مقدمة "" لا حاجة للتذكير بأننا نعيش في زمن الثورة التكنولوجية والتقنية، والثورة العلمية والفقهية والإفتائية أيضا، تجاوزنا عصور التقليد والجمود، ولئن كانت تشد الرحال في الزمن الماضي، وتضرب أكباد الإبل للاستفتاء في مسألة، فقد أصبحت الفتاوى اليوم بالمئات والآلاف، حيثما وليت وجهك تجد فتاوى ومفتين، يفتون في كل شيء، في الحيض والنفاس، وفي الأخبار الواردة في فضل فاس، يفتون في تركة الهالك دون الحديث عمن أهلكه. فتاوى جاهزة وتحت الطلب أحيانا، في كل شيء إلا في شيء واحد، وهو موضع حديثنا هنا. فتاوى أثارت جدلا تثير الفتاوى أحيانا جدلا، كما حصل في جملة من القضايا نورد منها بعضا مما يهم بلدنا، وهمت قضايا عديدة: -الأولى تهم المعاملات المالية: وتتعلق بإباحة القرض الربوي من أجل الحصول على السكن، صدرت عن الشيخ القرضاوي حفظه، وقاس فيها المغرب على بلاد "الكفر"، رغم ما في القياس من الظلم للبلاد الغربية، التي توجد بها فروع للبنوك الإسلامية، في بريطانيا، وكندا ودول عديدة، ولا توجد لدينا نحن المسلمين. وكانت الردود من حيث النقاش العلمي باهتة جدا، ومعظمها كان سياسيا، هوجم الدكتور القرضاوي حفظه الله، واتُّهِمَ بالتطاول على علماء البلد ومؤسساته، وحرموا عليه الفتوى، ولا أدري إن كان هناك نص صريح، أو ما يمكن أن يفهم منه تحريم الفتوى على غير المغاربة في القضايا المرتبطة بالمغرب، انعقد المجلس العلمي الأعلى، لمناقشة تطاول القرضاوي، وبعد المخاض ولد فأرا. وبقيت الأزمة تخنق المواطنين ذوي الدخل المحدود، ولم تحل المشكلة رغم ظهور ما أسموه بالمنتجات البديلة. حاسبوا القرضاوي حفظه الله، ولم يجرؤ أحد على معاتبة العلماء المشارقة الذين يفتون يوميا المغاربة في كل شيء، بعض هؤلاء المشايخ ممن تظهر عليهم آثار النعمة، يفتي "مزلوطا" مغربيا بحرمة القرض الربوي، ويرسله إلى جهنم وبيس المصير إذا سولت له نفسه ذلك. -الثانية: تتعلق بالأحوال الشخصية، وهي فتوى المغراوي في جواز نكاح بنت التاسعة، وكأن مصائب بلادنا هي الزواج، فليطمئن صاحبنا، فلا بنت التاسعة تتزوج ولا بنت الأربعين، لقد حلت العنوسة عندنا في إجازة طويلة، ولا تريد أن ترحل. اعتبر البعض هذه الفتوى اعتداء على المرأة، وإهانة لها، ولم تناقش الفتوى علميا، بل تم توظيفها سياسيا للتضييق على "الشيخ"، الذي فهم أن أرض الله واسعة، فأطال الجوار بالحرمين. وفي الحقيقة فإن مكان بنت التاسعة هو مدرستها، وليس بيت زوجية، زواجها اغتصاب لطفولتها، المسكوت عنه في هذه الفتوى نُبَيِّنُه بعد. -الثالثة: في المعاشرة الجنسية: وهي للشيخ الزمزمي، وذهبت إلى جواز استبدال النساء البلاستيكيات بالنساء الآدميات في حالات الضرورة. أثارت عليه هذه الفتوى سيلا من المقالات، ونهرا من السخرية، وابتعد النقاش عما هو علمي ككل مرة، وكنت أظن أن البعض سيوظفها سياسيا لتصفية الحساب مع حزب الشيخ، خاصة مع اقتراب "الاستحقاقات الانتخابية"، لكن اتضح أن هذا التخمين مجانب للصواب بعد ظهور نتائج الانتخابات، واكتساح "الجرار" لها: والأصالة في موضوعنا (امرأة آدمية)، والمعاصرة امرأة بلاستيكية)!!! -أما فتاوى المشارقة في إرضاع المرأة لزميلها في العمل، وفي جواز الصلح مع "إسرائيل"، وتحريم العمليات الاستشهادية، فهي أشد وقعا على النفس من الحسام المهند، وليس هنا مكان الحديث عنها. لكن نتساءل، والتساؤل مشروع: لماذا تخضع الفتوى دائما للسياسة، وتتجنب الحديث عن السياسة وأهل السياسة؟، لماذا توجب الطاعة لولي الأمر دون أن تُحَرِّمَ بيعة الإكراه؟. المسكوت عنه في الفتاوى السالفة: سنذكر بإيجاز الشيء المهم والمسكوت عنه في هذه الفتاوى، مع التركيز على الفتوى موضوع المقال: -لماذا أفتى القرضاوي بجواز الاقتراض الربوي من أجل السكن في المغرب؟. الجواب أن هناك ضرورة ملحة جدا تقدر بقدرها، لكن المغيب في الموضوع سؤال آخر: من الذي ضيق على الناس وألجأهم إلى هذا الباب؟ لماذا لا يجد الناس ما يسد الرمق في المغرب ناهيك عن المسكن؟ هذا هو القول الغائب هنا. -أفتى المغراوي بجواز نكاح بنت التاسعة، السؤال المغيب: لماذا تتزوج بنت التاسعة؟, أليس لأنها لم تجد طريقا إلى المدرسة؟ من الذي حرمها من الدراسة والتعلم؟، أليس لأن والديها أميان لا يفهمان شيئا؟. من المسؤول عن أميتهما؟، أليس لأن أبويها فقيران يدفعانها لزوجها ليستريحا من تبعاتها؟. من الذي أفقر أبويها؟. هذه هي الأسئلة الغائبة أعني المغيبة. إن كلام الزمزمي قديم قدم الحجارة في النهر كما يقول الأمازيغ، ولقد أفاض الفقهاء قديما في موضوع الاستمناء، فقد أباحه فريق منهم لمن كان مغلوبا على شهوته يخاف العنت كالأسير والمسافر والفقير(1) وهو قول الإمام أحمد في رجل خاف أن تنشق مثانته من الشبق أو تنشق أنثياه لحبس الماء. وكرهه البعض، ومنهم من حرمه مطلقا بظاهر قوله تعالى: (فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون)(2)، إذ الأصل في الباب هو الاستعفاف، لقوله تعالى: (وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم الله من فضله) (3)، وثمة أقوال أعرضنا عنها احتراما للقاريء الكريم، المهم أن الموضوع قديم، والحكم بين حِلٍّ للضرورة، وكراهة وتحريم. لا يتجادل اثنان في علم السيد الزمزمي، وفتواه هنا لم تأت بأي جدبد إلا ما تعلق بمصطلح البلاستيك، فلن تجده في كتب الفقه القديمة – والله أعلم - أما الاستمناء (العادة السرية) فقد تقدم الكلام فيه، والعادة مصطلح يستعمل بالمعنى القدحي، تقول العرب: "عادت حليمة إلى عادتها القديمة" والعادات الموروثة أورثت قوما المهالك، أما السرية فهي ضد العلنية، وكل عمل يكون في السر، إما لأنه غير مشروع، أو لأن صاحبه يستحي أو يخاف من إعلانه، فالأمر شاذ، والشاذ لا يقاس عليه، والأفضل هو الاستعفاف. الجديد برأيي هو الوسيلة التي يتم بها الاستمناء، وهي المرأة البلاستيكية، وفي الحقيقة، فقد أخبرني من أثق بهم أنه توجد في أوروبا محلات لبيع هذه الأشياء، والخطير في الموضوع أن تتفتق عبقرية البعض عندنا، فيفتتح محلا لبيع هذه النساء لعُزَّابِ هذه البلاد، وهو أمر غير موجود بالشكل الأوروبي قبل صدور الفتوى، سيصبح لدينا - على غرار ما يوجد في الأبناك – منتجات بديلة. يبقى السؤال الغائب أقصد المغيب في كل هذا اللغط، هو: لماذا اللجوء إلى الأعضاء أو النساء البلاستيكية، أو الاستمناء؟. قد يجيب البعض أن السبب هو المراهقة، وقد يذهب البعض إلى الأمراض النفسية، وقد يرجعه بعض الناس إلى الإعلام والفتن التي ينشرها جهارا نهارا؟ كل هذا صحيح، لكن هذا نصف الحقيقة، فأين نصفها الآخر؟ يبدو والله أعلم أن السبب هو عدم القدرة على الزواج بالنسبة للرجال، والعنوسة بالنسبة للنساء، المرأة تنتظر من يطرق بابها، وهذا الطارق المرتقب مشغول بمصائبه ونكباته، ولا باءة له، فهو يلجأ إلى الأمور السرية، أو يكثر من الصوم حتى يأتيه اليقين، لكن لماذا العنوسة؟ ولماذا الزواجوفوبيا كما يسميه الصديق نور الدين لشهب؟ الجواب هو الظلم والاستبداد، والشطط في قسمة أرزاق الله بين عباد الله، السبب هو الفساد السياسي والإداري الذي قسم الناس طوائف، وأفقر معظمهم، فلا وقت لديهم للتفكير في الزواج، همه الأوحد لقمة العيش، فهو يلهث وراءها حتى يفوته قطار الزواج. تناهى إلى سمعي وأنا أكتب هذه المقالة صوت امرأة تَنْهَرُ أطفالا يلعبون أمام بيتها ويزعجونها، سألني جليسي لماذا تصرخ المرأة؟ فأجبته بسبب الفساد السياسي والإداري فَفَغَرَ فَاهُ مستغربا كلامي، فقلت له: (كلامي صحيح مائة بالمائة. اسمع، المرأة تصرخ لأن الأطفال يزعجونها، والأطفال يلعبون أمام بيتها لأنهم لا يجدون ملعبا، والملعب لم توفره الدولة، والملعب فَوَّتَه رئيس المجلس البلدي إلى الإقطاعيين، فشيدوا مكانه عمارات شاهقة، ألا ترى أن المدينة كلها طوب وحجارة، ولا حديقة بها، هل توجد في العالم مدينة بدون مساحات خضراء ولا أماكن للراحة والاستجمام؟ أين تبخر كل ذلك؟ هل فهمت الآن؟)، فطأطأ رأسه بالإيجاب. يرجع سبب هذه المصائب كلها إلى الفساد والظلم. لو كان العدل، لكان الأمن، ولَحَلَّت البركة، ولتزوج معظم الناس، ولن نكون في حاجة عندئذ إلى المرأة البلاستيكية ولا إلى الفتوى البلاستيكية، ولكنه الظلم، والظلم مؤذن بالخراب النفسي والاجتماعي والعمراني والجنسي أيضا، وقانا الله هذه المهالك، وفتح علينا شآبيب رحمته. هل يستطيع الفقيه والنائب الزمزمي المبجل، أن يفتي في هذا الأمر الجلل: ظلم الدولة لرعاياها من العباد؟ فيُكَرِّهَهُ كراهة على الأقل إن لم يستطع تحريمه. فما زنى زان، ولا سرق سارق، ولا انحرف منحرف إلا بسبب ظلم أصابه، وليس دائما بسبب مرض في نفسه، أو ضعف في إرادته. تجتهد الدولة عندنا في تنظيم مهرجانات الغناء والرقص، وهز البطون، وتنفق عليها الملايير، تفتح على الناس أبواب المجون والخلاعة، وتُضَيِّقُ عليهم الأرزاق، فهي بذلك تستفزهم غريزيا وشهوانيا، ثم إذا سولت لأحدٍ نفسُه أن يقترف بعض الموبقات، فإن الدولة تعاقبه، والله إن هذا لشيء عجاب!! لو أنفقت الدولة نصف هذه الأموال التي تُهْدِرُها في هذه المهرجانات، في تنظيم مهرجان للزواج الجماعي كما يفعلون في السودان أو الأردن، لقدمت خدمة للناس أفضل من مهرجانات الغناء، وعندما ننقذ الناس من العزوبية والعنوسة، فلا بأس حينئذ أن نستمع للغناء. نأكل أولا، ونتعلم ثانيا، ونتزوج ثالثا، ورابعا من شاء أن يغني فَلْيُغَنِّ. خاتمة كتب عمر بن العزيز إلى عبد الحميد بن عبد الرحمن وهو بالعراق أن أخرج للناس أعطياتهم، فكتب إليه عبد الحميد إني قد أخرجت للناس أعطياتهم، وقد بقيفي بيت المال مال! فكتب إليه أن انظر كل من ادَّان في غير سَفَهٍ ولا سَرَفٍ(4) فاقض عنه، فكتب: إني قد قضيت عنهم، وبقي في بيت مال المسلمين مال، فكتب إليه: أن انظر كل بكر ليس له مال فشاء أن تزوجه فزوجه وأصدِقْ(5) عنه، فكتب إليه: إني قد زوجت كل من وجدت، وقد بقي في بيت مال المسلمين مال ..... ) (6) انظروا رحمكم الله كيف أن أموال المسلمين تنفق لتزويج أبناء المسلمين وبنات المسلمين، لا لإفساد دينهم وتخريب أخلاقهم. كان عمر ابن الخطاب رضي الله عنه يقطع يد السيد حين يَسرق عبدُه، لأنه هو من جَوَّعَه واضطره للسرقة، فماذا لو زنى إنسان، وسبب زناه إثارة في الشارع، والإعلام، والمهرجانات، ثم ضيق في الرزق، وعدم قدرة على الزواج؟. على من يجب الجلد والرجم؟؟؟. هذا هو القول المُغَيَّب أقول الغائب في فتوى الفقيه النائب. وإلى فتوى عجيبة جديدة، في قضية أخرى فريدة، أقول لكم: في أمان الله. الهوامش: 1 - ابن قيم الجوزية في بدائع الفوائد، ج4 / ص906 / ط مكتبة نزار الباز- مكة 1416 2 - سورة المومنون الآية 7 3 - سورة النور 33 4 – ادان: أصبح مدينا، تراكمت عليه الديون، سفه: من السفاهة وهي تبذير الأموال التي جعلها الله للناس قيما، والسرف ضد التقتير، أوصى عمر عامله ألا يقضي الديون عن الذين ترتبت عنهم بسبب السفه والسرف، رحمه الله. ماذا لو رأى ما يصنع المبذرون إخوان الشياطبن بأموال عباد الله في زمننا هذا؟ ماذا كان سيقول؟ 5 – أصدق عنه: أَدِّ صداقه من بيت مال المسلمين. أي مصاريف الزواج 6– أورده أبو عبيد في كتاب الأموال. [email protected]