البيع بالإيجار، أو البيع بطريق التأجير، أو الإيجار المنتهي بالتمليك... هو لون من ألوان المعاملات المالية الحديثة، وهو أن يكون محل العقد مكونا من عنصرين: الإيجار والبيع، فهو عقد مركب من عقدين: يكون أحد العاقدين مؤجرا بائعا، والآخر مستأجرا شاريا، مثاله: أن يحتاج شخص ما إلى شراء سيارة أو غيرها مما يكون عاجزا عن شرائه نقدا، فيعمد إلى مؤسسة البيع بالإيجار (شركة الليزينك) فيعرض عليها رغبته في شراء السيارة أو غيرها... فتشتري هي له ذلك، ويوقع لها عقدا يصبح بمقتضاه ملتزما بدفع أقساط شهرية لمدة خمس سنين أو أقل أو أكثر، غير أنه قبل انتهاء المدة تكون له صفة المستأجر، أما بعد انتهاء المدة ودفع الثمن الإجمالي بتمامه، فإنه حينئذ يصبح مالكا للعين المؤجرة. وهذا اللون من المعاملات المالية ظهر أول ما ظهر بأمريكا في سنة ,1952 وكان من أهم أسباب ظهوره: قيام الحاجة إلى التجهيزات والآلات والمعدات ذات التكاليف الباهضة، المعجوز عن اقتنائها، فكان هذا الأسلوب متنفسا اقتصاديا على الشركات والأفراد الذين يعانون العجز عن الاقتناء مع الحاجة إليه، وبابا واسعا من الاستثمار بالنسبة للمصاريف والوسطاء الممولين. الرأي المختار في حكمه لا يكاد شيء من المعاملات المالية الحديثة يخلو من خلاف فقهي وجدل نظري حول منعه أو إباحته، ومن ثم فقد دار النقاش حول هذا الضرب من المعاملات المالية بين المنع والإباحة، والمختار عندي من ذلك: القول بالإباحة، لما سأعرضه في ذلك من الأدلة الشرعية، سواء منها الابتدائية، أو القائمة على إبطال أدلة المانعين وردها. أدلة الإباحة وقبل سوق هذه الأدلة نريد التنبيه إلى أن الاهتمام في هذه الإباحة إنما هو منصب على جهة المتعاقد (الزبون)، أما الجهة المعقود معها فالحكم بالنسبة لها قد يخرج عن طوق الإباحة، لأن وضعها في العقد قد يختلف عن وضع المتعاقد المستفيد، لذا سنقتصر على أدلة الإباحة بالنسبة للمتعاقد المستفيد، وقد نشير إلى حكم العقد بالنسبة للمعقود معه، عندما يقتضي الأمر ذلك، وفي ما يأتي عرض الأدلة الشرعية في إباحة البيع بطريق التأجير بالنسبة للطرف المستفيد: 1 الأصل في العقود الإباحة: البيع بطريق التأجير عقد من العقود المستجدة، لم يرد فيه نص، ولا كان للمتقدمين عهد به على الصورة التي يتعامل بها الناس اليوم، وقاعدة الفقهاء في العقود أن الأصل فيها الإباحة ما لم يقم دليل على خلاف ذلك. وهذه القاعدة هي متفرعة عن قاعدة أخرى أعم منها وأوسع، وهي القاعدة الاستصحابية التي تقرر حكم الأصل في الأشياء عموما، وإذا كان الفقهاء والأصوليون قد اختلفوا في ذلك، فإن الرأي الأعدل الأوسط من ذلك عندي هو ما قرره محققو الشافعية ومن تابعهم من أن الأصل في المنافع الإباحة وفي المضار الحرمة، يؤكد ذلك قوله تعالى: (يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث) (1). ويؤازره قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي ثعلبة: «إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدودا فلا تعتدوها، وحرم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة بكم من غير نسيان فلا تبحثوا عنها» (2) وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي الدرداء: «ما أحل الله في كتابه فهو حلال، وما حرم فهو حرام، وما سكت عنه فهو عفو، فاقبلوا من الله عافيته، فإن الله لم يكن لينسى شيئا ثم تلا هذه الآية (وما كان ربك نسيا) (3). وفي الباب أحاديث أخرى (4)، فضلا عن الآيات التي أخبرنا فيها الحق سبحانه بأنه قد سخر لنا ما في السماوات وما في الأرض جميعا، وبأنه قد فصل لنا ما حرم علينا وبأنه قد أحل لنا الطيبات من الرزق... إلخ. ومن ثم فالعقد الذي نحن بصدده لا سبيل إلى إخراجه من هذه الدائرة إلا بدليل، ولم يقم دليل على ذلك، وإنما هي شبه سنبين فسادها في محالها في البحث. 2 عموم حلية البيع إلا ما خصصه الدليل: قال الله تعالى: (وأحل الله البيع) (5)، وهذه الحلية عامة في أنواع البيع وأشكاله ما كان منها وما استحدث، لا يخرج من دائرة هذا العموم إلا ما استثناه القرآن بصيغة الإجمال، وما استثنته السنة بالتفصيل، فقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن جملة من البيوع، وقد ضبط الفقهاء أعيان هذه البيوع وعلل النهي عنها، والبيع بطريق التأجير لا يندرج في شيء من ذلك، فهو داخل في عموم الآية، كما أنه داخل في عموم قوله تعالى: (يا أيها الذين ءامنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه) (6) وأدلة المانعين لا تقوى إلى إخراجه من حيز هذا العموم كما سنبين ذلك، ثم إن البيع إنما شرعه الله عز وجل لعباده باعتباره وجها من وجوه التملك وتبادل الأموال بينهم التي بها قوام حياتهم وضمان استمرارها، وبها صلاح أمور معايشهم واستقامتها. والأصل في تحصيل مثل هذه المنافع والمصالح الحلية والجواز كما دل على ذلك تتبع مقاصد الشارع. 3 دليل حصول الرضا وصحة القصد: البيع بطريق التأجير يحصل من جهة المتعاقد المستفيد برضاه وإرادته السليمة ورغبته التي يفصح عنها، فلا ضغط ولا إكراه ولا إلجاء، ومن ثم فهو داخل في عموم الاستثناء الوارد في قوله تعالى: (يا أيها الذين ءامنوا لا تاكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم) (7) والتراضي في حقيقته الفقهية هو صدور الإيجاب والقبول واضحين متطابقين متصلين، وكل ذلك حاصل في البيع بطريق التأجير، فهو من التجارة المبنية على التراضي. ثم إن المتعاقد المستفيد حينما ينشئ هذا العقد لا ينشئه بقصد التحايل على الشرع، أو بقصد تحليل المحرم، أو بغير ذلك من القصود الخبيثة الفاسدة، وإنما ينشئه بقصد تحصيل الرزق الطيب، ومن أصول الشرع في معاملات المكلفين وضوابط حليتها: صلاح مقاصدهم وعدم مجافاتها عن مقاصد الشرع. 4 دليل سلامة الأركان وصحة الشروط: إنما توجد حقيقة البيع وماهيته موصوفة بالصحة إذا استوفى العقد أركانه واستجمع شروطه، وهذا حاصل في البيع بطريق التأجير، فالبائع هو المصرف أو الوسيط المحيل عليه. والمشتري هو الذي اصطلحنا عليه بالمتعاقد المستفيد، والمبيع محدد ومعلوم. والثمن هو مجموعة الأقساط التي تسدد في المدة المتفق على تسميتها، وقد اصطلحنا عليه في بداية هذا البحث بالثمن الإجمالي، لأنه يتكون من ثلاثة عناصر: 1 الثمن النقدي: وهو الثمن الذي يساوي قيمة المبيع يوم العقد لو دفع نقدا من غير مراعاة الأجل. 2 عائد الاستثمار: وهو ما يفرض عوضا للأجل المضروب لتسديد مجموع الثمن مقسطا، وهو يقابل ما يتعرض له الثمن النقدي من تجميد وتعطيل، وما يتبع ذلك من انتقاص في القيمة بسبب طول المدة، وضعف الانتفاع والاستفادة بسبب التقسيط، لأن البائع لو استثمر الثمن النقدي بجملته مدة تسديد الأقساط لعاد عليه بربح. ومن ثم فهو يفرض على هذا العنصر عوضه. 3 ما يحتسب في مقابلة المخاطرة: وهو الربح الذي يفرضه البائع على المبيع مقابل ما يتحمله من مخاطر قد تعرض له، من هلاك أو فساد أو انتقاص أو غير ذلك مما يسبب في خسارة للبائع. لكن لا بد من التنبيه إلى أنه يشترط على المتعاقد المستفيد أن لا يباشر هذا العقد إلا بعد التأكد من القدرة على تسديد جميع الأقساط الشهرية، لأن العجز عن أحدها يفضى إلى ترتب الفوائد، وهي ربا، فيكون العقد حينئذ مشبوها. كما أنه يشترط أن لا يكون التأمين التجاري داخلا في محتوى العقد وصيغته. رد شبه المانعين هذا هو الصنف الثاني من الاستدلال على إباحة البيع بطريق التأجير، لأن إبطال دليل المخالف دليل في حد ذاته، ونريد هنا تقصي ما تمسك به المانعون، وتتبع ما احتجوا به على فساد هذا العقد وحظره شرعا، ثم إبطال ذلك وبيان ضعفه وأنه لا ينتهض دليلا على المنع والحظر. 1 شبهة الربا: قد يقال إن البيع بطريق التأجير بيع قائم على الربا، وأن مأتى ربويته من جهتين: الأولى: من جهة فرض عوض نظير الأجل والتأخير وهو ما سميناه بعائد الاستثمار. الثانية: من جهة أن المتعاقد إذا تأخر عن تسديد بعض الأقساط تفرض عليه الزيادة وهي ربا. وهذا الاعتراض مردود بجهتيه معا: أما الجهة الأولى: فلأن فرض العوض مقابل الوقت أي الزيادة في أصل الثمن نظير الأجل أمر مشروع وهو من حق البائع عند جمهور الفقهاء (8)، وقد بسطوا ذلك في مواطن من كتاب البيوع، منها: صورة بيعتين في بيعة، فقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة (9)، وذلك أن يقول البائع للمشتري: أبيعك هذه السلعة بألف نقدا أو بألفين إلى أجل، ثم يفترقا دون تحديد أي ثمن يلزم به البيع، ومن هنا يتضح أن علة التحريم إنما هي جهالة الثمن، فلو انتفت الجهالة وحددا الثمن الآجل لجاز البيع، ويلزم من جوازه جواز الزيادة في الثمن نظير الأجل (10)، وإذا كان الفقهاء المتقدمون قد أجازوا ذلك لأنه ظاهر الأدلة ومقتضى عمومها، فإنه في واقعنا المعاصر أدعى للجواز، لما تتعرض له النقود من انخفاض مستمر في القيمة، ثم إن فرض العوض على الوقت واعتبار ذلك جزءا من الثمن لا صلة له بالربا، لأن العوض على الأجل إنما يكون ربا في باب القرض، أي إذا كان أصل المال قد أخذه المستفيد على سبيل القرض، أما الزيادة في موضوعنا فهي في باب البيع وهي داخلة في حيز الثمن. أما الجهة الثانية: فالمفروض أن المتعاقد لا يقدم على إبرام هذا العقد إلا إذا كان قادرا على الالتزام بدفع الأقساط في آجالها، على أنه إذا وقع له عجز خارج عن طاقته ولم يكن في حسبانه، فإن ما يفرض عليه من الزيارة لا يلزمه شرعا، لأنه معسر، فوجب إنظاره إلى الإيسار، ولما لم تلزم شرعا فهو بريء منها ديانة، مسؤول عنها ومطالب بها بحكم القانون المعمول به في المصارف غير الإسلامية، وهو قانون غربي، وهذه من الحالات التي تختلف فيها وضعية المتعاقد المستفيد عن وضعية البائع، لأن ما يفرضه المصرف على المشتري من زيادة مخالف للشرع وهو المسؤول عن ذلك ديانة لأن الحرام لا يتعلق بذمتين. 2 شبهة الجمع بين بيع وسلف: قد يقال إن البيع بطريق التأجير فيه بيع وسلف، لأن الجهة البائعة، وهي المصرف أو الوسيط المحيل عليه، لها صفة البائع والدائن معا، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك في حديث عبد الله بن عمر، أنه صلى الله عليه وسلم قال: «لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا ربح ما لم يضمن، ولا بيع ما ليس عندك» (11) والجواب عن ذلك من وجهين: الأول: إن البيع بطريق التأجير ليس فيه سلف، وإنما هو من قبيل البيع نسيئة، أو البيع إلى أجل، وهو مشروع بقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه» (12) والتأجيل في دفع الثمن لا يعد سلفا وإنما هو بيع، وإلا للزم من ذلك بطلان بيع السلم وسائر بيوع النسيئة! الوجه الثاني: أن المراد ببيع وسلف المنهي عنه هو أن يكون السلف مشترطا من أحد البائعين، كأن يقول أحدهما للآخر: أسلفني كذا أبعك هذه السلعة بكذا، أو: أسلفني كذا أشتر منك هذه السلعة بكذا، وهذا حينئذ يكون من باب بيع وشرط، قال الشيخ زروق في شرحه لقول ابن أبي زيد: «ولا يجوز بيع وسلف» قال: «يعني إذا كان ذلك بشرط لنهيه عليه السلام عن بيع وشرط صححه الترمذي والحاكم وابن خزيمة من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده» (13) ونقل الشوكاني عن الإمام أحمد تفسيرا آخر لبيع وسلف وهو: أن يقرضه قرضا ثم يبايعه عليه بيعا يزداد عليه، وهو فاسد، لأنه إنما يقرضه على أن يحابيه في الثمن» (14). وقد يقال: إن المتعاقد قد لا يباشر العقد مع المصرف، بل من جهة أخرى شركة مثلا فتحيله على المصرف بعد أن تستوفي منه ثمنها العاجل، وحينئذ يكون المعاقد مدينا للمصرف، ويكون العقد مكونا من بيع وسلف. والجواب عن ذلك: أن هذه الإحالة إذا لم تجر إلى أي زيادة على الثمن الإجمالي المتفق عليه بين المتعاقد والجهة البائعة، فالبيع حينئذ مازال في حكم الإباحة والجواز، وغاية ما آل إليه الأمر بالنسبة للمتعاقد أننا صرنا أمام عقد فيه بيع وحوالة، وهو تصرف جائز لعموم قوله صلى الله عليه وسلم «وإذا أتبع أحدكم على ملء فليتبع» (15) وإذا كان المصرف في هذا التعامل في حالة مشبوهة شرعا لأنه أعطى الجهة البائعة الثمن العاجل مقابل أن يأخذ من المشتري الثمن الآجل أقساطا فإن ذلك لا يؤثر في صحة العقد من جهة المشتري لأن الحرام لا يتعلق بذمتين كما تقدم. نعم إذا كانت هذه الإحالة ستجر إلى الزيادة في أصل الثمن الإجمالي المتفق عليه مع الجهة البائعة، فالعقد حينئذ فاسد لأن المتعاقد أجبر على عقد سلف جر نفعا. 3 شبهة بيع البائع ما لا يملك أو ما ليس عنده: قد يقال إن المتعاقد في البيع بالتأجير يتعاقد مع جهة لا تملك المبيع، وإنما تشتريه له بعد إبرام العقد، وهذا من قبيل بيع الإنسان ما لا يملك، وهو منهي عنه لحديث حكيم بن حزام أنه قال «قلت يا رسول الله يأتيني الرجل فيسألني عن البيع ليس عندي ما أبيعه منه، ثم أبتاعه من السوق، فقال: «لا تبع ما ليس عندك» (16) وحديث ابن عمر السابق الذي فيه: «... ولا بيع ما ليس عندك» والجواب عن ذلك: أن محل النهي هنا هو أن يبيع الإنسان ما ليس قادرا على تسليمه للمشتري، مما لا يقع في ملكه أصلا لا في يده ولا في ذمته، أو يقع في ملكه، ولكنه ليس في يده كما لو كان مغصوبا مثلا، والفرق بين نفي الملكية ونفي العندية أن الصورة الأولى يكون البائع فيها غير مالك أصلا للمبيع لا بالحيازة ولا بالضمان، وأن الصورة الثانية يكون البائع فيها مالكا للمبيع لكنه ليس بحيازته، والصورتان معا تشتركان في علة واحدة، وهي العجز عن تسليم المبيع، وهذه هي علة التحريم، وبناء على ذلك فالبائع في البيع بالتأجير مالك للمبيع لأنه قادر على تسليمه، ولأنه وإن لم يكن بحوزته فهو في ذمته، فهو خارج عن دائرة النهي، وإلا للزم بطلان بيع السلم وعقد الاستصناع لأن البائع فيهما لا يملك المبيع أثناء العقد، وإنما يملكه بذمته وضمانه للمشتري، ونقل الشوكاني عن البغوي أن النهي في حديث ابن حزام هو عن بيوع الأعيان التي لا يملكها، أما بيع شيء موصوف في ذمته فيجوز... إلى أن قال: «وظاهر النهي: تحريم ما لم يكن في ملك الإنسان ولا داخلا تحت مقدرته» (17). 4 شبهة بيع ما لم يقبض: قد يقال: إن البائع في البيع بالتأجير يبيع السلعة للمشتري قبل أن يقبضها، وهذا منهي عنه، كما دلت على ذلك جملة من أحاديث. والجواب على ذلك من وجهين: الأول: أن بيع المبيع قبل قبضه إما أن يكون في الطعام، وهذا متفق على النهي عنه، وإما أن يكون في ما سوى الطعام، وهذا مختلف فيه، وبيان ذلك: أن الفقهاء اتفقوا على أن بيع الطعام قبل قبضه لا يجوز، قال ابن رشد: «وأما بيع الطعام قبل قبضه فإن العلماء مجمعون على منع ذلك إلا ما يحكى عن عثمان البتي» (18) واستدلوا على ذلك بأحاديث منها: 1 حديث جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا ابتعت طعاما فلا تبعه حتى تستوفيه» (19). 2 حديث أبي هريرة أنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يشترى الطعام ثم يباع حتى يستوفى» (20). 3 حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يستوفيه، قال ابن عباس: «ولا أحسب كل شيء إلا مثله» (21). 4 حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يقبضه» (22). 5 حديث ابن عمر أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من اشترى طعاما بكيل أو وزن فلا يبعه حتى يقبضه» (23) 6 حديث ابن عمر أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يبيع أحد طعاما اشتراه بكيل حتى يستوفيه» (24). فهذه الأحاديث، وغيرها مما لم نذكره تدل على حرمة بيع الطعام قبل قبضه، ويضاف إلى ذلك أن بيع الطعام قبل قبضه ذريعة إلى ربا النساء، لذلك عده ابن رشد ضمن أصول الربا الخمسة (25). أما ما سوى الطعام فقد اختلف الفقهاء في بيعه قبل قبضه، هل يجوز أو لا يجوز؟ 1 فذهب الحنفية إلى أنه لا يجوز بيع أي شيء قبل قبضه إلا العقار، لأنه هو الذي لا يتم فيه القبض، وإنما ينتقل إلى ملك المبتاع بالعقد والتخلية. وحجتهم في ذلك حديث حكيم بن حزام أنه قال: قلت يا رسول الله إني أشتري بيوعا، فما يحل لي منها وما يحرم علي؟ قال: إذا اشتريت شيئا فلا تبعه حتى تقبضه» (26)، فالحديث عام في كل شيء، وتؤكد ذلك زيادة ابن عباس في الحديث السابق، وهي قوله: «ولا أحسب كل شيء إلا مثله»، ويعضده حديث زيد بن ثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم» (27)، فهو عام ولم يرد بخصوص الطعام. واعتبروا الأحاديث السابقة الخاصة بالطعام محمولة على هذا، وأنها من باب التعبير بالغالب الشائع. 2 وذهب المالكية إلى أن بيع غير الطعام قبل قبضه جائز، محتجين في ذلك بدليل الخطاب، وذلك لأن الأحاديث التي احتج بها الفقهاء على حرمة بيع الطعام قبل قبضه قاصرة في النهي على الطعام، فدلت بطريق مفهوم المخالفة على جواز بيع ما سوى الطعام قبل قبضه. وأما حديث ابن حزام وزيد بن ثابت الواردان بصيغة العموم فهما محمولان عندهم على أحاديث الطعام من باب حمل العام على الخاص. 3 ومذهب الشافعية: أنه لا يجوز بيع شيء إلا بعد قبضه طعاما كان أو غير طعام، واستدلوا بأحاديث العموم كحديث حكيم بن حزام وزيد بن ثابت، واستدلوا أيضا بحديث ابن عمر السابق «لا يحل سلف وبيع ولا شرطان في بيع ولا ربح ما لم يضمن ولا بيع ما ليس عندك». 4 وعند الحنابلة روايتان عن الإمام أحمد، إحداهما توافق ما عليه المالكية، والثانية توافق مذهب الشافعية. إذن: فبيع المبيع قبل قبضه جائز في ما سوى الطعام على مذهب المالكية، والحنابلة في إحدى الروايتين، والحنفية في خصوص العقار. ومعلوم أن المبيع في البيع بالتأجير إذا قلنا إنه بيع قبل القبض هو خارج عن دائرة الطعام. الوجه الثاني في الرد على شبهة البيع قبل القبض: أن علة التحريم إذا عممناه في المبيعات كما عند الشافعية هي أن البائع يأخذ ربح ما لم يضمنه، لأن المبيع إذا بقي في حوزة البائع الأول ثم هلك فهو في ضمانه، وحينئذ يكون البائع الثاني قد ربح ما لم يضمنه بسبب عدم قبضه للمبيع، فهذه علة النهي عن بيع ما لم يقبض، وهي غير حاصلة في البيع بالتأجير، لأن البائع وإن لم يقبض المبيع بيده فقد قبضه بذمته، فإذا ضاع أو انتقص فهو في ضمانه لا في ضمان البائع الأول، ولذلك فهو يحتسب في مقابل ضمان الخسارة المحتملة ربحا كما تقدم بيانه في عناصر الثمن الإجمالي. 5 شبهة بيع المعدوم: قد يقال إن البيع بطريق التأجير هو عقد على معدوم أثناء العقد، لأن المصرف أو الوسيط إنما يشتري السلعة بعد انبرام العقد وتوقيعه. والجواب عن ذلك: أن المبيع وإن لم يكن موجودا حاضرا أثناء العقد، فهو موصوف في ذمة البائع ومستقر فيها، والمبيع المستقر في الذمة الموصوف وصفا يحصل به العلم، هو كالحاضر في مجلس العقد، بل إن المشتري قد يراه عند من سيبيعه للمصرف قبل أن ينبرم العقد. والقول ببطلان هذا البيع يلزم منه القول ببطلان السلم والاستصناع والإجارة، وما في معنى ذلك مما يكون المبيع فيه أثناء العقد غير موجود. فتحصل من هذا المبيع في البيع بالتأجير ليس من قبيل المعدوم. 6 شبهة بيع العينة: قد يقال إن البيع بطريق التأجير هو من قبيل العينة، وهي من بيوع الربا. وقاعدة العينة التي تضبط صورها هي كما بينها ابن جزي أن يظهر العاقدان فعل ما يجوز ليتوصلا به إلى ما لا يجوز (28)، ثم ذكر لذلك ثلاث صور، الأولى: أن يقول رجل لآخر: اشتر لي سلعة بكذا وأربحك فيها كذا، مثل أن يقول: اشترها بعشرة وأعطيك فيها خمسة عشر إلى أجل (29)، وقد ذكر أن هذه الصورة لا تجوز لأنها آيلة إلى الربا، ولأن من أصول مذهب مالك الأخذ بسد الذرائع، فيقال إن هذه الصورة تنطبق على البيع بالتأجير، فيكون هذا العقد من قبيل العينة المحرمة. والجواب عن ذلك: 1 أن البيع بالتأجير خارج عن قاعدة العينة، لأننا قدمنا أنه مبني على أساس صحة قصد العاقد وسلامته من التحايل والدوران. 2 أن بيع العينة غير متفق على حرمته، فابن جزي حينما عرف بيع العينة في إطاره العام عقد عليه بقوله: «فيمنع للتهمة سدا للذرائع خلافا لهما» (30) يعني أبا حنيفة والشافعي. وعمدة المانعين أن عائشة سألتها امرأة عن بيع باعته من زيد بن أرقم بثمانمائة درهم إلى العطاء، ثم اشترته منه بستمائة درهم نقدا. فقالت عائشة: بئس ما اشتريت وبئس ما ابتعت، أخبري زيد ابن أرقم أن الله عز وجل قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يتوب (31)، وقد أفاض الشافعي في رد ذلك وإبطاله، ومما جاء في ذلك قوله: «قد تكون عائشة لو كان هذا ثابتا عنها عابت عليها بيعا إلى العطاء لأنه أجل غير معلوم، وهذا مما لا تجيزه، لا أنها عابت عليها ما اشترت منه بنقد وقد باعته إلى أجل، ولو اختلف بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في شيء، فقال بعضهم فيه شيئا وقال بعضهم بخلافه، كان أصل ما نذهب إليه: أنا نأخذ بقول الذي معه القياس، والذي معه القياس زيد بن أرقم...» (32) وقال في مقام آخر: «... وإذا كانت هذه السلعة لي كسائر مالي، لم لا أبيع ملكي بما شئت وشاء المشتري؟» (33). 3 أن الصورة الأولى من الصور الثلاث التي أوردها ابن جزي في العينة هي تعامل جائز تخريجا على مذهب الشافعي في العينة وتخريجا على كلام السابق فيها. ثم إنها من قبيل بيع المرابحة، وقد اصطلح عليه المعاصرون ببيع المرابحة للآمر بالشراء، وقد أجازها عدد من الباحثين في الفقه المعاصر منهم الدكتور سامي حمود في رسالته للدكتوراه عن تطوير النظم المصرفية لتتفق مع الشرعية الإسلامية، واعتمد في إجازته إياها على الشافعي في كتابه الأم (34). 7 شبهة بيعتين في بيعة: قد يقال إن البيع بالتأجير هو من قبيل بيعتين في بيعة، لأن المصرف أو الوسيط يشتري السلعة ليبيعها للآمر بالشراء. وقد تقدم أن بيعتين في بيعة منهي عنها لحديث أبي هريرة السابق، وحديث سماك عن عبد الرحمان ابن عبد الله بن مسعود عن أبيه قال: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن صفقتين في صفقة. قال سماك: هو الرجل يبيع البيع فيقول: هو بنسا بكذا، وهو بنقد بكذا وكذا (35) والجواب عن ذلك: ما قلناه سابقا من أن علة النهي عن بيعتين في بيعة هي الجهالة بالثمن، كما هو واضح في تفسير سماك من حديث عبد الله بن مسعود. فإذا اتفق البائعان على تحديد أحد الثمنين: العاجل أو الآجل جاز البيع لانتفاء الجهالة. والثمن في البيع بالتأجير ثمن مؤجل، وذلك معلوم عند العاقدين. 8 شبهة الإجبار على التأمين: تقدم أن الثمن الإجمالي في البيع بالتأجير يتكون من ثلاثة عناصر من بينها التعويض عن المخاطرة بالمبيع، وقد يقال: إن هذا التعويض إنما هو تأمين على المبيع فرض دفعه على المتعاقد. والجواب عن ذلك: أنه ليس كذلك، بل هو ربح فرض على المشتري مقابل ما يتحمله البائع من الخسارة المتوقعة وضمان المبيع إذا هلك، فهو داخل في قاعدة الخراج بالضمان. وقد تقدم النهي عن ربح ما لم يضمن، والبائع في البيع بالتأجير ضامن للمبيع قبل أن يحوزه المشتري، فله في مقابل ذلك أن يفرض عوضا يحتسبه في الثمن الإجمالي. 9 شبهة الغبن الثمن الإجمالي في البيع بطريق التأجير هو أكثر بكثير من الثمن النقدي، فهو قد يضاعفه أو يزيد، وقد يقال إن ذلك غبن بالنسبة للمشتري. والجواب عن ذلك: أننا لا نعتبر ذلك غبنا إلا إذا كان الثمن عاجلا، وليس الأمر كذلك كما هو معلوم مما قدمنا، فانتفى الغبن إذا روعي الأجل. ثم حتى لو قلنا بوجود الغبن، فإنه لا يبطل العقد، وإنما يوجب الخيار للمغبون، ويتأثم به البائع (36). 10 شبهة الجمعة بين البيع والإجارة البيع بطريق التأجير كما قدمنا في بداية هذا البحث وكما هو مفهوم من التسمية مركب من بيع وإجازة، فالمتعاقد مستأجر ومشتر، والمصرف أو الوسيط مؤجر وبائع، والمعقود عليه عين مؤجرة ومبيعة. وقد يقال إن عقدا كهذا لا يصح لأن الفقهاء منعوا أن يجمع في عقد واحد بين البيع والإجارة. والجواب عن ذلك: أن هذا الجمع ليس متفقا على منعه، بل أجازه مالك وغيره من الفقهاء، قال ابن جزي: «ويجوز الجمع بين البيع والإجارة خلافا لهما» (37) يعني أبا حنيفة والشافعي. وعندي أن مذهب الجواز أقوى من مذهب المنع من جهة الاستدلال، لأن البيع بمفرده مشروع، والإجارة بمفردها مشروعة، فالجمع بينهما جمع بين مشروعين، ولأن العقد الجامع بينهما محله واحد هو العين المؤجرة إيجارا ينتهي بالتمليك، فتباع منفعتها أولا، ثم يباع أصلها ثانيا. لأن الإجارة بيع، ثم إن تحريم الجمع بينهما لم يرد به نص، ولم يقم عليه دليل قوي، فالأصل إباحته إلى أن يقوم الدليل بخلاف ذلك. وبعد، فإن التشريع الإسلامي عامة، بما فيه التشريع المالي، إنما جاء ليسعد الناس ويضبط حياتهم بنظام يقوم على العدل والرشاد، ويجلب لهم المصالح ويدرأ عنهم المفاسد، ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم، قال الله تعالى: (طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى) وقال: (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم...) وقال سبحانه: (ولو شاء الله لأعنتكم)، ومن ثم جاءت أحكامه مبنية على مراعاة حال المكلفين وقدراتهم المادية والمعنوية في القيام بالدين والاستقامة على أمر الشرع. ومن أصوله في ذلك: أن الحرج مرفوع، وأن الضرر يزال، وأن المشقة تجلب التيسير... ومعلوم أن المسلمين اليوم يتخبطون في واقع اقتصادي خانق، ووضع معيشي متأزم، كما أنهم يعيشون أشكالا وأساليب جديدة في المعاملات المالية لا عهد للمتقدمين بها، فليس من الفقه ولا من العدل أن نتعامل معها بطرائق المتقدمين، ولا أن نلبسها لباس قضاياهم وتطبيقاتهم التي عاشوها، بل يجب أن نعاملها في ضوء كليات الشرع وأصوله ومقاصده وعلل أحكامه المجردة عن الزمان والمكان والإنسان، مسترشدين في ذلك بفهوم المتقدمين ومناهجهم في التكييف الشرعي للوقائع المستحدثة، وخصوصا ما هو منها دخيل ووارد من أرض غير أرض الإسلام وبيئة غير بيئة المسلمين. والله تعالى أعلم وأدرى بالصواب. الهوامش 1 سورة الأعراف 2 أخرجه الدارقطني 3 أخرجه البزار في مسنده وقال: إسناده صالح، والحاكم قال: صحيح الإسناد. 4 انظر بعضها في جامع العلوم والحكم لابن رجب الحنبلي، ص: 261 وما بعدها. 5 البقرة 6 البقرة 7 البقرة 8 انظر بداية المجتهد: 2/153 وانظر نيل الأوطار للشوكاني: 5/152 وقد رجح ذلك الشوكاني وله فيه رسالة سماها: شفاء الغلل في حكم زيادة الثمن لمجرد الأجل 9 أخرجه أحمد والنسائي والترمذي وصححه وانظر نيل الأوطار: 5/152 10 انظر بداية المجتهد: 2/153 11 رواه الخمسة إلا ابن ماجة، وقال الترمذي: حسن صحيح وانظر نيل الأوطار: 5/179 12 البقرة 13 شرح زروق على رسالة القيرواني: 2/124 14 نيل الأوطار: 5/179 15 رواه الجماعة وانظر نيل الأوطار: 5/136 16 رواه الخمسة وقال الترمذي: حسن صحيح 17 نيل الأوطار: 5/155 18 بداية المجتهد: 2/143 19 أخرجه أحمد ومسلم 20 أخرجه أحمد ومسلم 21 أخرجه الجماعة إلا الترمذي 22 أخرجه الجماعة إلا الترمذي 23 أخرجه أحمد 24 أخرجه أبو داود والنسائي 25 بداية المجتهد: 2/142 26 أخرجه أحمد 27 أخرجه أبو داود والدارقطني 28 القوانين الفقهية، ص: 258 29 القوانين الفقهية، ص: 258 30 القوانين الفقهية، ص: 258 31 الأم للشافعي: 3/79 32 الأم للشافعي: 3/79 33 الأم: 8//183 34 انظر البنوك الإسلامية للدكتور جمال الدين عطية، ص: 113 35 أخرجه أحمد 36 انظر بداية المجتهد: 2/164 وما بعدها 37 القوانين الفقهية: ص: 260 الروكي محمد-أستاذ جامعي للدراسات الإسلامية عضو المجلس العلمي بالرباط