1 "" سار في موكب تشييع جثمان أبيه، إلى مثواه الأخير، صامتا و بيده عمامة صفراء يرفعها ثارة لترفرف كعلم فوق رؤوس المشيعين و يخفضها تارة أخرى ليضمها إلى صدره بكل قوة و حرارة. وصل الموكب إلى مقبرة الشهداء، شهداء الكفاح ضد الظلم و الميز الطبقي و العنصري، و صلوا صلاة الجنازة على الشهيد الجديد، ثم دفنوه و ولوا عائدين إلى بيت الجنازة بعد أن أتلوا عليه ما تيسر لهم من الذكر الحكيم. كان نواح النساء يحوم في فضاء الدوار الرهيب كالشفرة الحادة يطعن كل دابة يصل إليها فتموء أو تعوي أو تنهق إلا الرجال لم يعرف طريقا إلى وجدانهم، إذ جفّت و عقمت مشاعرهم من كثرة ضحاياهم. لذلك لم يتأثروا بنواح نسوانهم، و توجهوا مباشرة إلى قاعة منفردة في فناء البيت ليقرروا شيئا خطرا. * هذه عمامة أبي أحملها علما فوق رأسي من بعده، فمن منكم معي؟ هكذا كانت أول كلمات ابن الشهيد. فأجابه الجمع: * كلنا فداء الشهيد، و كلنا معك. فتابع قوله بشيء من الحماسة و الانفعال: * أنتم تعلمون كم صبرنا و تحملنا من مظالم و إهانات، كما أنكم تعلمون كم ناضل و قاوم أبي، رحمه الله، في سبيل استرجاع أرضنا، التي استولى عليها الحاج عمر، و هي كانت مصدر رزقنا، مما أودى بحياة أبي. و قد وقفت إلى جنبه، رغم أنني لم أكن دائما موافقا على قراراته. لكن اليوم و قد بات هو الآخر شهيدا لمظالم الحاج فإني سأنهج سياسة مقاومة تختلف عن نهجه لاستراجاع أرضي و حقي.. قاطعه الجمع بأصوات حماسية مشحونة بالغضب و نفوذ الصبر على مظالم الحاج عمر: * نحن معك في أي طريق تختاره.. و تابع ابن الشهيد خطابه الحماسي في الجمع عبّر فيه عن رأيه من السياسة السابقة و نتائجها السلبية عليهم و أنه لا حل لهم إلا مواجهة الظالم، بطرق جديدة، ما دام لا يريد الحوار البناء و إرجاع الأراضي لأصحابها. و اتفق الجميع على أنه لا بد من استخدام سبل جديدة لمواجهة الظالم. لكن اتفاقهم بالاجماع على ضرورة نهج سياسة المواجهة لم يخلوا من تضارب الأفكار فيما يخص أساليب هذه المواجهة. فهناك من نادى بحمل الفأس جهارا و هناك من اقترح مبدأ التقية و التريث إلى أن يكتمل النصاب.. قيل الكثير و اختلفت الآراء حتى هددت مجمعهم انشقاقات و كادوا ينصرفون أحزابا و جماعات متفرقة بعدما كانوا قبضة واحدة. لكن حكمة ابن الشهيد، الموروثة عن أبيه، جعلتهم يقتنعون في الأخير برأيه الملخص في المقاومة السلمية أو ما يسمى في مصطلحات السياسة المعاصرة بالعصيان المدني. فالحاج عمر فلاح ثري يملك أكثر من نصف السوق الأسبوعية للقرية، و يملك مخازن تجارية لبيع الأسمدة و المعدات الفلاحية و له أطماع في مشيخة القبيلة. فإذا قاطعوا تجارته و عزفوا عن المشاركة في اختيار شيخ القبيلة فإن تجارته و طموحاته السياسية ستكسد، الشيء الذي سيُلفت أنظار السلطة إلى ما يحصل بالدوار و بذلك تكبر القضية و كما يقال في المثل الشعبي: "كبرها تصغار". بالطبع كان هناك من عارض المقاطعة بسبب ما رآه منطقيا حيث أنهم يقتنون كل ما يحتاجونه في حياتهم من السوق و مقاطعتها ستتسبب في ضرر لهم و لأسرهم. غير أن ابن الشهيد أقنعهم بنهج سياسة الاكتفاء الذاتي أي العمل على إنتاج كل ما يحتاجونه بأنفسهم و المتاجرة فيما بينهم بالمقايضة. و عارض طرف آخر بحجة أن الحاج له رجال و أعوان علاوة على علاقته الحميمة بالشيخ و قد يستخدم رجاله و نفوذه لإرغامهم على نقض هذه المعاهدة. فكان الجواب عليهم بأنهم لن يقترفوا شيئا مناقضا للقانون فقعودهم في بيوتهم أو عدم ذهابهم إلى السوق أو إلى الإدلاء بأصواتهم لا يتعارض مع القوانين المعمول بها. و أعوانه و الشيخ مهما كان جبروتهم إلا أنه لم يفقدهم صوابهم ليقتحموا حرمة البيت التي يحميها القانون. و إن سولت النفس لأحدهم فعل ذلك، فإنهم يعلمون علم اليقين، أن الجميع سيخرج للمواجهة و ساعتها لن تكون النتائج في صالحهم. و تفرق القوم بعد إبرامهم معاهدتهم التاريخية لمواجهة الظلم و الطغيان. ليلتها استعصى عليه النوم من كثرة الهواجيس و الأفكار السوداء التي خيمت عليه. إذ كان يعلم أن بعض القوم قد يتخاذل في تنفيذ ما اتفقوا عليه بعامل الرهبة المتجدرة فيهم، منذ نعومة أظافرهم، من شخصيتا الشيخ و الحاج عمر، أو تحت سلاطة لسان زوجه.. الأسباب كثيرة و النتيجة ستكون وخيمة عليهم جميعا. مع صيحة أول ديك غادر فراشه إلى حقله الصغير المتواجد بين حقول أخرى صغرت أو كبرت منه بقليل. شمر على ساعديه و هم بتنفيذ سياسة الاكتفاء الذاتي، لكنه توقف لبعض الوقت إذ تلاوح له في الظلمة سير شبحين أو ثلاثة باتجاهه. ثم تلاوحت له مجموعة أخرى فأخرى و مع فيصل نور الفجر ازدادت الأشباح وضوحا، فارتسمت على شفتيه ابتسامة ارتياح و شرع بهمة و نشاط في عمله. 2 جلس الحاج عمر، و علامات القلق واضحة على وجهه، وسط مجموعة من أعيانه و و الشيخ ليتباحث معهم الحالة الخطيرة التي وصلت إليها الأوضاع بالدوار. و قد سألهم سؤالا واحدا يتعلق بالحل المقترح للخروج من الورطة و تحقيق ما يهدف له من استلاء على باقي الأراضي. لكن أحدا ما تجرأ على النطق في حضرته لكونهم يعلمون أنه لا يحب إلا ما يطرب أذنه. و في مثل هذا الموقف الحرج لا أحد يعلم بما قد يرضيه من إجابة. و حتى لا يسقطون ضحية لغضبه العنيف فقد لزموا الصمت في انتظار أن يجيب هو على سؤاله، ثم يقومون هم بمدح عبقريته و ذهائه و حنكته السياسية طمعا في رضاه و.. هداياه. هكذا كان طبعهم و أساس بنيتهم السيكولوجية. غير أن هذه المرة قد اختلف الحال و عزم هو على أن يجيبوا هم على سؤاله لا هو، فخاطبهم بانفعال غير خفي: - انطقوا يا أعوان آخر الزمن.. افتوا علي برأي..أم تحسبون إن انتصروا سيرحمونكم؟ هنا تجرأ مساعده الخاص و تفوه بكلمة واحدة بدت كأن لا علاقة لها بالموضوع: * السد.. * ماذا..؟ * السد.. يا سيدي.. * أفصح.. ما ذا تقصد؟ و أفصح مساعده الخاص أخيرا عن قصده، بعدما تشجع بنبرة في صوت سيده، التي لا يعرفها إلا هو بحكم خبرته في خدمته لسنين طويلة. و كانت فكرته حول بناء سد بين المرتفعين الموجودين على غير مبعدة من الأراضي المتبقية، التي يطمع في احتوائها سيده، و التي اعتمد عليها أهل الدوار لتنفيذ سياسة الاكتفاء الذاتي أي العصيان المدني و مقاطعة سيده و إجباره على الخضوع إلى مطالبهم. في البداية لاقت الفكرة معارضة من طرف الجمع، لكن المساعد الخاص دافع عنها بإيمان هستيري و إصرار المتعصب. و أوضح لسيده بأن السد سيغرق الأراضي من حوله و أنه لن يحتاج شراءها من أصحابها، و بمساعدة من الشيخ سيدفع تعويضات هزيلة لهؤلاء العصاة. و عندها ستصبح هذه الأراضي ملكا له، و لن يبقى غير هدّ السد و تجفيفها. كما أعرب عن إيمانه بأنّ هؤلاءالأوباش سيرضون بالتعويضات مهما هزلت، إذ لن يعود أمامهم غير هذا الحل. و في حالة رفض بعضهم فإنهم سيكونون في عزلة كالخرفان الضائعة داخل الغاب. بعد تبصر و تفكير عميق اقتنع سيده الحاج عمر بفكرته و أعطى تعليماته، في شكل طلب، للشيخ باتخاذ الإجراءات اللازمة للشروع في إنجاز بناء السد. 3 عندما وصل الخبر إلى أهل الدوار ثارت ثائرتهم و غلا الدم في عروقهم و تطاير الشرر من أعينهم و انطلقت ألسنتهم تتفوه نارا. لكن الغضب ليس خير حليف في مثل هذه المواقف الصعبة و الخطرة، لذلك طلب منهم ابن الشهيد الهدوء و الرصانة في التفكير و التدبير. و جاء مطلبه عسيرا عليهم غير يسير، لكن احترامهم لروح أبيه و له جعلهم يمتثلون لطلبه و كأنه أمر من قائد حازم لا يجرؤ أحد على محاججته. و عندما هدأ الوضع و سيطر الصمت في أجواء الاجتماع قام ابن الشهيد مخاطبا صحبه: - طبيعي أن تغضبوا و تثوروا، لكن الغضب لا يعضي النتائج المرغوبة. فبشيء من الحكمة و التبصر قد نخرج من هذه الأزمة منتصرين على القوم الظالمين. و شرع في تفسير ما يرمي إليه من تكيتك يوقف الحاج عمر و أعوانه عند حدهم، و ذلك بمهاجرة دوارهم و الانتقال إلى حقولهم المهددة بالغرق مع أسرهم و نصب الخيام بها. في هذه الحالة سيعجز الشيخ على مساندة الحاج عمر خوفا من الفضيحة و السلطة المركزية، بل إن الحاج نفسه لن يتجرأ على الشروع في إنجاز ما خطط خوفا من الرأي العام و الصحافة، خصوصا و أن الانتخابات على الأبواب. و وعدهم بأن يستدعي الصحفيين الوطنيين و الأجانب لتحويل القضية من محلية إلى وطنية و دولية. لكن عليهم أن يسرعوا و يباشروا تنفيذ المخطط الليلة و بسرعة و أن لا يأخذوا معهم إلا الضروريات من حاجياتهم. و رغم أن معظمهم كان يؤمن بسلاح القوة، إلا أن التجربة زودتهم ببصيرة مكتسبة لا تقل حكمة عن تلك الموروثة لدى ابن الشهيد. فهم يعلمون أنه لا ينطق عن الهوى، و أنه ما دعاهم لأمر إلا و صارت الأمور لصالحهم. لذلك كل منهم سيطر على عواطفه و مشاعره و أخضعها لسلطان العقل و التجربة التاريخية و غادروا اجتماعهم كل إلى أهله ليستعد ليوم الغد، حيث تبتدئ المعركة المصيرية و الحاسمة، من يتنصر فيها يكون انتصاره إلى الأبد. 4 استيقظ الحاج عمر على طرقات عنيفة بباب داره، فقفز من فراشه مذهولا و هرول إلى الباب حافيا و عاري الرأس. * من الوغد الذي يطرق بابي بهذه الوقاحة؟ * أنا يا سيدي.. جئتك بأمر خطير.. فتح الحاج بابه لمساعده، الذي أفجعه، قبل أن يدخل، بخبر معسكر أهل الدوار. ففهم لتوه أن مثل هذه الفكرة الجهنمية لا صاحب لها إلا ذاك ابن الكلب. كما لم يغب عنه ما يريد تحقيقه من وراء المعسكر. و على غير عادته لم ينفعل و لم يطلق العنان لغضبه، بل بقي هادئا و إن ظهرت عليه علامات التفكير العميق. عاد إلى غرفته بخطوات بطيئة دلت على أنه سيتخذ قرارا مهما. بعد أن لبس جلبابه و وضع عمامته على رأسه خرج إلى مساعده آمرا إياه بإحضار الشيخ للتشاور معه في أمر هام. حضر الشيخ و معه بعض أعوانه، و بدت علامات الاضطراب واضحة على تقاسيم وجهه. إلا أنّ الحاج هدّأه و أفهمه أن الغرض من طلب حضوره إنما للتشاور معه في أمر ابن الكلب، و هو لم يكن يذكر ابن الشهيد أو غيره، من أهل الدوار المستضعفين، سوى بهذه الصفة. ارتاح الرجل بعض الشيء، رغم أن القلق بقي ملازما له لكونه لا يعلم على ماذا ينوي الحاج هذه المرة، و كل مجهول مُخوف. شرع الحاج عمر في شرح فكرته للشيخ، و هما جالسان على صينية شاي الصباح، التي تمحورت في محاولة شراء ضمير ابن الشهيد بعروض مغرية بحيث لا يستطيع الرفض. فكان جواب الشيخ بالرضى رغم أنه لم يكن يعرف بماذا سيغري هذا العاصي الجحود. لكن الحاج طمأنه بقوله: * ماذا يريد ابن الكلب؟ أليس أرض أبيه؟ فليكن له ذلك.. بل أعطيه فوقها ابنتي زوجة له على سنة الله و رسوله.. * و هل فكرك يرضى بذلك؟ * و لما لا؟! إنه لن يحقق هدفه فحسب بل سيصبح صهرا لي و أبا لأحفادي، و أنت تعلم ماذا يعني له أن يصبح واحدا من أسرتي. فالحكمة تتطلب منّا مصاحبة من لا نأمن شرّه. فكّر الشيخ إفهام الحاج بأن الأمر ليس بتلك البساطة و أنه لا بد من وضع احتمال الرفض من طرف هذا العنيد، لكن شيئا، لم يستطع تحديده، جعله يتراجع عن عزمه و ردّ عليه بقوله: - بالطبع، هذا شرف له لم يكن يحلم به، فبعدما كان في الوحل سينتقل إلى دنيا الأسياد. طبعا ما أظنه برافض. و انفض جمعهما باتفاق يقر بوجوب استدعاء ابن الشهيد ليلا ليعرضا عليه ما فكرا به. 5 حضر ابن الشهيد، بمفرده، في الساعة التي حددها الحاج عمر. و لقي ترحابا بقدومه لم يخطر له بالحسبان، فقد عامله الحاج كضيف عزيز عليه. جلس الضيف في صدر الغرفة بينما جلس الحاج و الشيخ قبالته. و أحضر الخدم ما لذّ و طاب من الأطعمة و الشراب و وضعوه على المائدة المستديرة ذات الأرجل الثلاث. و من دون مقدمات،لأنّ الحاج كان يعتبرها مضيعة للوقت في مثل هذه الأمور، و بمنطق الرجل البرغماتي قدّم عرضه للضيف. لم يفاجئ ابن الشهيد هذا العرض، لأنه تنبّأ به و كان يعرف، منذ الوهلة الأولى لتوصله بعزومة الحاج له، أنّه سيحاول استلطافه و إرضاءه ما دام لا خيار له، في هذه الوضعية إلا هذا المسار. و تنبه ابن الشهيد إلى ألفاظه كلمة كلمة، و استغرب كيف أنه لم يستخدم عبارة "محاولة شرائه" أو "إغرائه" بل قال "استلطافه و إرضائه". بالطبع لم يغب عنه الفرق بين العبارات و لم يجهل دلالات الأولى من مفهوم الثانية. و هكذا تمت الخيانة في حلكة اليل الدامس و أهل الدوار نائمون مطمئنون إلى ابن الشهيد قائدهم. و بعد قراءة الفاتحة على خطوبة الضيف لابنة الحاج، تفرقوا كاللصوص قبل الفلق. تفاجأ القوم في الصباح بدعوة قائدهم للعودة إلى دوارهم، معللا موقفه بعدم فائدة المقاومة ما دام أمر الله سار على عباده مهما حاولوا المواجهة. و عندما لم يفلح في إقناعهم بادرهم بالسر الخطير الذي حمله في صدره و حاول تجنيبهم مشاركته عذابه، حيث أباح لهم أن الشيخ سيُحضر اليوم ليلا القوات المساعدة و الجنود و سيحملونهم بالقوة إلى دوارهم. لهذا و تفاديا لوقوع ضحايا، خصوصا في صفوف النساء و الأطفال و كبار السن، فإنه يناشدهم بالعودة إلى الدوار و القبول بالتعويضات المقترحة و هي أحسن من لا شيء. وقف صحبه غير مصدقين لما يسمعون من صاحبهم و قائدهم، لكن نساءهم و أطفالهم، الذين استولى عليهم الرعب من ذكر القوات المساعدة و الجنود، سيما و أنّ أحداث الدوار المجاور لا زالت عالقة بأذهانهم، لم يتركوا لهم الفرصة للتبصّر في أمره. فشرعوا في حمل الرحال للعودة من حيث أتوا. *كاتب مغربي مقيم في بيلاروسيا