لو لم يتوافق الناس على قوانين يتعاملون بناء عليها، و يتحاكمون إليها ، لظلوا فرادى مهما تكدست أعدادهم و أغرابا مهما طال زمن تجمعهم ، فهي التي تحدد العلاقات بينهم و تبسط الأمن بين ظهرانيهم. و احترامهم لها و مداومتهم على تطبيقها هو الذي يجعلها أعرافا متجذرة في عاداتهم و ضمائرهم. و ابتذال القوانين بالإدمان على انتهاكها ، بالاحتيال عليها و القفز فوقها يحولها في صدور الناس إلى بركان مكظوم من الخيبة و الإحساس العنيف ب الحكرة و الظلم. هذا الذي نسميه الفساد، ينخر في عظام المجتمع حتى تتفتت رمالا تتوهج من الغيظ، و تظل محبوسة في جلود أصحابها كقنابل موقوتة تنفجر في لحظة غير منتظرة، لتتطاير كالمسامير بل كالسواطير ...! وتهيج بحارا من الأدوات القاطعة التي تقطع كل شيء و تدمي كل شيء، و تعلق إنسانيتنا على قطعة من حديد صدئة معقوفة كعلامة الاستفهام لنبحث من جديد على قوانين نتفق عليها و نحتكم إليها لنسترجع إنسانيتنا لأننا نعرف أنهالا تترعرع إلا في اللاعنف و اللاظلم. تراكم الظلم يولد العنف المحظور المذموم الذي يطلق الغرائز من عنانها و يحذف الفضل الذي لدينا على سائر المخلوقات و يجعل منا مجرد كائنات تحمل قرونها و أنيابها في أيديها. عندما نتبع هذه الغرائز نراكم من الظلم ومن الثارات (...) في فترة قصيرة أضعاف ما عانيناه على مدى فترات أطول. بل إن المجتمع الذي ينزلق إلى العنف و لو بشكل مؤقت يتخلى عن ماهيته كمجتمع ، و حتى عندما تتدلى حبال العالم لتنتشله من أعماق هاويته فإنه يصعد تاركا روح مجتمعه هناك لأنها تحتاج إلى أكثر من مجرد حبال لتطفو على وجه الحياة من جديد. ولهدا عندما كنت أتصفح أخبار العالم على الأنترنيت انزعجت و تألمت من مشهد مواطنين يهوون على مواطنيهم بالضرب إلى حد الموت و حرق الجار جاره حيا و تقطيع أجسام الخصوم و تهجير عشرات الآلاف من الأسر البئيسة من ديارها ليزدادوا بؤسا و تألمت بقدر أكبر من الدعوات النزقة من طرف بعض الإعلاميين لاتخاذ ذلك نموذجا يحتذى من أجل إحداث التغيير في العالم العربي (!) باسم الديمقراطية تساق القطعان إلى هدر المزيد من إنسانيتها و قد هيجت حساسياتها القبلية و الطائفية و الطبقية فيفترس بعضها بعضا، لأن ذلك يسهل على بعض أصناف الأحزاب/القبائل و القبائل/الأحزاب والأحزاب /الطوائف و الطوائف/الأحزاب أن تصل إلى الكرسي المنشود وقد أعفت نفسها من العمل الطويل و العميق ليس فقط لبناء وطن بل وخصوصا لبناء مواطنين . فلا مواطنين بدون هيئات مواطنة و لا ديمقراطية بدون أحزاب ديمقراطية و مضطلعة بدورها في التأطير و التغيير العميق لا التغيير الخاطف الكاذب.. باسم الحرية، كان الطوفان الأحمر الذي أغرق وأوحل و أرعب، و خنق كل صوت مخالف ، و ظل عقودا طويلة جاثما على الصدور بعنفه و وهمه و جشعه الدفين، ساحبا في كل نفس من أنفاسه ما بقي من حرية ... محطما رقما جديدا في الديكتاتورية.. يردد هؤلاء المتحمسون للتغيير الأحمر المثل القائل : لابد أن تكسر البيض كي تصنع العجة . عندما تتشكل في البيض أجنة الفراخ تفوح منه رائحة كريهة إذا انكسر، و لكن إذا احتضن الوقت اللازم و بالرفق اللازم و الدفء اللازم أعطى ماهو أفضل و أدوم و ألذ من العجة ...فما أعظم الفرق بين بيض مكسور على الرصيف و بيض ينشق لتخرج منه الحياة.....