مجرد رأي تعقيب على موضوع : الإيجار المنتهي بالتمليك ( الليزينك ) والأدلة الشرعية على إباحته الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وبعد , فقد نشرت جريدة التجديد في عدديها : 941 و946 مقالا للدكتور محمد الروكي انتهى من خلاله إلى إباحة هذا العقد المستحدث استنادا إلى بعض الأدلة الفقهية والأصولية ، فمن الأدلة الفقهية التي اعتمدها قولهم :( الحرام لا يتعلق بذمتين ) ، وقولهم :( الأصل في المنافع الإباحة ، وفي المضار الحرمة )، وكذا استدلاله بسلامة أركان هذا العقد وصحة شروطه .ومن الأدلة الأصولية التي اعتمدها: دليل الاستصحاب ، ودليل العموم. والجدير بالإشارة أنه قبل عرضه لهذه الأدلة نبه إلى " أن الاهتمام في هذه الإباحة إنما هو منصب على جهة المتعاقد أما الجهة المعقود معها فالحكم بالنسبة لها قد يخرج عن طوق الإباحة " . وسيتم مناقشته في تلك الأدلة بادئا في ذلك بما انتهى إليه من ردود على المانعين لهذه المعاملة .فقد قال في ضمن اعتراضه على من رد هذا العقد لما يخالطه من الربى الناتج عن التأخير عن سداد بعض الأقساط ما نصه :" المفروض أن المتعاقد لا يقدم على إبرام هذا العقد إلا إذا كان قادرا على الالتزام بدفع الأقساط في آجالها , على أنه إذا وقع له عجز خارج عن طاقته لم يكن في حسبانه , فإن ما يفرض عليه من الزيادة لا يلزمه شرعا لأنه معسر .....ولما لم يلزمه شرعا فهو بريء منها ديانة ، مسؤول عنها ومطالب بها بحكم القانون المعمول به في المصارف غير الإسلامية ، وهو قانون غربي , وهذه من الحالات التي تختلف فيها وضعية المتعاقد المستفيد عن وضعية البائع , لأن ما يفرضه المصرف على المشتري من زيادة مخالفة للشرع وهو المسؤول عن ذلك ديانة ؛ لأن الحرام لا يتعلق بذمتين ."1 . فيقال ولله الموفق للصواب كون المتعاقد لا ينبغي أن يقدم على إبرام هذا العقد إلا إذا كان قادرا على الالتزام بدفع الأقساط في آجالها , افتراض خارج عن مقدور الناس إذ قد يكون الشخص قادرا في الحال و عاجزا في المستقبل أو المآل , فقد يكون في سعة ويصير في ضيق بسبب غلاء المعيشة ،أو مرض مفاجئ ألم به أو بأحد أفراد أسرته , أو لأنه انقطع عن عمله, أو بارت تجارته أو غير ذلك من الأسباب التي تدخل في الغيب المستور , وعلى افتراض عدم سواغ هذه الاحتمالات فالمشكل الرئيس يكمن في كونه رضي ابتداءا بهذا الشرط مع ما فيه من مخالفة صريحة للشرع كما سيأتي بيانه عند الحديث عن الشروط الملازمة للعقد . أما قوله بأن العاجز عن تسديد بعض الأقساط إذا فرضت عليه زيادة هو بريء منها ديانة , مسؤول عنها مطالب بحكم القانون المصرفي الغربي , والإثم إنما يتعلق بذمة الجهة البائعة كما هو مقتضى القاعدة الفقهية التي تنص على أن" الحرام لا يتعلق بذمتين " فيقال إن هذه القاعدة ليست قاعدة مطردة ولا هي أغلبية .والدليل على كونها ليست كذلك جملة من الأمثلة منها : أن التحليل في مسألة الطلاق الثلاث حرام وقد تعلق هذا المحرم بذمتين : المحلل والمحلل له . والغيبة فعل محرم وقد تعلق بذمتين :المغتاب والمستمع .وكذلك الوشم, والوشر,والنمص, والوصل فهي أفعال محرمة تعلقت بذمتين إذ لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الواشمة والمستوشمة, والواشرة والمستوشرة , والنامصة والمتنمصة ، والواصلة والمستوصلة , بل قد يتعلق الحرام بأكثر من ذمتين كفعل الزنى الذي يتعلق بذمة الزانية والزاني والوسيط ( الديوث) وكالرشوة فإنها فعل محرم تعلق بثلاث ذمم: الراشي والمرتشي و الرائش (الوسيط) وكالخمر إذ الأحاديث الواردة فيه تفيد أنه شيء محرم يتعلق بتسع ذمم . بل قد يتعلق الفعل المحرم بما لا حصر له من الذمم كالجماعة الكثيرة التي اتفقت على قتل بريء . فإن قيل لعل هذا لا ينطبق على البيع بالإيجار المشتمل على الربى عند العجز عن سداد الأقساط بانتظام فيقال : بل ينطبق كذلك عليه لما ثبت في صحيح البخاري عن أبي جحيفة عن أبيه قال : "نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب و ثمن الدم ، ونهى عن الواشمة والموشومة ، وآكل الربى وموكله ، ولعن المصور "2 وفي لفظ آخر له:" لعن الرسول صلى لله عليه وسلم الواشمة والمستوشمة ، وآكل الربى وموكله ، ونهى عن ثمن الكلب "3 وورد هذا الحديث أيضا بألفاظ أخرى4 جميعها تفيد تحريم الربى أخذا وإعطاءا أي تفيد أن الربى متعلق بذمة الآكل والموكل ( الآخذ والمعطي ) بل هناك أحاديث أخرى عند بعض أصحاب السنن تفيد أن الربى فعل محرم متعلق بأكثر من ذمتين . فقد روى ابن ماجه في سننه " عن عبد لله بن مسعود أن رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم لعن آكل الربى وموكله وشاهديه وكاتبه ." 5 وروى هذا الحديث بلفظ مقارب الإمام أبو داود في سننه عن عبد الله بن مسعود قال:"لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربى وموكله وشاهده وكاتبه"6 فهذان الحديثان يفيدان أن الربى فعل محرم متعلق بأربع ذمم بل بخمس وعليه فلا يستقيم أن يقال : "الحرام لا يتعلق بذمتين " من أجل تبرئة ذمة طرف من الأطراف التي أنشأت هذا العقد الربوي .وقد وظف الدكتور الفاضل هذه القاعدة في حال إذا ما أحالت الشركة المؤجرة البائعة المستأجر المشتري إلى مصرف ربوي إذ قرر أن المستفيد لا إثم عليه ، وإنما الإثم على المصرف الذي أعطى الجهة البائعة الثمن العاجل مقابل أن يأخذ من المشتري الثمن الآجل أقساطا ، وما يقال في الجواب عن هذه الحجة هو ما قد قيل في الذي قبلها. أما فيما يخص الملاحظات النقدية على الأدلة التي اعتمدها لإباحة هذا العقد المستحدث فالأمر يتعلق بثلاثة أدلة : * الدليل الأول : دليل الاستصحاب :وهو بقاء الحكم على أصله الأول حتى يرد أو يظهر ما يدل على خلافه .أو هو " الحكم على الشيء بما كان ثابتا له مادام لم يقم دليل يغيره"7 إلا أن هذا الدليل يعد من أضعف الأدلة وأوهاها ، والدكتور الفاضل أباح هذا العقد استنادا إلى هذا الدليل بناءا على أن الأصل في العقود الإباحة ، وعليه فيكون هذا العقد مباحا لعدم قيام دليل يغير حكم إباحته إلا أنه لم يبسط القول في الخلاف الحاصل حول الأصل في العقود: هل هو الإباحة المطلقة عند جميع المذاهب الفقهية أم أن الأمر على خلاف ذلك. إذ قد عرف عند فقهاء أهل الظاهر أن الأصل في العقود الحظر لا الإباحة . ونقل شيخ الإسلام ابن تيمية أن كثيرا من أصول أبي حنيفة تنبني على هذا وكثير من أصول الشافعي وأصول طائفة من أصحاب مالك وأحمد توافق ذلك وذهب إلى أن أحمد بن حنبل قد يعلل أحيانا بطلان العقد بكونه لم يرد فيه أثر ولا قياس8 .هذا وإن الدليل الذي يعمد إليه المختلفون لإباحة عقد ما ولمنعه لا ينبغي الاعتماد عليه باعتباره حجة المخالف أيضا ،إذ قد يختار الشخص مذهب أهل الظاهر ومن وافقهم من أتباع الأئمة ، ويقول :إن البيع بالإيجار عقد محظور ممنوع حتى يرد دليل من الشرع بإباحته بناء على حكم الاستصحاب ،فإن قال :قول الظاهرية ومن وافقهم باطل بناء على القاعدة التي تنص على أن :" الأصل في المنافع الإباحة, وفي المضار الحرمة" والتي يشهد لها بالاعتبار قول الله تعالى : ( يا مرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث )9 فيقال : هذه القاعدة لا تنطبق على البيع بالإيجار لسبب ظاهر وهو أن هذا العقد مشتمل على منكر خبيث وهو تلك الفائدة الربوية المترتبة على التأخر في تسديد الأقساط ,أو المترتبة على التعامل مع المصرف الربوي إن كان وسيطا بين الطرفين . * وأما الدليل الثاني الذي اعتمده الشيخ الفاضل لإباحة البيع بالإيجار فهو دليل العموم وهو من القواعد الأصولية اللغوية ومستنده في ذلك حسب رأيه دخول هذا التصرف في عموم قوله تعالى:(واحل الله البيع) 10 . وفي عموم قوله:(يأيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه)11 . فيقال العمومات ثلاثة أنواع : عام يراد به قطعا العموم،عام يراد به الخصوص قطعا، وعام مخصوص وقول الله تعالى:(وأحل الله البيع) عام يراد به قطعا الخصوص نظرا لوجود قرينة لازمته أو صحبته تنفي بقاءه على عمومه وتبين أن المراد منه بعض أفراده.وهذه القرينة المصاحبة له هي قرينة صاحبته حين النطق به وهي قوله تعالى:( وحرم الربا) 12لأنه من البيع الفاسد . وأما الآية الثانية فتكلمت عن عموم الدَّين .والدين قد يكون ناشئا عن قرض أو رهن أو جعالة أو بيع .لكن إذا كان البيع يتضمن ما يخالف الشرع كالبيع بالإيجار فانه لا يدخل في عموم الآية ومن أدخله في عمومها فقد تقول على الله، ,وقفى مالا علم له به. * وأما الدليل الثالث الذي اعتمده فهو دليل سلامة الأركان وصحة الشروط وقد قرر في بداية هذا الدليل أن حقيقة البيع إنما توجد موصوفة بالصحة إذا استوفى العقد أركانه واستجمع شروطه وهذا حاصل على حد قوله في البيع بطريق التأجير. ومعلوم أن أركان البيع أربعة : المتعاقدان ( وهما المتبايعان )، المعقود عليه ( وهو المبيع والثمن ),المعقود فيه ( وهو زمن انعقاد البيع ) ، والصيغة ( وهي الإيجاب والقبول الناشئ عن الرضى الصادر من البائع والمشتري ). وقد جعل الدكتور محمد الروكي حصول الرضى وصحة القصد دليلا مستقلا بذاته ، مع أن الرضى داخل ضمن شروط الأركان .فمثلا من بين الشروط التي ينبغي حصولها في المتبايعين الطواعية والاختيار في العقد على البيع ؛ وذلك يقتضي الرضى المنافي للإكراه .ولهذا اشترط هذا الشرط في الإيجاب والقبول , إذ لو صدر عنهما ثم تبين أن أحدهما أو كليهما قد أكرها على ذلك دون رضى فإن العقد يصبح فاسدا باختلال هذا الشرط الأساسي . إلا أن الرضى إذا وجد ، وكان في العقد ما يخالف الشرع فإن الرضى وحسن القصد لا اعتبار بهما حينئذ . وبناء على هذا فالتراضي إن وجد بين متعاقدين قد تعاقدا على عقد يتضمن أمراً حرمه الله ورسوله مثل وجود تلك الفوائد الربوية في حالتي الإعسار أو عند إحالة المشتري على المصرف الربوي , فإن هذا العقد يصير عقدا فاسدا لأن فساد الشرط أفسد العقد ، وبطلان العقد حصل ببطلان الشرط الربوي الذي تضمنه ,وكل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل ،لما رواه البخاري ومسلم في صحيحهما ، واللفظ للبخاري عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ما بال رجال يشترطون شروطا ليست في كتاب الله ، من اشترط شرطا ليس في كتاب الله فهو باطل ، شرط الله أحق وأوثق "13 وكل شرط ثبت بالسنة الصحيحة أو بالإجماع المعتبر فهو في كتاب الله بطريق اللزوم . فإن قيل إن هذا الشرط شرط زائد لا يقدح في ثبوت العقد لأنه ينافي مقتضاه ولا ينافي مقصوده ،وأن للبائع أن يشترط ما شاء من مادام شرطه لا ينافي مقصود العقد وهو حصول الانتفاع بالمعقود عليه بدليل قوله صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها عندما أرادت أن تشتري بريرة(الأمة ) من مواليها واشترطوا أن يبقى الولاء لهم ." اشتريها فاعتقيها ودعيهم يشترطوا ماشاؤوا "14 فاشترتها عائشة فأعتقتها واشترط أهلها الولاء. فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " الولاء لمن أعتق وإن شرطوا مائة شرط "15 وهذا كله إن دل على شيء فإنما يدل على أن الحكم المطلق لا يزيله إلا الشارع الذي أثبته, أما الشروط المنافية لقصده فهي لا تنشئ حكما ولا تزيله . فيقال هذا مما لا خلاف حوله , فللشركة أن تشترط ما شاءت إذا لم تكن تلك الشروط قد تم إلزام المشتري بها . أما إذا تم إلزامه بها بحيث أصبح البيع متوقفا عليها وهي شروط تخالف مقصود الشارع وإن كانت لا تنافي مقصود العقد فهي مؤثرة في صحة أو فساد العقد . والبيع بالإيجار متوقف على التزام المشتري بهذه الزيادة عند العجز عن دفع الأقساط بانتظام ، فإذا هو قبل ذلك فقد تعدى حدود الله ومن تعدى حدود فقد ظلم نفسه بدخوله في الحرام لوجود ذاك الشرط الحرام الذي رضي به . هذا وقد نبه الدكتور محمد الروكي " إلى أنه يشترط على المتعاقد المستفيد ألا يباشر هذا العقد إلا بعد التأكد من القدرة على تسديد جميع الأقساط الشهرية ، لأن العجز عن أحدها يفضي إلى ترتب الفوائد وهي ربا فيكون العقد حينئذ مشبوها " . وقد سبق القول بأن هذا الاحتياط لا يجدي ولا يفيد لأن الإنسان لا يعلم ماذا يكسب غدا ، وأن هذا من باب التكلف المذموم إذ ليس عندنا مفاتيح الغيب حتى نتفادى الوقوع في هذه الكبيرة العظيمة التي تفضي إلى أن يصبح العقد محرما وليس مشبوها كما وصفه الدكتور فان هذا الحكم لا يناسب علته وليس هو من أحكام العقود المحظورة على حد معرفتي بل لا أحد يتردد في وصفه بما يستحقه من أوصاف صدرت عن الشارع .وعلى هذا فالإقدام عليه إقدام على حرام بين وكيف لا يكون بينا وقد تبين أنه مشتمل على الربا المحرم، ثم يقال أيضا إن المستفيد وإن كان واثقا من أنه سيلتزم بتسديد الأقساط على افتراض حصول ذلك منه فإنه بمجرد قبوله هذه المعاملة الربوية الداخلة ضمن محتويات العقد صار آثما بهذا التصرف إذ الأعمال بالنيات ، ولكل امرئ ما نوى, ولهذا كانت النيات أو القصود معتبرة في جميع العقود. أعاذنا الله من الربا بواسع رزقه وجزيل عطائه وهو الواسع العليم الذي يرزق من يشاء بغير حساب ، ونسأله تعالى أن يصرف عنا مكائد الشيطان ، وأن لا يجعل الدنيا وزخارفها أكبر همنا وأن يجعل الآخرة مبلغ علمنا حتى نعبده بالخوف والرجاء فإنه نعم المجيب. هذا ولا يسعني إلا أن أقول كما قال الإمام الشافعي تشبها وتأسيا به : قولي صواب يحتمل الخطأ ، وقول غيري خطأ يحتمل الصواب. وأقول أيضا ما قاله ابن القيم رحمه الله :" فلو كان كل من أخطأ أو غلط ترك جملة ، وأهدرت محاسنه لفسدت العلوم والصناعات والحكم وتعطلت معالمها"16 . والله تعالى أعلم وصلى الله على رسوله الأكرم. الهوامش : 1 جريدة التجديد العددان 941 و946 . 2 صحيح البخاري . كتاب البيوع ( باب موكل الربا) . 3 صحيح البخاري : كتاب الطلاق ( باب مهر البغي) . 4 نفسه كتاب اللباس ( باب الواشمة ) و (باب من لعن المصور ). 5 سنن ابن ماجة .المعجم 58 باب التغليظ في الربا . 6 سنن أبي داود : كتبا البيوع ( باب آكل الربا وموكله ). 7 علم أصول الفقه للشيخ عبد الوهاب خلاف ص92. 8 مجموع فتاوى ابن تيمية 29 /126127 . 9 سورة الأعراف . 10 1112 سورة البقرة . 13 صحيح البخاري كتاب المكاتب (باب إثم من قذف مملوكة ). 14 15 نفسه كتاب المكاتب (باب إذا قال المكاتب اشتريني واعتقني فاشتراه لذلك ). 16 مدارج السالكين 2/39 . د. أبو شعيب لمدى