1/2 تعتمد بعض الشركات التجارية مسألة القرض بالمجان لترويج سلعها، وقد شغلت هذه المسألة كثيرا من الناس خاصة الأجراء والموظفين محدودي الدخل، والمقال الآتي الذي ننشره عبر حلقتين، يقدم وجهة نظر الأستاذ أحمد عروبي في الموضوع، وهي تعقيب على فتوى الدكتور الروكي الذي ذهب إلى تحريمها في العدد 274 من "التجديد". رأي الدكتور الروكي في مسألة القرض بالمجان ميز الدكتور في فتواه (المنشورة على صفحات التجديد عدد 274) بين ثلاثة أنواع في المعاملة التي يدخلها الأجل وهي: النوع الأول: البيع مع تأجيل الثمن بدون زيادة على الثمن المتفق عليه قال: "فالبيع جائز حلال لا غبار عليه ولا حرج فيه" النوع الثاني: البيع مع تأجيل الثمن بزيادة على الثمن الأصلي قال: "فإن البيع جائز لأن الزيادة في الثمن في عقد البيع مقابل المدة الزمنية لا حرج فيها، لأنها زيادة في أصل الثمن لا في أصل الدين، فلا يعتبر من قبيل الربا ... وللزمن حصته من الثمن كما هو مقرر عند الفقهاء...فإذا تأكد المشتري من أن هذا التعامل هو عقد بيع صرف لا دخل فيه للسلف، فإن هذا التعامل حينئذ جائز شرعا وهو من قبيل البيع إلى أجل؛ النوع الثالث: "أن يكون نص العقد يدل على انضمام السلف إليه بأن كان السوق البائع (مرجان) يحيل في تعاقده المشتري على البنك، فهذا التعامل حينئذ باطل فاسد حرام لأنه: أولا: مكون من بيع وسلف وهو جمع منهي عنه شرعا. ثانيا: إذا كان فيه زيادة على الثمن الأصلي العاجل فهي ربا لأنها زيادة في أصل السلف والقرض لا في أصل البيع..." التعقيب على فتوى الدكتور الروكي الناحية الأولى: في حقيقة الفتوى الظاهر من تفصيل الدكتور بين الأنواع الثلاثة المحتملة في هذه المعاملة، مع أن السؤال إنما يتعلق فقط بالنوع الثالث منها، أنه إنما حكم على هذه المعاملة من حيث تصورها عقلا لا من حيث تصورها واقعا، وفرق بين الأمرين في الفتوى. ذلك أن التصور العقلي يؤدي إلى إحالة المستفتي على القواعد العامة، وتكليفه بتحقيق مناطاتها بنفسه، وهو عين ما جاء المستفتي من أجله، أي سؤاله المفتي أن يحقق له مناط القاعدة الشرعية في قضية بعينها، حتى يكشف له عن حكم الله فيها من أجل أن يقدم عليها أو يحجم عنها، وإغفال هذا قد يترك المستفتي في غموض وحيرة، مما يدفعه إلى إعادة السؤال مرة أخرى. ومثل هذا التعميم في الجواب -أعني الإحالة إلى القواعد الشرعية العامة- نجده عند كثير من المفتين اليوم في المجلات والقنوات التلفزية، وهو خطأ يجب التنبه له والله أعلم. الناحية الثانية: تصور المسألة كما هي في الواقع يمكن تصور المسألة كما هي في الواقع من خلال النقط التالية: 1. تسمي الشركات هذه المعاملة ب"القرض بالمجان". 2. تحدد المدة التي يسمح فيها بالاستفادة من هذا القرض في مدة معلومة شهر أو شهرين أو موسم معين.. 3. تحدد القرض في أجل محدود إما ستة أشهر أو تسعة أو سنة. 4. المشتري يكون مخيرا بين ثلاثة أشكال: أ- أن يشتري السلعة نقدا. ب- أن يشتري السلعة بالثمن الأصلي نفسه مع توزيعه إلى أقساط شهرية مؤجلة (النقطة الثالثة)، وهو المسمى القرض بالمجان، محل البحث. ت- أن يشتري السلعة مع الزيادة على الثمن الأصلي إذا اختار المشتري التأجيل إلى أكثر من مدة القرض بالمجان. وهو المسمى(القرض بالفائدة). 5. العقد الذي يعقده المشتري يتضمن الإحالة على البنك المقرض. هذه هي الصورة الواقعية للمسألة، بكل تفاصيلها. الناحية الثالثة: الحكم الواجب في الواقعة بالتفصيل الذي وضحناه يتبين أن الشكل الأول في المعاملة(كما بين في النقطة الرابعة) لا كلام عليه،وأن الصيغة الثالثة معلومة الحرمة لربويتها الظاهرة، فلم يبق إلا الصيغة الثانية، وهو محل البحث. وقد قال بحرمة هذه المعاملة كل من الدكتور الروكي والشيخ عبد الباري الزمزمي، مع اختلافهما في التعليل. أما الدكتور الروكي فقد رآها من باب "بيع وسلف وهو جمع منهي عنه شرعا، أعني الجمع بين عقدي البيع والسلف في عقد واحد" كما نقلنا عنه في المقام الأول. وأما الشيخ الزمزمي فرأى فيها تحايلا على الربا عن طريق عقد خفي بين الشركة والبنك بمقتضاه يعجل البنك ثمن السلعة للشركة بأقل من ثمنها المعروض على المشتري، على أن يأخذ الثمن كاملا مؤجلا من المشتري، والفرق بين الثمنين المعلن والخفي - في نظر الشيخ - هو الفائدة الربوية التي تستفيدها الوكالة البنكية قال: "إذ من المعلوم أن الوكالة البنكية لا تدفع ثمن البضاعة إلى شركة التجهيز ابتغاء وجه الله ودون أن تطلب على ذلك ربحا ولا أجرا، ولكنها تفعل ذلك من أجل الربح كما هو شأن البنوك كلها، وذلك أساس عملها وهو سبيلها الأول في استثمار ما لديها من أموال" (1). واختلاف الرجلين في تعليل سبب حرمة العملية يدل أن هنالك اضطرابا في تكييفهما للعملية من الناحية الشرعية، غير أن الأول منهما كان أقرب إلى النظر الفقهي الصحيح من الثاني، إذ أن الشيخ الزمزمي حكم على المسألة بمجرد الظن الذي لا دليل عليه إلا ما عرف من عادة البنك، وهو لا يكفي إلا إذا ثبت أنه ليس له هدف آخر إلا ذلك، مع العلم أن البنك قد يدخل في معاملات شرعية معلومة الإباحة، وإن كانت قليلة، وهي مما تبنته المصارف الإسلامية المعروفة اليوم. والجواب التفصيلي عما علل به الشيخان حرمة هذه المعاملة نبينه في الوجوه الآتية. المبحث الأول: حول حقيقة الجمع بين بيع وسلف اتفق كل من فسر حديث النهي عن بيع وسلف(2) من الفقهاء والمحدثين بأن معناه: أن يقول الرجل للرجل آخذ منك هذه السلعة بكذا وكذا على أن تسلفني كذا كذا (3). قال أبو عمر: "أجمع العلماء أن من باع بيعا على شرط سلف يسلفه أو يستسلفه فبيعه فاسد مردود" (4). وقال ابن قدامة في المغني: "ولو باعه بشرط أن يسلفه أو شرط المشتري ذلك عليه فهو محرم، والبيع باطل، وهذا مذهب مالك والشافعي ولا أعلم فيه خلافا" (5). ومع اتفاقهم هذا،فقد اختلفوا في موضعين أحدهما: في علة المنع من بيع وسلف، والثاني:في صحة العقد إذا ترك السلف. أما اختلافهم في علة المنع فمالك يرى أن العلة هي التهمة بقصد الربا، قال الشيخ الزرقاني في شرحه عل الموطأ: "فإذا كان البائع هو دافع السلف فكأنه أخذ الثمن في مقابلة السلعة والانتفاع بالسلف، وإن كان من المشتري فكأنه أخذ السلعة بما دفعه من الثمن بالانتفاع بالسلف"(6) ولهذا منعوا هذا العقد مع جوازه في الظاهر(7). أما الشافعي فيرى أن العلة هي جهالة الثمن بسبب الجمع بين البيع والسلف، قال في الأم: "والبيع والسلف الذي نهى عنه أن تنعقد العقدة على بيع وسلف، وذلك أن أقول أبيعك هذا بكذا على أتسلفني كذا، وحكم السلف أنه حال فيكون البيع وقع بثمن معلوم ومجهول والبيع لا يجوز إلا بثمن معلوم" (8). أما الموضع الثاني المختلف فيه وهو صحة العقد بعد ترك السلف، فقد قال ابن رشد الحفيد في بداية المجتهد:"منعه أبو حنيفة والشافعي وسائر العلماء، وأجازه مالك وأصحابه إلا ابن عبد الحكم، وقد روي عن مالك مثل قول الجمهور" (9). ويتبين من خلال كلامه على علل المنع أنها ترجع إلى ثلاث: أحدها: تضمن النهي لفساد المنهي عنه. الثاني: هل هذا الفساد حكمي أو معقول؟ فإن قلنا حكمي (أي تعبدي) لم يرتفع بارتفاع الشرط وإن قلنا معقول ارتفع بارتفاع الشرط، فمالك رآه معقولا والجمهور رأوه غير معقول. الثالث: أن التحريم كان من أجل الاقتران أي اقتران البيع بالسلف. وهذه العلة الثالثة التي نبه عليها ابن رشد، كان قد نص عليها الشافعي في الأم فقال: "ألا ترى أن معقولا لاشك فيه في الحديث إذا كان نهى عن بيع وسلف فإنما نهى أن يجمعا ونهيه أن يجمعا معقول..." (10). ولكن السبب الحقيقي في تصحيح مالك لهذا العقد بترك شرط السلف هو ما قاله المقري في قواعده: "المشهور من مذهب مالك أن منفعة المقرض في صورة اجتماع البيع والسلف موهومة، فإذا أسقط السلف مشترطه صح البيع لكذب الوهم، والشاذ(11) أنها معلومة فقد دخلاعلى الفساد فيفسخ على كل حال"(12). وهو ما قرره الونشريسي أيضا في عدة البروق قال: "وإنما صح البيع بإسقاط شرط السلف على المشهور، ولم يصح بإسقاط شرط النقد في الخيار على المشهور: لأن الفساد في شرط النقد واقع في الماهية، لأنه غرر في الثمن، ألا ترى أن المقبوض لا يُدرى هل هو ثمن أم لا؟ ومسألة شرط في السلف الفساد فيها موهوم وخارج عن الماهية." (13). وهذا الاختلاف في التعليل نبه على سببه الإمام ابن عبد البر في قوله: "كلّ يخرج الحديث على أصله ومن أصل مالك مراعاة الذرائع ومن أصل الشافعي عدم مراعاتها" (14). فتحصل مما تقدم أن حقيقة بيع وسلف المنهي عنه لها أربعة عناصر: 1- الدخول على شرط السلف(15). 2- اشتراط السلف من أحد طرفي العقد: البائع على المشتري أو العكس. 3- أن الثمن يكون متميزا عن الثمن(16). 4- العلة هي إما التهمة بالربا عند المالكية وإما جهالة الثمن عند الشافعي. وهكذا يتبين أنهم قد اتفقوا أن المعتبر ليس هو مطلق الجمع بين بيع وسلف، وإنما هو الجمع المؤدي إلى الإخلال بأحد شروط البيع. ولذلك لا يقبل الهجوم بالحكم على أي معاملة بأنها من بيع وسلف بمجرد الاجتماع إلا بعد التحقق من وجود علة المنع، وهذا ما عري عنه حكم الدكتور الروكي في المسألة، مع أنه خالف نفسه -أعني في التحقق من وجود العلة - في محلين: أحدهما: عندما حكم على بيع الأجل بالجواز مع أنه يدخل في مطلق الجمع بين بيع وسلف، وهو خلال ذلك يلح على أن الزيادة إنما هي في أصل الثمن، ليتخلص من علة التحريم. المحل الثاني: حين ما أجاب على ما ورد عليه في إباحته لعقد بيع الإيجار من شبهة الجمع بين بيع وسلف وقال: "الجواب عن ذلك من وجهين: الأول: إن البيع بطريق التأجير ليس فيه سلف وإنما هو من قبيل البيع نسيئة أو البيع إلى أجل ... والتأجيل في دفع الثمن لا يعد سلفا وإنما هو بيع وإلا للزم من ذلك بطلان بيع السلم وسائر بيوع النسيئة (17). الوجه الثاني: أن المراد ببيع وسلف المنهي عنه هو أن يكون السلف مشترطا من أحد المتبايعين..." (18)، فنراه هنا قد قيد التحريم في الجمع بين بيع وسلف بوجود الشرط. هوامش :--------------- 1. التجديد ع 9.تاريخ 24/3/1999 2. هو من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رواه مالك بلاغا ووصله أصحاب السنن الثلاثة وصححه ابن حبان والحاكم، وله طريق آخر عند النسائى نحوه انظر الدراية لابن حجر 2/151 دار المعرفة بيروت. 3. الموطأ 425 الأم 3/67 الشعب 3/76 المعرفة وانظر نيل الأوطار 5/190-191 4. التمهيد 24/384-385 5. المغني 4/162 دار الفكر بيروت 1405 6. شرح الزرقاني على الموطأ 3/389 ط دار الكتب العلمية سنة 1411 7. مواهب الجليل 4/391 8. دار المعرفة3/76 أو الشغب 3/67 9. بداية المجتهد 2/264-265 ط دار الجيل،المغني 4/162 والتمهيد 24/385 10. الأم 4/24 ط دار المعرفة أو 3/249 كتاب الشعب. 11. أي الرواية الثانية عن مالك التي أشار إليها ابن رشد سالفا، وهي الرواية التي تتفق مع الجمهور. 12. قواعد الفقه للمقري بتحقيق الدكتور الدردابي رسالة دكتوراه مرقونة بدار الحديث الحسنية. 13. عدة البروق 408 ط دار الغرب الإسلامي. 14. - 24/391-392 15. لهذا فقد رأى بعض المالكية جوازه بغير شرط قال الخرشي في شرحه على مختصر خليل: "وقوله "وسلف" أي بشرط وأما بيع وسلف من غير شرط فلا يمتنع على المعتمد" شرح الخرشي لمختصر خليل 5 /81 المطبعة الأميرية. ببولاق مصر. 16. انظر المنتقى للباجي 4/210 مطبعة السعادة مصر 1332. 17. في كلامه هنا نظر في موضعين: الأول: قوله التأجيل لا يعد سلفا، ومعلوم أن بيع السلم يسمى أيضا سلفا وأصله الحديث: "من أسلف فليسلف ...إلى أجل معلوم" الثاني: ذلك الإلزام ليس بلازم لأن المالكية لا يجيزون كل بيوع النسيئة . 18. مجلة رسالة المعاهد عدد 12 ص 12-22 الأستاذ أحمد عروبي