انخرط فيها عبد الكريم مطيع منذ نهاية الستينيات، وتبلورت بوضوح مع مطلع سنة ,1970 وتحديدا في الشهر الثاني من تلك السنة بمدينة الدارالبيضاء، في وقت كان المغرب يعرف انتعاش نشاط فردي لعدد من الدعاة في مدن مختلفة إلى جانب جماعة التبليغ، وأثمر مخاض التأسيس بعد سنتين التمكن من تجميع وتوحيد وتأطير عدد من تلك الجهود، والانخراط في تأسيس جمعيات قانونية حاضنة لمختلف مجالات وأوجه العمل الإسلامي، وأهمها جمعية الشبيبة الإسلامية، التي تأسست في 22 أكتوبر 1972 واحتضن مقر جمعية أنصار الإسلام أشغال الجمع التأسيسي، وجمعية شباب الدعوة الإسلامية (1973)، والتي رأسها في البداية عبد الكريم مطيع وخلفه القاضي برهون بدءا من سنة .1976 وقد كان الشيخ زحل يشغل فيها منصب كاتب التوجيه الإسلامي، وكان مقرها بعين الشق، وجمعية خريجي مدارس المعلمين الإسلاميين، والتي كان من نشطائها الأستاذ عبد اللطيف عدنان وأحمد الديني ومحمد الرامي وعبد الرحمن الزيداني، وجمعية الشباب المسلم، فضلا عن إطار لعمل الأخوات، ومن أواخر ما تم تأسيسه جمعية طلائع الإسلام، وذلك في 30 يونيو 1975 بالبرنوصي بالدارالبيضاء، ورأسها محمد نجم الدين، ولم يقع تبني اسم الشبيبة الإسلامية كاسم جامع تتميز به الحركة إلا بعد يناير .1976 وقد جاء انخراط الأستاذ علال العمراني في الحركة الإسلامية في سنة ,1972 وذلك على إثر نشاطه كخطيب جمعة منذ 1971 في ما كان يسمى بمسجد العمارة 17 بحي بورنازيل (حاليا حي مولاي رشيد عمالة بن مسيك سيدي عثمان) وذلك بعد التحاقه بدءا من موسم 1969 1970 للتدريس بإعدادية المستقبل أستاذا للسلك الأول لمادتي التربية الإسلامية واللغة العربية، وقبل أن يلتحق بمدينة الدارالبيضاء درَس بجامعة القرويين وبعدها المدرسة العليا للأساتذة، ومن العلماء الذين درس على أيديهم الفقيه الغازي الحسيني. وأهلته دراسته في التعليم الأصيل لأن ينخرط بكثافة في مجال الوعظ والإرشاد والدعوة في المساجد، وقد بقي خطيبا في ذلك المسجد إلى غاية نهاية 1981 بعد اعتقاله. وبعد التحاقه بالحركة وتميز نشاطه تحمل مسؤولية النائب الثاني في المكتب الوطني لجمعية الشبيبة الإسلامية، حيث كان الرئيس هو عبد الكريم مطيع ونائبه إبراهيم كمال، وقد كان المكتب الوطني للجمعية موسعا، حيث فاق عدد أعضائه الثلاثين، والملاحظ أن تأسيس الجمعيات ارتبط بقطاع المعلمين، والذي بموازاته كان يشتغل كل من قطاعي العمال والطلبة، كما كان في تلك المرحلة يغلب عليها الطابع التلاميذي، وعمل القطاع الأول على الاحتضان التربوي لعمل القطاعين الآخرين سواء من خلال إيواء الجلسات التربوية في المنازل أو من خلال الدروس المنتظمة في مقرات الجمعيات أو من خلال إعداد البرامج والمواد التربوية، وذلك في ظل دور محوري لعبد الكريم مطيع، حيث كان المشرف الرئيسي على كل من قطاعي العمال والطلبة ومرتبطين به مباشرة. موجة تأسيس الجمعيات هاته كانت تعبيرا عن الانتقال إلى مرحلة جديدة في عمل الحركة، والتي لم تكن قد اتخذت عنوانا جامعا لها في تلك المرحلة، وهي مرحلة ارتبطت من جهة أولى بتجاوز وضعية العمل الفردي والجزئي إلى إرساء قواعد العمل الجماعي، وذلك بعد فترة من العمل المسجدي والتربوي، ومن جهة ثانية بالحاجة لتأمين العمل الإسلامي في ظل ازدياد قوة النشاط اليساري وبروز احتمالات التوتر في العلاقة معه، مع الإشارة إلى أن هذا التأسيس كان سابقا عن الإعلان عن سنة البعث الإسلامي من طرف الدولة في سنة ,1973 وضاعفت هذه العملية من قدرة الحركة على الامتداد في المجتمع وبلوغ فئات متنوعة، خاصة بعد إنشاء جمعيات تخصصية لأساتذة الاجتماعيات أو اللغة العربية، أو غيرها. كما كان هذا التأسيس خطوة للبناء على التراكمات التي خلفها نشاط عدد من الدعاة والوعاظ والعلماء في عقد الستينيات، وهي تراكمات أخذت تخفت وتتراجع بالمقارنة مع قوتها عند الانطلاق، ومن ذلك حالة جمعية أنصار الإسلام، التي أسسها الفقيه زين العابدين بنعبود سنة ,1960 ورأسها بعده الشيخ محمد مفضال السرغيني، وكان مقرها بشارع محمد الصباغ بدرب الكبير بالدارالبيضاء، وشكلت لسنوات ملتقى للعلماء والدعاة بالدارالبيضاء، حيث عملت الشبيبة على إحيائها بدءا من سنة 1971 لتستعيد بذلك نشاطها الدعوي، حيث وجهت الحركة أبناءها لحضور دروس الجمعية التي كان يلقيها الفقيه محمد مفضال السرغيني، وقد كان رئيسا لفرع رابطة علماء المغرب بالدارالبيضاء وتوفي في سنة ,1982 وفي دروس الجمعية بدأ يبرز الجيل الأول من شباب الحركة، والذي تحمل عبء التدافع مع اليسار في الثانويات والجامعات، وشهد مقرها تأسيس جمعيات جديدة كالشبيبة وشباب الدعوة. العمق التربوي... الشواطئ دمعة واحدة اصطبغت الحركة منذ تأسيسها بنهج خط قوي في العمل التربوي، ارتكز على المنهج السلفي، وكانت كتب العقيدة السلفية، كرسالة أبي زيد القيرواني وفتح المجيد ورسائل ابن تيمية وشرح العقيدة الطحاوية وكتب السيرة النبوية ومواقف الصحابة وكتابات سيد قطب ومحمد قطب، من مثل معالم في الطريق، وشبهات حول الإسلام، تمثل أساس المرجعية التربوية والعقدية، ومادة إعداد الدروس والمواد الدعوية للجلسات واللقاءات، كما سارت الحركة نحو زرع نفس التميز والسمت الإسلامي في أبنائها والحرص على الالتزام الفردي بالأخلاق والآداب الإسلامية، وهو حرص كان يبلغ مستوى عاليا بالنسبة للمسؤولين باعتبارهم في موقع القدوة بالنظر لباقي أبناء الحركة. واعتمد في ذلك تكثيف برامج التأطير والرعاية التربوية، وإرساء قواعد صيام الإثنين والخميس والأيام البيض من كل شهر، وإحياء سنة قيام الليل والتهجد، والحرص على إعمار المساجد، التي كانت قد أصبحت كالأشباح لا يعمرها إلا بعض من كبار السن. ومن الوسائل التربوية التي نشطت في تلك الفترة تنظيم المخيمات الصيفية، والتي غطت في بعض الفترات الشواطئ الممتدة من واد لاو في الشمال على البحر المتوسط إلى الجنوب في أكادير، ومما يذكر الحاج علال العمراني بتأثر عن تلك المرحلة القولة التي تلخص هذا السمت من طنجة إلى الكويرة... الشواطئ دمعة واحدة، بسبب مما تعرفه المخيمات الصيفية من قيام لليل يكثر فيه البكاء والتضرع لله سبحانه وتعالى. وقد شكلت مسألة المنهج والتصور الواضح للعمل أحد الأسئلة المعلقة، حيث يعسر أن تجد عند قدماء الشبيبة الإسلامية جوابا عن مدى وجود وثائق مكتوبة توضح طبيعة الأرضية التي انبنى عليها تأسيس الحركة، والأسباب التي ساهمت في التباس وضوح الخلفية التصورية للحركة. مصطفى الخلفي