عرفت مدينة بركان في يناير 84 أحداث دامية ، بسبب العنف الشرس الذي ووجهت به التظاهرات السلمية الاحتجاجية والتضامنية مع بعض مناطق الشمال. وقد خلفت تلك المواجهات شهيدين. الأول لا يتجاوز سنه عشر سنوات وهو محمد بكاوي والمدعو ولد باكورا ، والثاني سقط أثناء تشييع جنازة الشهيد الأول التي تعرضت لمجزرة حقيقة بداخل المقبرة يوم 23 يناير ويبلغ من العمر سبعة عشرة سنة وهو الشهيد أحمد يعقوبي. بالإضافة إلى عشرات الجرحى الذين كانت اغلب جروحهم خطيرة سميناهم بشهداء أحياء. "" في هذا المقال نقدم صورة حول بعض ما عرفته المدينة في انتفاضة يناير 84 ، خاصة وأن أغلب الدراسات التي تناولت انتفاضة يناير 84 ،إن لم أقل كلها لم تشير ولو بإشارة للأحداث بمدينة أبركان ،رغم أن الأحداث كانت عنيفة وخطيرة نسبة لبعض المواقع التي يتم التركيز على دراستها من اجل معرفة حقيقة ما جرى. االشهيد الطفل الأصغر محمد بكاوي لقد سقط الشهيد الطفل، بعد أن خرج في صباح ذلك اليوم المشؤوم، يبحث عن أطفال آخرين في سنه، ليمارس لعبة الدينيفري أو الراوليكا أي لعبة السجن والسجان أو لعبة الدس أي الاختفاء ، أو لعب أخرى تعرف بين أطفال الأحياء الشعبية في المدينة والمنطقة. ببراءة الطفولة، لم يكن محمد يعلم أن الموت يحوم في أزقة المدينة، حاملا معه كل ما يمكنه من قبض الأرواح من مصفحات، و بنادق بأنواع مختلفة، هراوات لا ينجو منها عظم نزلت عليه، ورجال شداد غلاظ يفعلون ما يأمرون... .يدير حركتهم العميد الجرمون القابع في قاعة من قاعات دار الشباب الوحيدة بالمدينة. لم تعرف أساطير الأولين حالة مثل هته، من دار تنتج الفكر والثقافة و تؤطر شباب الغد، تتحول إلى موقع لإقرار سفك الدماء. و قد تم احتلالها لكونها تقع في وسط المدينة و قريبة من أهم الطرق التي تتسلل منها التظاهرات القادمة من الأحياء الشعبية لتقتحم شوارع الوسط. هذا ما يشاع من قبل أجهزة المخزن ، ولكن ربما تم احتلالها بخلفية اعتبار هذا الموقع، هو موقع لسلطة الثقافة والشباب التي شكلت شوكة في حلق القائمين على أمر المدينة آنذاك، وعلى رأسهم الباشا الغازي الطاهر وعميد الشرطة الجرمون. لقد سقط الشهيد الطفل محمد بكاوي أو المدعو ولد با كورا وهو اسم لعائلة معروفة في المدينة، وذلك في اليوم الثاني للانتفاضة، وغير بعيد عن الطحطاحا المكان التاريخي للباعة المتجولين بائعي الخضر والفواكه والسمك. و بهذا الحدث الإجرامي أعلنت السلطة نقل المواجهة من حالتها السلمية إلى حالة سفك الدماء. لقد سقط أمام أعين الناس متظاهرين و مارة، وبخار الدم الساخن المتدفق من رأسه يبرز شراسة الزمن، يبرز حجم الموت الذي يملكه الحكام في هذا البلد. فكل ما كان يقال من قبل أحد المتظاهرين لرفع معنويات الشباب من أجل المواجهة بأن الرصاص أبيض وفارغ قد انتهى، و اتضح أنهم يستخدمون الرصاص الحي الذي يفجر الأجساد ويجعلها أشلاء متناثرة. ثم حملوه مرددين شعارات الانتفاضة: ( يا شهيد ارتاح ارتاح **كلنا رمز الكفاح - سجنتوهم وقتلتوهم ** أولاد الشعب يخلفوهم...) لم تتوقف المواجهات،بل ازدادت التظاهرات حماسا، وكأنها بسقوط الشهيد أضافت سببا آخر لشرعيتها، ومبررا لنزوحها نحو رد الفعل الطبيعي العنيف ضد آلة الموت التي أوقفت دقات قلب الشهيد الطفل الذي لا يملك قوة لإسقاط عصفور. يا أمه، ماذا ينتظرك في هذه الساعة بالذات ؟ وما تفعلين ؟ هل كانت لك يوما فكرة عن قوة الموت الذي يحملها ممن يفترض أنهم يحمون كبدك من شر الزمان؟ ها هم الآن ينزعوا من لحمك هذا الأمل الذي لم ينهي بعد رؤية أولى لصورة عن معنى الحياة؟ كل الناس التي حضرت المشهد، عرفت كيف هي الموت، صورتها، وحشيتها، غدرها... لفوه بين ذراعهم وخطوا به الخطوات القليلة إلى أمه، حيث لم تبعد إلا مآة الأمتار عن مكان سقوط ابنها، وربما كانت تضن أن الشهيد يلعب مع صغار الحي مثله، قريب من المنزل. احتضنته بين ذراعيها، ضمته إلى صدرها، صرخت بما تملك من قوة، سمعتها أهالي الجيران من بعيد، ولم تكن إلا صرخة لفقدان الحبيب إلى الأبد... و أبوه لم يعد له شيء آخر يمنحه قوة الاستمرار في الحياة. و من الطبيعي أنه لم يعد يحتضن أي فكرة عن الموت غير التي مورست ضد كبده ضد طفله. ينحني الرأس تائها في البحث عن سبب لتفجير هذا الجسد النحيف، هذا الملك الذي ما زال لم يتمم بعد خروجه من أسنان الحليب، طفل لا يفوق العشرة سنوات من العمر. ربما كان سؤال طبيعة الموت بدون جواب، والآن يتحقق ويوشم أثرا في الكبد، ويجعل الرأس يوقف البحث عن صورة أخرى لطبيعة الموت وآثارها في الحياة. لم تعد صور الجثث الملقاة في شوارع فلسطين أو بيروت سنة 82- 83 تشكل سببا لسؤال معنى سقوطها. أصبح الخبر شائعا، خاصة وأن عائلة الشهيد معروفة في المدينة، و تأكد أن السلطة عازمة على تنفيذ أمر جاء فيه انه لا تمييز في الأهداف، شاب كهل أو طفل أو امرأة، كلهم أوباش وكلهم يحتاجون إلى نفس مصير ولد باكورا. ومع ذلك فلم تهدأ التظاهرات السلمية، بل ازدادت عنفا واحتجاجا واستمرت، تجوب أزقة الأحياء الشعبية وتتصادم مع العسكر في بوابات الدخول إلى وسط المدينة.إلى أن احتلت الوسط وارتبكت فرائصالعميد الجرمون الذي كثف ترسانته العسكرية لمواجهة شباب لا يولي اعتبارا للموت بعدما رآها بأم عينيه وهي تسرق ذلك الطفل البريء الشهيد ولد باكورا المتظاهرين بالحجر الذي لا يسقط العصافير والعسكر بالرصاص الحي والهراوات الغليظة و العملاء والجواسيس المنتشرين في مختلف أماكن التظاهرات غير قادرين على الإفصاح عن هويتهم ، والمعروفين منهم اختبئوا في أماكن لا يعرفها إلا عالم الغيب والشهادة خاصة بعدما تعرض أحدهم إلى رجم بالحجارة و هو يمر بين أزقة أحد الأحياء الشعبية. توجه المواطنون، جيران وأقارب وغيرهم لتشيع جنازة الطفل، يترحمون على الشهيد، معلنين التضامن والتأثر مع عائلته. لكن موكب الجنازة محاطا بمن لم يأتوا لهذا الغرض، من قوات عسكرية وبوليس و عملاء متسترين يتجسسون على المشاركين في الجنازة. و أعينهم موجهة لكل شاب تبدوا فيه رائحة الانتماء إلى جيش الحجر. و الحذر بادي في عيون المشاركين في الجنازة، غير واثقين بما ستؤول إليه ألأوضاع. والأجواء مكهربة في مختلف أنحاء المدينة التي توقفت حركتها التجارية وحيويتها المعهودة. الشهيد الطفل الأكبر أحمد يعقوبي كان أحمد اليعقوبي أحد المتأثرين بالحدث الجلل، لم يكن يعلم آنذاك أنه سيكون شهيدا، ولكنه كان يعلم خطورة المشاركة في الجنازة. كان شغوفا لمعرفة ما يجري، لم يتواجد كثيرون من هم في مثل سنه، و حسب ما قال شقيقه محمد أنه كان يحمل نعليه في مرافق يديه استعداد للفرار من الموت إن بدت قريبة. تجمعت الناس حول جثة الشهيد المتوارية تحت التراب، وكل واحد منهم يحاول القيام بدوره في الدفن، يبحثون عن فرصة إلقاء حفنة من التراب على قبر الشهيد أو قطرات ماء لسقيه، يعبرون من خلالها عن تضامنهم وتأثرهم بفقدان طفل في سن لا تقوى يديه على شنق عصفور و بالأحرى إسقاط جهاز دولة، أو الإخلال بأمنها كما ورد في التهم المنسوبة للمعتقلين في ما بعد أو التي استوجبت استخدام الرصاص الحي حسب ما تبرر به الدولة جرائمها. المقبرة محاطة بشاحنات قوات مسلحة، بوليس سري وعلني، ترابط على محيط المقبرة الواقعة في حي سالم، وكأنها تتربص تحركات عدو في حجم ما تملكه من معدات عسكرية وبشرية. بعد دقائق معدودة من إنهاء عملية الدفن، وقراءة ما تيسر ترحما على الشهيد، صرخ أحد الحضور صراخا احتجاجيا. و هو يعرف في المدينة بأنه يصاب بفقدان التوازن العقلي أحيانا، و تعرفه كل دوائر الدولة من شوا ش ومقدمين و ضباط البوليس وعميد الشرطة إلى باشا المدينة. لم يتساءل حاملي الرصاص عن معنى تلك الصرخة ومن هو صاحبها، خاصة وهم يتواجدون خارج المقبرة، بحيث لا يمكنهم دخولها بالزي الذي يرتادونه، لكن يمكنهم إدخال الرصاص إليها، مادام الرصاص مرادف للموت. لم ينتظروا معرفة ما يجري حول قبر الشهيد، كل ما فهموه، هو أن الأمر الذي جاءوا من أجله حان وقت تنفيذه، فلم يتأخروا ولو لثواني معدودة، وضعوا الأصابع على الزناد، صبوا الرصاص بشكل عشوائي وسط حشد الجنازة.وكانت المعركة بل قل كانت المجزرة. كهول وشباب وأطفال يهرولون، يفرون من كل الجهات، يبحثون عن السلامة بأجسادهم حتى لا يواريها التراب كما وارى جثة الشهيد.أقدامهم لا تعير اهتماما للقبور ، رؤوسهم منخرطة في البحث عن سبيل لإنقاذ أجسادهم ... بدا و كأن الموت ترك أشغاله بداخل المقابر لينقض على المتضامنين والمتأثرين بالحدث الجلل. و يكون الشهيد بكاوي محمد الراقد تحت التراب، قد رأى كيف أن الموت الذي قبض روحه لم تكفيه جثة واحدة، ومازال مستمر في قبض أرواح أخرى.. أطلقوا الرصاص في كل الاتجاهات، إلا في الهواء فكانت الأهداف مقصودة، والدليل على ذلك الإصابات العديدة في مختلف أنحاء الجسم. و يبدوا أن الرصاص كان يهوى اختراق أجساد الشباب، حيث لم يتم إصابة أي كهل. المصابون شباب يبدوا من سماتهم أنهم تجرءوا على المشاركة في تشييع جنازة الشهيد، وكأنهم يرون أن ذلك فريضة يجب أدائها في مختلف الأحوال. و هكذا لم تقف آلة الموت في حدود المقبرة، بل توجهت إلى الحي المجاور حي سالم، لتطارد هؤلاء الفارين من الموت. تقتحم المنازل، تشرد العائلات تفتش عن فريسة في كل أركان المنزل، لتملأ شاحناتها وتنقلهم إلى المخافر السرية والعلنية. وهناك يكون محترفي التعذيب قد وجدوا عملا يمكنهم من إرضاء أسيادهم وإشباع رغباتهم السادية. لكن جثة واحدة بقيت هامدة لا تقوى على الحركة، لم يكتب لها الحظ أن تنفلت من قبضة الموت.و بقيت راقدة أمام قبر الشهيد محمد بكاوي. دمائها الساخنة تدفئ المقابر وتسقي زهورها. إنها جثة الشهيد الشاب أحمد يعقوبي. كانت صلاة العصر قد مضت، وكان جثمان الشهيد ملقى على تراب المقبرة، و إلى جانبه جثث مصابة تئن في مواقع عديدة من المقبرة تنتظر أن تتمكن الموت من القبض على روحها لتلتحق بالشهيدين. سقطوا قرب الشهيد، شهداء أحياء، بعضهم استطاع الفرار بجسده و البعض الآخر لم يتمكن من ذلك بسبب خطورة الإصابة. إصابات في الأقدام وفي البطن وفي الرأس وغيرها، وإن سلمت أجسادهم من قبضة الموت، فقد استمرت أوجاعهم وآلامهم من جراء تلك الإصابات تذكرهم بهذا اليوم الرهيب ، يوم 23 يناير 1984 تاريخ الرعب بمدينة أبركان... لقد طال الانتظار ولم يعد أحمد في وقته العادي، فبدأت الشكوك تحوم وسط العائلة و بالأخص الوالدة التي لم تكن معتادة على تأخر ابنها. فتفرق الأبناء في مختلف أنحاء المدينة للبحث عن أخيهم في مختلف الأماكن التي من المفترض أن يكون فيها، سئلوا كل أصدقائه ولا أحد يعلم مكانه. وبعد نفاذ الصبر توجهت أخته الكبرى شقية ووالده إلى مواقع المسؤولية في المدينة، حيث كما صرح مجمد كان إخوته الكبار لا يستطيعون التوجه إلى تلك المواقع بحكم ما رأوه من رعب واعتقال يتعرض له كل شاب توجه إلى تلك المواقع ولو من أجل قضاء حاجيات إدارية . وهذا حتى قبل اندلاع الانتفاضة حيث عرفت المدينة اضطرابات واسعة بسبب الإضرابات التي عرفتها ثانويات و إعداديات المدينة وفي إطارها تم اعتقال العديد من التلاميذ الذين توجهوا إلى الكوميسارية من أجل سحب ملفات الباكالوريا أو سحب بطاقة التعريف الوطنية. لا أحد من المسئولين في السلطة، اعترف بمكان وجود أحمد و كذلك مسئولي مستشفى الدراق و مستوصفات المدينة. جثة بأكملها تختفي في ظروف عنف تمارسه الدولة، و لا تعرف هذه الأخيرة مصير تلك الجثة وهل هي على قيد الحياة أم غادرتها؟. مضت خمسة أيام من البحث المضني عن أحمد في كل مكان، ليل نهار. ولم يوجد ولو خبر واحد يؤكد مكان وجوده، ، ذلك أن الغياب لهذه المدة ليس من خصال أحمد المليء بالحيوية ودفئ العلاقات الإنسانية مع عائلته و معارفه. أصبح الكل يرجح التواء الأصفاد حول يديه النحيفتين وفي أسوأ الأحوال جريح مصاب برصاص الغدر، بحكم ما كانت تعرفه المدينة من رعب وإرهاب خلف مآت المعتقلين وعشرات الجرحى. إلى أن جاء يوم 28 يناير ليتم استدعاء أخته الكبرى إلى مركز الشرطة المحلية، ويطلب منها العميد الجرمون المسئول عن تدهور الوضع الأمني بالمدينة منذ اعتلاءه عرش الكوميسارية. وبعد أن طلب منها بعض المعلومات الخاصة بالشهيد بملامحه وسنه وغيرها، تحقق بكون الجثة التي مازالت دمائها تطلي يديه هي فعلا جثة الشهيد أحمد اليعقوبي .جثة أخيها و أبلغها أنها راقدة في مستشفى الفارابي بوجدة. أنبأ الأخت بخبر النعي، ولم تعد في مخيلتها إلا صورة ذلك الشاب النحيف النشيط الممتلئ حيوية. تعالى صراخها بين جدران الكوميسارية، وسؤال واحد طال رأسها كيف يمكنها إخبار العائلة بخبر فقدان الحبيب، خاصة الوالد والوالدة الذين كانت الخمسة أيام التي مضت على غياب الشهيد تفقدهم النوم والراحة ولا شغل غير إيجاد الابن. كان خبر النعي صدمة لا تضمد جراحها بسهولة، عذاب الخمسة أيام لفقدان الشهيد، جعلت الكل يحلم ولو بفرصة رؤية ملامح وجهه، بسماته الطفولية المشرقة حركاته المرحة الدءوبة ...ولم يكن للأب إلا أن يتوجه إلى مركز الشرطة ليطلب من عميدها تسليمه جثة ابنه ليقوم بمراسيم تشييع الجنازة، وهو متأكد أن طلبه سيتحقق بدون مشاكل. لكنه فوجي بعجرفة العميد الجرمون الذي رفض بالمطلق تسلميه الجثة،مبررا ذلك بدقة وهشاشة الوضع الأمن في المدينة ما دامت الأمور لم تهدأ بعد. كان الجرمون في تلك الفترة منشغلا بإدارة عملية الاعتقالات العشوائية للمواطنين والمشتبه بهم ، من من يدعيهم بالمشاغبين في قاموسه، ويتكلف شخصيا بتعذيبهم، ويشرف على إنجاز محاضرهم بل و التنسيق مع قضاة المحاكم والنيابة العامة من أجل تشديد عقوبات السجن والغرامة عليهم. ضن الجرمون أن مجرد رفضه تسليم الجثة لهذا المقاوم والد الشهيد، سيتوجه هذا الأخير منحني الرأس بدون طرح الموضوع للسؤال. إلا أنه فوجي بإصرار والد الشهيد من كونه لا يغادر المكان إلا بمنحه حقه في تشييع جنازة ابنه، صارخا بقوة اهتزت لها جدران مركز الشرطة.