بعد توفيق الله وتيسير السبل تم التسجيل المبكر في قائمة الحجاج، وتم إعداد الأوراق الإدارية والطبية، ثم بقي الشوق ملازما لي لمعرفة موعد الانطلاق إلى مدينة الحبيب المصطفى عليه أفضل الصلاة والسلام،حيث المسجد النبوي الشريف الذي يشرع إليه شد الرحال،ابتغاء الأجر والثواب، والانتقال بالجسد إلى حيث تهفو الروح منذ فترة الإدراك واستقرار الإيمان، وقد كان يوم الأربعاء الماضي هو اليوم الموعود، حيث انطلقت بنا طائرة الخطوط الملكية المغربية على الساعة الثامنة وعشرين دقيقة. وقد أعجبني تذكير المتحدث باسم طاقم الطائرة بدعاء الركوب ودعاء السفر، والدعاء بأن يكون الحج مبرورا والذنب مغفورا والسعي مشكورا، كما أعجبني التذكير بأوقات الصلوات، وكذا اختفاء أم الخبائث عن التداول بخلاف ما يحدث في الرحلات العادية. وتمنيت أن تعم سنة دعاء الركوب والسفر والتذكير بأوقات الصلوات وكذا التميز بعدم تقديم الخمرة للمسافرين، وذلك في جميع رحلاتنا الجوية وليس فقط تلك المتوجهة إلى الديار المقدسة. وقد كانت الخدمات لا بأس بها، إلا ما كان من إغفال توفير الأكل المناسب لذوي الحالات الخاصة كمرضى السكري، حيث أرجع الطاقم ذلك إلى عدم الإخبار المسبق بذلك، والحال أن الحجاج هذه السنة لم يباشروا استخلاص تذاكرهم بأنفسهم، كما تميزت الرحلة على الطائرة بعرض شريط مفصل لمناسك الحج والعمرة، وكذا تزويد المسافرين بمعلومات حول موقع الطائرة ودرجة علوها ودرجة الحرارة في الأجواء العليا وغيرها، وما أثارني في الخريطة المعروضة التي تبين تقدم الطائرة عدم اعترافها بشيء اسمه القدس أو فلسطين، إنما الذي يظهر هو إسرائيل وتل أبيب ونفس الشيء وجدته في خريطة بمجلة الخطوط الملكية المغربية، هذه الأخيرة التي تتحف المسافرين بإشهارات الخمور وكازينوهات القمار وبعض الصور التي لا تنسجم مع أصالة وهوية الشعب المغربي مع إغفال واضح للمآثر التاريخية والحضارية التي تزخر بها البلاد كالكتبية وحسان وغيرها.. وصادفت في ركن عددا من الجرائد الوطنية فرأيتالصحراءو العلم والاتحاد الاشتراكيوالأحداثوالمنعطفوغيرها، وبحثت عن جريدة التجديد فلم أجدها، تماما كما حدث في رحلة سابقة مع الخطوط الملكية، فتساءلت: هل هو الحصار والإقصاء يطاردها في الجو كما في الأرض.. ولم يكن يتراءى لنا شيء من اليابسة حتى قاربنا الخروج من الأراضي المصرية، حيث يرى النيل خيطا رقيقا وسط صحراء مترامية، لتخترق الطائرة البحر الأحمر بسرعة وتشرع في تقليص علوها في الأراضي السعودية، حيث تظهر الجبال القاحلة الشاهقة لتذكرنا بما تكبده الفاتحون الأولون لتبليغ الإسلام للعالمين.. وقد حطت بنا الطائرة بمطار المدينة حوالي الساعة الخامسة بتوقيت المدينةالمنورة فاقدين لذلك لثلاث ساعات بحسب الفارق الزمني، وتذكرت حينها دعاء دخول البلدان والذي فيه ..أسألك خير هذه القرية وخير أهلها..وكأني تحرجت من إتمام الدعاءوأعوذ بك من شرها وشر أهلها..لما غلب على ظني من استبعاد الشر فيها، ثم أتممت مسلما لأن الله ورسوله أعلم وأحكم.. وقد كانت الإجراءات ميسرة بحمد الله، أفضل بكثير مما يحكى عن المرور بجدة لضخامة مطارها، وأيسر بكثير من مطارنا لتعدد الشبابيك،إلا ما كان من خلط وتشتيت الحقائب والأمتعة عوض حملها مباشرة من الشريط الآلي مما أحدث شيئا من الفوضى بين الحجاج أنستنا فيها معانقة أرض الحبيب عليه أزكى الصلاة والتسليم. وجدنا الحافلات التي ستنقلنا إلى مقر إقامتنا في انتظارنا،وارتاح الناس لرؤيتهم أفرادا من البعثة المغربية في خدمة الحجاج وتيسير تواصلهم مع الإدارة السعودية،وقد اختلطت فرحة الوصول مع بعض المتاعب اليسيرة،التي تبقى طبيعية في ظل ضخامة الأعداد الزائرة لمدينة الرسول صلى الله عليه وسلم،ومن ذلك ذهاب متاع بعض الحجاج إلى فندق مغاير لإقامتهم في الوقت الذي قيل لهم إن الحافلات جميعا ستتجه إلى مكان واحد، والحال أنها توزعت بين ثلاث فنادق، مما اضطر بعضهم إلى أن يستقلوا سيارات أجرة للبحث عنها وآخرون وعدوهم بإيصالها لهم بعد يومين، ولم يتوصل بها البعض إلا بعد ثلاث.. وقد اجتهد أفراد البعثة المغربية لتوزيع الوافدين على غرف الفنادق والفصل بين الرجال والنساء غير أن إصرار بعض الحجاج على البقاء مع رفيقاتهم أربك هذا التنظيم وتم الإبقاء على الاختلاط في عدد من الغرف، وفي ذلك ما فيه من الحرج .. وما إن استقر الحجاج حتى سارعوا الخطى للصلاة في المسجد النبوي زاده الله شرفا ومكانة ومهابة وفضلا للظفر بأجر ألف صلاة لكل صلاة،وكذا الصلاة في الروضة الشريفة التي قال عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة ومنبري على حوضي . ثم السلام على رسول الله في قبره والشهادة بين يدي الله بأنه أدى الأمانة وبلغ الرسالة وجاهد في سبيله حق جهاده،والسلام على الصديق أبي بكر رضي الله عنه، والشهيد الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وإنها لحظات لا تكاد توصف يعجز عنها كل بيان ويخرس عندها كل لسان،ويرقى الحال إلى مقام تعجز دونه الأقلام.. إنها البقعة المباركة الميمونة دار الهجرة، وسكن الأنصار، وموطن عدد كبير من الصحابة الكرام ومهبط الوحي، ومثوى رسول الله صلى الله عليه وسلم، و دار المجتمع الإسلامي الأول، ومنطلق الجيوش الإسلامية الفاتحة، وسيدة البلدان، وعاصمة الإسلام الأولى، فيها يجتمع التاريخ بالإيمان،والحضارة بالمبادئ ،يختلط فيها الماضي بالحاضر وأنت تتجول بين دروب المدينة وتخترق شوارعها،فتصادف وأنت في الطريق السيار خرجات مكتوب عليها طريق أبي بكر، طريق سيد الشهداء، طريق خالد بن الوليد..تبوك..أحد، وتجد اسم الأنصار مكتوبا على جدار أكثر من عشرة فنادق لا يميزها إلا الإسم الثاني المضاف إليه...إنها بقعة جل ما فيها يدعوك للزيارة وشد الرحال، لتقتفي أثر الرسول ليس فقط في اتباع السنن وإنما أيضا لتتلمس خطى الحبيب فتضع الأقدام على الأقدام..