تلقيت أربع مكالمات يومي الأحد والاثنين تخبرني بموت جارنا حسن . فقد حرصت أرملته ـ رحمه الله ـ أن نحضر أنا والأخ عبد الإله بنكيران والأستاذ عبد الله بها . حسن كان جارنا جميعا أي كان جارا لحركة التوحيد والإصلاح لما كان مقرها ب 3 شارع المقاومة بالرباط قبل أن تنقل مقرها العام إلى زنقة كالكوتا ومقرا المركزي إلى زنقة أبيدجان ، وحيث أننا نحن الثلاثة قد تعاقبنا على المسؤولية في حركة الإصلاح والتجديد وعلى إدارة ورئاسة جريدة الراية ثم جريدة التجديد ، وأننا أمضينا جزءا كبيرا من أعمارنا نتردد على شارع المقاومة ـ فقد أصبح جارنا حسن قريبا منا وتربطنا به علاقة ود واحترام كبيرين . جارنا حسن رحمه الله كان شخصية من نوع خاص يحب النظافة والنظام والانضباط ، خاصة وأنه كان مساره المهني مسار عسكري وأنه أمضى جزءا كبيرا من حياته في فرنسا . ودون شك فإن مجاورة مقر عام لحركة يفد إليه العشرات يوميا ،وتنظم فيه لقاءات كثيرة مصدر إزعاج لجارنا حسن رحمه الله ، لكن ذلك لم يؤثر على علاقة بعضنا ببعض، ولم يمنعه أن يتخذ مواقف شهمة ورجولية ، ومنها ما صرح به لبعضنا من رفضه استعمال بيته لتنصيب أجهزة تنصت من قبل بعض الجهات المخابراتية عند عقد أحد الجموع العامة لحركة الإصلاح والتجديد . جارنا حسن كان مثالا للذوق والإحساس الجمالي المرهف ، لذلك كان البهو المودي إلى باب بيته ـ وهو نفس المدخل المؤدي إلى مقر الجريدة ولا يزال ـ نموذجا في النظافة وفي الجمال ، خاصة وأن جارنا حسن كان قد وضع فيه مزهريات كبرى . وقد شدتني فيه هذه الخصلة فكتبت على هذا العمود نفسه سنة 4002 مقالا تحت عنوان : جارنا حسن صاحب الذوق الحسن تكلمت فيه عن البعد الجمالي وحضوره القوي في القرآن والسنة والحضارة الإسلامية والحضارة المغربية ، وتأسفت فيه على تدهور الذوق العام ، وأشرت فيه إلى أنه لا تزال توجد ـ رغم ذلك ـ نماذج تحافظ على هذا الملمح ، فكان مما قلت في المقال المذكور : ويحس الإنسان بالحسرة والألم وهو يشاهد نماذج من انهيار الذوق العام، إذ أصبح كثير من الناس لا يبالون بالفضاءات العامة والممرات ومداخل المنازل والحدائق العمومية وغيرها من السلوكات كرمي النفايات وعدم الاهتمام بواجهات المنازل وغياب العناية بالمنظر العام للمدينة، نتيجة غياب أو عدم الالتزام بتصاميم التهيئة والتصاميم المديرية، لكننا من حين لآخر نكتشف أن الإحساس المرهف والذوق الجميل لا يزال لهما أوفياء مخلصون صامدون ثابتون على هذا الملمح الأصيل في ثقافتنا الإسلامية وحضارتنا المغربية، ومن بين هؤلاء جارنا في جريدة التجديد، الذي لم يستسلم لثقافة التلوث والقبح التي بدأت تغزو شوارعنا ومدننا، فأبى إلا أن يزين الزقاق المؤدي إلى بيته وإلى مدخل جريدتنا بمزهريات عديدة تنشر فينا البهجة وتذكرنا بآيات الجمال في خلق الله وكونه، فلهذا كتبت هذه الكلمات شكرا له وعرفانا . أسرة جارنا حسن كانت تقدم دوما بالنسبة لي نموذجا للأسرة المغربية الأصيلة ، حيث كلما تقدم السن بالزوجين إلا وازدادت علاقة المودة والالتحام بينهما وازداد التفاني في خدمة بعضهما للبعض الآخر. وقد كنت ألاحظ تلك العلاقة القوية بين جارنا حسن وزوجته إذ لم يكد يمر علي يوم وأنا داخل إلى الجريدة إلا وأجد ها تهيئ سيارته حتى تكون على أحسن وجه وتشيعه خارجا ونستقبله داخلا ، كما أنها ظلت في خدمته إلى أخر نفس من أنفاسه . موت جارنا حسن يذكرنا أن الموت يتربص بنا جميعا خاصة وأنه يقبض في كل يوم قريبا أو صديقا أو قريبا أو جارا ممن نحب .وذلك يعني أن أسماءنا جميعا موضوعة على ورقة يخط الأجل على كل اسم من أسمائنا دقا ساعته ، ومن دون شك فإنه إذا نظرنا في لائحة المشيعين فإن واحدا منهم هو الذي سيأتي عليه الدور بعد الميت الذي تم تشييعه قد يكون أنا وقد يكون أنت . لقد قال زهير ابن لبي سلمى أحكم شعراء الجاهلية عن الموت بعد أن عمر ثمانين سنة: سئمت تكاليف الحياة و من يعـش ثمانين حـولاً - لا ابا لك - يسأم رأيت المنايا خبط عشواء من تصب تـمته و من تخـطئ .. يعـمر فيهرم فالموت في نظر زهير ما هي إلا حادثة عشوائية صرفة ، و أن الموت لا يحدث إلا لأنه سيحدث ، فمن أصابه أخذه ، على الرغم من أنه يأخذ كثيراً من الذين لا يريدونه أن يأخذهم ، و يترك كثيراً من الذين يريدون أن يأخذهم ، كما هو الحال مع شاعرنا زهير ، و هو الذي عاش ثمانين سنة ، متجاوزاً بذلك معدل الأعمار في جزيرة العرب بتسعة سنوات حتى وقت تأليفه القصيدة و نشرها . لكن الإسلام جاء فصحح الموت تصور أحد أحكم شعراء الجاهلية ، الموت لا يخبط خبط عشواء كما يقول زهير بن أبي سلمى بل إنها قدر مقدور وتأتي وفق سنة وأجل لكل أجل كتاب وهي حدث وفق ناموس بما في ذلك موت الفجأة ، وإنما نسميه موت فجأة لأننا لا ندري كيف حدث أصلا او لا نعلم بسبب حدوثه إلا بعد حدوثه ، وإلا فهو يقع بقدر أي بنظام للسباب والمسببات ، وفق حكمة علمناها أو جهلناها . والتأخير في الآجال أو تقديمها لا يقع عبثا وإنما كي يتعظ الأحياء بالموت الذي قد يقع في كل وقت ويذهب بكل نفس لا يعبأ بآمالها ومشاريعها وطموحاتها، وفي ذلك عبرة أو قد يمهل حتى يعمر الإنسان طويلا وفي ذلك أيضا عبرة كما قال تعالى : أو لم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير في جوارنا لجارنا حسن عبرة دروس ينبغي أن نستقيها حركة وأفرادا حيث وجب الحرص على حسن الجوار، حسن الجوار للهيئات والحركات والمؤسسات ، والصبر على بعضنا البعض ، والأخذ بأجمل ما عند بعضنا البعض ، وأداء حقوق بعضنا البعض من كف الأذى حتى يأمن الجار بوائقنا ، وإفشاء السلام وإطعام الطعام والدعوة إلى الخير والقدوة في الخير والمعروف ، وأداء الحقوق ومنها تشييع الميت والاتعاظ برحيله ، وذكره بخير والإحسان إلى أهله . فرحم الله جارنا حسن .