ما حدث في فلسطين عبر جولة الانتخابات التشريعية الأهم؛ كان تحوّلاً سياسياً تاريخياً بكل المقاييس، فالمواطنون الفلسطينيون قد اختاروا وجهتهم للمرحلة المقبلة، ليفاجئوا كافة الأطراف الضاغطة بتحديد خياراتهم بصورة مستقلة عن كافة المؤثرات الخارجية المكثفة التي مورست عليهم ببراعة في الآونة الأخيرة. فحركة المقاومة الإسلامية "حماس" باتت تمسك اليوم عملياً بالإطار التشريعي الفلسطيني، وبالجهاز الحكومي أيضاً، وبوسعها أن تصنع المستقبل وفق الطريقة التي حددتها لنفسها. لم تكن جولة الانتخابات التشريعية اختباراً يسيراً بالنسبة لكافة القوى الفلسطينية، وفي مقدمتها حماس وفتح، طالما أنّ الجميع قد ارتأى أنّها حدث مفصلي غير عابر، وأنه سيكون له ما بعده. كما أنّ هذا الاختبار لم يكن داخلياً صرفاً، طالما أنّ الساحة الفلسطينية وُضعت خلال ذلك تحت البؤرة الإسرائيلية والأمريكية والأوروبية، علاوة على الرصد الدقيق للاستحقاق الانتخابي في العواصم الإقليمية والعربية. كافة المؤشرات تضافرت مؤخراً بما يفيد الاستنتاج بأنّ تحوّلاً جارفاً وعميقاًَ جرى في الساحة الفلسطينية، لكنّ هناك من حاول على ما يبدو التعمية على الوقائع والحقائق، بالصورة التي ألجمت الكثير من المراقبين اليوم، بعد تكشّف الخيارات التي حددها الناخبون الفلسطينيون في جولة "التشريعي". يبقى أنّ هذه الجولة قد أخرجت الوقائع والحقائق الفلسطينية إلى واجهة المشهد، وأنّ حالة فلسطينية جديدة قد نهضت، على شتى الأصعدة، لا مناص من الإقرار بها، والاعتراف بها. المأزق الانتخابي الذي أفرزته صناديق الاقتراع في جولة التشريعي، كما في جولات الانتخابات البلدية الماضية؛ ليس في جوهره مأزقاً لحركة فتح، التي عليها أن تتعايش مع اللعبة الديمقراطية بكل احتمالاتها، وأن تودع حقبة الحزب الواحد إلى غير رجعة، وأن تستلهم أيضاً الكثير من الدروس والعظات من أصوات الناخبين التي انصرفت إلى غيرها. ما هو في حكم المؤكد أنّ المأزق الفعلي قد وقع فيه الجانب الإسرائيلي، الذي صمّم سياساته كلها على أساس وجود طرف فلسطيني مفترض يقبل بالتعاطي معه مهما كانت سقوف، وبلا خطوط حمراء. لقد انهارت هذه الاستراتيجية الضخمة بصورة كرتونية، ومن الواضح أنّ المستوى السياسي الفلسطيني بات محصناً اليوم أكثر من أي وقت مضى للتعامل الاستعمالي المزدوج معه، كما بات مهيئاً لأن يقول لا كبيرة، كلما لزم الموقف. يمكن في السياق العثور على خاسر آخر في المشهد، هو تلك السياسة الأمريكية المنحازة تلقائياً إلى أجندة الاحتلال، وهي التي تعاملت من الساحة الفلسطينية بمنطق المعايير المتعددة والرسائل المتناقضة، وبما يتماشى مع رؤى الجانب الإسرائيلي. يذكر الجميع اليوم أنّ واشنطن هي التي كانت لوحّت بمطلب دمقرطة النظام الفلسطيني الناشئ، وهي التي سعت مراراً وتكراراً إلى إفراغ العملية الديمقراطية من محتواها عندما ألقت بثقلها ضد فرص حماس الانتخابية. وهي واشنطن أيضاً التي طلبت نتائج مبرمجة سلفاً من صناديق الاقتراع، لكنّ الشعب الفلسطيني برهن هذه المرة، كما في غيرها، أنّ أجندته لا تقبل المساومة، وأنه مبرمج ذاتياً وفق رؤاه المستقلة. فالمأزق الأمريكي يضع واشنطن بين خيار الاعتراف بنتائج الانتخابات وبما يترتب عليها؛ أو عدم الاعتراف بالشعب الفلسطيني ذاته صاحب القرار والاستقلالية. بالوسع اليوم، استعراض حسابات الربح والخسارة في أول انتخابات جدية تشهدها الساحة الفلسطينية، ومن المؤكد أنّ الرابح الأكبر في هذا الاختبار الكبير يبقى هو الشعب الفلسطيني، الذي قال كلمته بصرامة ووضوح، كعادته دوماً.