يعد الصديق الدكتور محمد جبرون من القلائل الذين ينتقدون بصراحة قوية من داخل دائرة الإسلاميين. ورغم أن انتقاداته كثيرا ما تثير ردود فعل ضده يصل بعضها حدودا غير معقولة، فهو مصر على الاستمرار في التعبير الحر والنقد الصريح. وهذه خصلة ناذرة، رغم ما يسجل معها من ملاحظات، ينبغي التنويه بها والدعوة إلى توسيع المتحلين بها. لكن أحيانا حين تقرأ للفاضل محمد جبرون، تتساءل عن المرجعية التي يقارب من خلالها الواقع ويحلل بناء عليها المستجدات. وأقصد بالمرجعية القواعد الأساسية التي تحكم أي ناظر في قضايا الناس والمجتمع في مجال من المجالات. وحين يتعلق الأمر بالشأن الحزبي والسياسي العام نبحث عن تلك المرجعية في تراث الإنسانية في مجال الديمقراطية وحقوق الإنسان، وفي إطار التراث الإنساني في مجال الأحزاب وأدوارها الحقيقية في المجتمعات ووظائفها السياسية والتأطيرية فيها. والفاضل جبرون أحيانا لا تلمس اعتماده تلك المرجعيات التي تمت الإشارة إليها بشكل عام، أو انطلاقه منها أو حتى من نقدها. فهو أحيانا يخوض في النقد والتقويم بآرائه "المجردة"، مما يجعل تقييم استنتاجاته شبه مستحيل لمن يلتزم قواعد حرية الرأي والتعبير، حيث يمكن لأي شخص أن يقول أي شيء، مادام يحترم الأخلاقيات التي تنظم النقاش والحوار. وآخر ما كتبه د. جبرون ويدخل في هذا الإطار، تدوينة له على صفحته بفايسبوك تحت "عنوان" : "إن الشعب المغربي هو الآخر سيشكر بن كيران كما شكره جلالة الملك من خلال بلاغ ديوانه". وهذه التدوينة نشرتها إحدى الجرائد اليومية دون الاشارة إلى مصدرها ولا تميز ما إذا كانت تصريحا لتلك الجريدة أو مقال رأي أو اقتباس بعد الإذن. وأكثر ما يثير الاهتمام في تلك "التدوينة/المقال" فقراتها الثلاث الأخيرة والتي سوف نناقشها. ورغم أن فقرتان منها بدأها د جبرون بعبارة "يجب الاعتراف ب …" وهو خطاب يعلم جيدا أنه يدخل ضمن أدبيات الخطاب الوعظي، والخطاب الوثوقي، والخطاب التوجيهي، فإنه ينبغي وضع تلك العبارة في سياق كون د. جبرون يكتب تدوينة فايسبوكية وليس مقالا أكاديميا. الأحزاب والملك والمشروع الإصلاحي في الفقرة الأولى يقول الفاضل جبرون: "يجب الاعتراف بأن المشروع الإصلاحي ببلدنا هو مشروع يقوده جلالة الملك محمد السادس، وأن الفاعلين الحزبيين بما فيهم البيجيدي هم ديناميات في إطار هذا المشروع أو على الأقل هذه هي الصورة التي يجب أن يكون عليه الوضع". بدءاً هذا الخطاب لا نجد إلا في الإعلام الرسمي، وعلى لسان رجالات الدولة والسياسيين الرسميين، ومن يدور في ذلك الفلك. فبالنسبة لهؤلاء، وتماشيا مع نظرة تقليدية تفيد أن كل شيء يدور حول شخص الملك، فالخير كله منه، والأمر كله له، وكل المنجزات المفيدة فهي منه، وكل النجاحات فهي من حكمته. وهذا الخطاب المثالي المبالغ، الذي لا تخفى مرجعيته السياسية وأهدافه المتعلقة بالرأي العام، لا يسقط فيه المحلل ولا المفكر ولا الناقد السياسي. أما مفهوم القيادة المشار إليه فيطرح التباسا كبيرا لا يميزه العموم، فمن حيث الواقع التاريخي والدستوري، فجلالة الملك هو رئيس الدولة وقائدها الفعلي، ومن هذا المنطلق فنسبة قيادة "المشروع الإصلاحي" إليه، إن كان هناك بالفعل ما يمكن تسميته كذلك، تأكيد لواقع طبيعي. لكن بالرجوع إلى مفهوم "المشروع الإصلاحي" بالشكل الذي طرح به، نجده ينطوي على رؤية خاصة لدور الأحزاب السياسية. وفي غياب مشروع واحد ناضم في المغرب يمكن وصفه ب"المشروع الإصلاحي" ونسبته إلى هذه الجهة أو تلك فنحن أمام "مشاريع إصلاحية" جارية متعددة. و رغم ما يسجل عليها من قصور، يصل أحيانا درجة من العبثية، نجد ما تساهم فيه الحكومة من خلال مشاريعها في مختلف المجالات ومن خلال السياسات العمومية التي تضعها، ومنها ما تساهم فيه الأحزاب الممثلة في البرلمان (أغلبية ومعارضة) من خلال اعتماد النصوص التشريعية التي لا يخفى على د. جبرون دورها في الإصلاح. بل نجد مشاريع إصلاحية جارية على مستوى الجماعات الترابية، ومشاريع إصلاحية ينخرط فيها المجتمع المدني هنا وهناك…. فعن أي إصلاح نتحدث؟ وعن أي مشروع إصلاحي نتحدث؟ وأين هو "المشروع الإصلاحي" الذي يجعل د. جبرون الأحزاب السياسية فيه مجرد ديناميات؟ إن الدور الذي حدده د. جبرون للأحزاب في صورة قال إنها "الصورة التي يجب أن يكون عليه الوضع" هو نفسه الدور الذي تسعى الدولة المخزنية التقليدية، التي لا علاقة لها لا بالديمقراطية ولا بحقوق الإنسان ولا بطموحات الشعب المغربي التواق إلى مجتمع عصري ديمقراطي، ولا بصورة الملك محمد السادس نفسه، إلى تحديده للأحزاب. فالأحزاب في تلك النظرة هي مجرد ديكور في مشهد مزيف للديمقراطية. وفي إطار تلك الصورة لوظيفة الأحزاب تمت دائما صناعتها في مكاتب وزارة الداخلية، أو حشرها في خانة مواجهة الملك ومحاربتها حين لا تكون لها قابلية فقد استقلاليتها والتحول إلى أحزاب التعليمات! ومعلوم أن دور الأحزاب ووظيفتها هي من قضايا الصراع القديم والمستمر بين الدولة المخزنية وقوى المجتمع، فانتصر د.جبرون مع الأسف فيما ذهب إليه للنظرة التقليدية المحافظة التي حاربتها كل القوى الديمقراطية في المغرب مند الاستقلال. وتلك النظرة لا مجال فيها لأحزاب مستقلة تملك مشاريع مجتمعية تسعى إلى تنزيلها من خلال آليات ديمقراطية تبدأ ببرامج انتخابية تتعاقد من خلالها مع المواطن، وانتخابات حرة ونزيهة، وصناديق اقتراع عادلة وشفافة تحسم بين مختلف برامج الأحزاب، وتنتهي في سياسات عمومية ومشاريع قوانين تعتمدها المؤسسات الدستورية التي يعتبر الملك الساهر على حسن سيرها. وهذا النموذج لا يمكن أن يستوعب الصورة التي قدمها د. جبرون للعلاقة بين الأحزاب والملك وما أسماه "المشروع الإصلاحي". نهاية مقولة مواجهة التحكم! في الفقرة الثانية، يقول د. جبرون:"يجب الاعتراف، أيضا، أن هذه اللحظة (إعفاء ذ ابن كيران واحتمال عدم انتخابه أمينا عاما مرة ثالثة) تعني نهاية مقولة اسمها مواجهة التحكم، ونتمنى أن تكون حافزا للقيادة الجديدة لمراجعة خطاب الحزب، ورأب الصدع، وإدماج الحزب في الأجندة الوطنية". في مناقشة هذه الفقرة سوف لن نقع في فخ مصادرة د. جبرون حقه في الرأي المجرد، ولكن بالنظر إلى طبيعة الرسائل المتضمنة في بعضها أرى التوقف عند أمرين. الأمر الأول حديثه عن "نهاية مقولة اسمها مواجهة التحكم"، وهو موقف متسرع ومتهافت في نفس الوقت. فالتحكم، بما هو فساد سلطوي يعمل على ضبط المشهد السياسي وتسخيره لخدمة أجندات خاصة لا تخدم الصالح العام، فالفاضل جبرون يحصر مواجهته، من جهة أولى، في حزب العدالة والتنمية، في حين أن مواجهة التحكم، بغض النظر عن التسمية المحدثة للظاهرة، هو ديدان النضال الحقوقي والسياسي في المغرب مند الاستقلال. ومن جهة ثانية يربط حضور شعارات ومواقف مواجة التهكم داخل حزب المصباح بشخص ذ عبد الإله ابن كيران وموقعه التنظيمي والسياسي. والواقع أن ثقافة مواجهة التحكم لا ترتبط بعبد الإله ابن كيران وإن كان من كبار الفاعلين فيها، بل هي ثقافة منتشرة داخل الحزب على مستوى قياداته وعلى مستوى قواعده. ولو تحدث جبرون عن احتمال مراجعة الحزب موقفه من مواجهة التحكم بناء على تقييم مواقفه من التحكم في ظل التطورات الأخيرة لكان ذلك أقرب إلى التقبل النسبي، إذا وضع في احتمال وقوع تحولات داخلية في الحزب بعد تعيين شخص ثان منه لتشكيل الحكومة. ورغم ذلك ليس هناك مؤشر واحد يساعد على الحديث عن هذا الافتراض الآن. الأمر الثاني، والذي يعتبر غريبا وخطيرا في الآن نفسه، هو تمني جبرون أن تكون التحولات التي عرفها موقع ذ ابن كيران والتي سيعرفها قريبا " حافزا للقيادة الجديدة لمراجعة خطاب الحزب، ورأب الصدع، وإدماج الحزب في الأجندة الوطنية". فعن أي صدع يتحدث السيد جبرون؟ لا يوجد في تدوينته ما يساعد على الإجابة. فحزب المصباح ليس فيه أي صدع، ولا يوجد في المغرب أيضا أي صدع يمكن فهم علاقته بأي حزب وبحزب المصباح بالخصوص. لكن الخطير أن يتحدث د. جبرون عن أن يكون ما وقع محفزا للقيادة ل"إدماج الحزب في الأجندة الوطنية"! فماذا يقصد السيد جبرون بهذا؟ فهل يوجد حزب المصباح في أجندة غير وطنية؟ هل هي أجندة أجنبية مثلا؟ من الصعب التوقف عند تلك العبارة دون إثارة أسئلة كبيرة حول تلك الرسالة الملغومة التي تتضمنها. فهل يملك جبرون الشجاعة الكافية للكشف عن الأجندة غير الوطنية لحزب العدالة والتنمية؟ وهل يتعلق الأمر بتهمة "العلاقة مع الخارج" التي أصبحت عملة رائجة في إعلام التحكم وقاموسه في مواجهة الفاعلين السياسيين المقاومين لمشاريعه ومواجهة المجتمع المدني الحقوقي بالخصوص؟ بل كيف يستقيم ذلك مع التوصيف السابق الذي قدمه السيد جبرون و جعل فيه الأحزاب كلها، بما فيها حزب المصباح الذي يرى ضرورة "إدماجه في الأجندة الوطنية"، مجرد ديناميات في المشروع الإصلاحي الذي يقوده الملك؟ كيف يستقيم ذلك التوصيف وموقع حزب المصباح في ذلك المشروع، وهو الذي قاد الحكومة السابقة لخمس سنوات كاملة وهو الذي يعمل حالية على تشكيل حكومته الثانية؟ هل الملك الذي يقود المشروع الاصلاحي يقبل بتبوؤ حزب ليس في الأجندة الوطنية شريكا له في قيادة ذلك المشروع؟ أم أن الملك، بما جعل له الدستور من مسؤوليات سياسية، لا علم له بما ينفرد الدكتور جبرون بعلمه من حاجة حزب المصباح إلى أن يدمج في الأجندة الوطنية؟ إنه في إطار إبداء الرأي دون مرجعية واضحة وضابطة، والذي يمارسه د. جبرون بحرية، يمكن أن يتهمه الناس أيضا اتهامات خطيرة بعيدة عن واقع الحال، مثل هل تحول الدكتور جبرون إلى مخرج لخطاب التحكم في لبوسات نقدية وفكرية؟ أم أنه وقع ضحية الإعلام الذي ينسج حول حزب البيجيدي بالخصوص صورة حزب ينفذ أجندات جهات أجنبية؟ وبالطبع نبرئ السيد جبرون من هذه التهم ومثلها. "الجبرية التاريخية"! الفقرة الثالثة التي اخترنا التوقف عندها في هذا المقال هي قوله " إن المصير الديمقراطي للمغاربة هو مهمة حصرية للتاريخ فلنتركه يفعل فعله، ولا يجب أن ينصب أحد نفسه بدلا عنه، ويسعى لتحولات قصرية". وواضح هنا د.جبرون لا يقدم التاريخ كمسار يصنعه الإنسان، ويمكن أن يغير مجراه المستقبلي بنشاطه في الحاضر، بل يقدمه ككائن فوق بشري يتصرف من تلقاء نفسه، على الإنسان أن يستسلم له ليصنع له حصريا مصيره الديمقراطي ويتركه يفعل فيه فعله. والسيد جبرون يعلم جيدا أنه بمجرد الحديث عن التاريخ، يحضر صانع ذلك التاريخ الذي هو الإنسان فيما نحن بصدده، وبمجرد الحديث عن الديمقراطية تحضر الحقوق الأساسية ويحضر التعدد والاختلاف والمبادرة والمبادرة المضادة، ويحضر التنافس السلمي على السلطة… والاحتكام في نهاية المطاف إلى صناديق الاقتراع. فالمصير الديمقراطي يصنعه الفاعلون بمختلف أنواعهم بما فيهم الإرث التاريخي، وتتوقف توجهاته وجودته على قوة كل فاعل وعلى شبكة هؤلاء الفاعلين وطبيعتهم. وهؤلاء الفاعلون هم الدولة ومختلف مؤسساتها، والملك والأحزاب والمجتمع المدني والمواطن والفاعل الاقتصادي وغيرهم، وتوظف في صناعة ذلك المصير آليات الاستيعاب وصناعة الرأي العام والتنشئة الاجتماعية والتشريع…، وتتم العملية كلها عبر قنوات التعليم والإعلام والمؤسسات التشريعية والدينية وغير ذلك، ويحضر التاريخ بإرثه في كل مجال من مجالات التغيير، فيتم تغيير ذلك الارث التاريخي بقدر ما يوجه له من جهود التغيير في إطار ميزان القوة بين مختلف الفاعلين. إن ما طرحه د. جبرون في الفقرة التي نناقشها يضعنا أمام مفهوم للديناميكية السياسية تجعلها أقرب إلى الجبرية، وإن كانت الجبرية بمفهومها العقدي يسلم ضمنها الإنسان المسلوب الإرادة والفعل الأمر لله، فإن "الجبرية التاريخية" للسيد جبرون لا وجود لفاعل فيها يمكن إدراك كيف يشتغل بشكل حصري؟ ولماذا ينبغي الاستسلام له؟ فمن هو "التاريخ" الذي ينبغي أن نتركه يصنع مصيرنا الديمقراطي بشكل حصري؟ هل المقصود أن نستسلم اليوم لما قد تم إرساؤه من قبل ممن سبقونا؟ وهل استسلم هؤلاء الذين سبقونا لمن قبلهم؟ أم المطلوب أن نستسلم للتحكم، بما هو إرث تاريخي، ليصنع مصيرنا الديمقراطي؟ ومن أعظم العجب العجاب أن ينتظر أي شخص من التحكم أن يصنع مصيرا يمكن وصفه بالديمقراطي. إن الإنسان هو من يصنع تاريخه، وهو من يصنع مصيره في تعامله مع الواقع الذي لا شك أن الإرث التاريخي جوء منه، والإرث التاريخي عند المثقف الملتزم (المستقل في فكره وتفكيره وآرائه تجاه مختلف الفاعلين، الرافض للفساد، والمعتنق لقيم الكرامة والحرية، والحريص على تقدم المجتمع الفكري والحقوقي …) يتعامل معه بمقاربات نقدية وليس بمقاربات استسلامية. مع أنه لو كانت "الجبرية التاريخية" سنة كونية لتوقف التاريخ مند بدايته الأولى ولانتهى كل شيء غير الوهم. إن ما سبق لا يغير منه شيء حديث د.جبرون في آخر الفقرة عن "السعي إلى تحولات قصرية"، لأن التحولات القصرية تقارب بالخيارات الثورية والانقلابية والعنيفة، وهي خيارات لا وجود لها، سواء في المرجعية أو الخطاب أو الممارسة، حين نتحدث عن حزب العدالة والتنمية المشارك في المؤسسات والمقدم للتنازلات، اللهم إلا إذا كان امتلاك الحزب لرأي مخالف لرأي السلطوية في تشكيل الأغلبية الحكومية وحفاظه على استقلالية قراره السياسي والتنظيمي، زاحترامه لمؤسساته، عملا قصريا! والحديث عن "القصرية" (ليس بالدارجة!)هو في الأخير مجرد حكم قيمة، وأحكام القيمة من أخطر ما يساهم في تزييف الوعي الذي هو أول ما يحاربه المثقف الملتزم. إنه من الصعب من منظور ديمقراطي وسياسي وفكري مجرد تصور الصورة المركبة التالية المستقاة من توصيف جبرون: الملك يقود "المشروع الإصلاحي" وكل الأحزاب السياسية مجرد ديناميات فيه، في سياق مصير ديمقراطي التاريخ وحده من سيصنعه! إننا أمام اللا منطق وأمام حالة ينتهي فيها الفكر والسياسة معا. ثم لماذا لم يلتزم السيد جبرون هو نفسه بنظريته حول "الجبرية التاريخية"؟ لماذا يكافح بأساليب "قصرية" من أجل أن يساهم في تغيير مسارات عدة، سواء داخل حزب العدالة والتنمية أو في المجتمع؟ لماذا لا يكتفي برصد صورة التاريخ يصنع المصير؟ ما قيمة "النقد القصري" الذي يمارسه؟ و ما هو دور كتاباته النقدية؟ سيقول البعض إنه يمارس كل ذلك بمقاربات غير قصرية. وهنا سنختلف اختلافات عظيمة حين ندخل عالم أحكام القيمة، وحين نستحضر ثقافة التنظيمات التقليدية، بما أن جبرون يناصر التقليدانية السياسية، حيث يعتبر النقد في العلن وفي الاعلام بالخصوص عنفا ضد تلك التنظيمات. فإذا جاز للسيد جبرون اعتبار ما يتخذه حزب المصباح من مواقف سلمية ومشروعة في مواجهة التحكم، وهو ضعيف على كل حال، عملا قصريا، فإنه بالمثل يقع في نفس الممارسة القصرية حين ينتقد ذلك بأحكام القيمة وفي الاعلام! والمثقف لا يتناقض فعله وفكره أبدا. إن دعاة الجبرية عبر التاريخ هم أول من يخالفون مقولاتها الأساسية، وذلك حين يجتهدون لإحداث أي نوع من التغيير في الواقع أو في الفكر. إن الإنسان دائما هو جوهر التغيير والفاعل الأول فيه، وإن مصير المجتمعات بيدها هي ومن صنع أبنائها، وحجم حضور التاريخ في المستقبل لا يكون إلا بقدر ما يعجز الناس والمجتمعات في الحاضر عن إحداث قدر من التغيير الذي يحدث قدرا مناسبا من التغييير فيه أو حتى "القطيعة" معه. والتحكم، بما هو منظومة من علاقات السلطة والمال فاسدة لا تخدم المواطن والمجتمع إلا بقدر ما تنتفع هي، وإن كانت بنياته لها امتدادات في التاريخ، فدور المثقف الملتزم والسياسي الديمقراطي هو العمل على نقده وإحداث تراكمات في الوعي والممارسة تهدف إلى تحرير الدولة والمجتمع والمواطن منه في الحاضر والمستقبل، وليس الدعوة إلى الاستسلام له، وبهذا يمكن بناء المصير الديمقراطي الحقيقي.