معضلة الترامي على الأملاك العمومية واختلاس المال العام ابتليت بها بلادنا منذ عقود طويلة، حتى أصبح لهذا الترامي فنون وأشكال وصيغ متعددة، وتعتبر أراضي الجموع من الجدران القصيرة التي يسهل على الكثيرين ممن ولغوا في المال والملك العمومي القفز عليها، حيث تكون هذه الأراضي غالبا من الأملاك التي لا بواكي لها، وقلما تجد من ينافح عنها ويرد عنها أيادي المترامين. لكن شبابا من دوار كومّة بجماعة مصمودة، دائرة وزان، برهنوا بحدث صنعوه في الشهور الأخيرة أن الترامي على الملك العام يمكن مواجهته والتصدي له إذا وجدت الإرادة وتحقق التعاون وتضافرت الجهود. عندما يجتمع الشباب ويتعاهدون على تغيير المنكر ولو كره الشيوخ، فإن ذلك مؤشر على أن هذا البلد ما يزال فيه الكثير من خميرة النهوض، وأن سواعد الإصلاح موجودة في كل مكان وتحتاج فقط إلى من يحركها ويوجهها. كيف استطاع شباب دوار كومّة أن يعيدوا للمصلحة العامة أرضا ترامى عليها آباؤهم وأجدادهم عقودا من الزمن؟ وكيف استماتوا في إقناع شيوخ الدوار بالتوبة عن أكل الحرام؟ كيف انتصرت ساكنة الدوار على هواها وغلبت المصلحة العامة على مصالحها الشخصية؟ تفاصيل التوبة الجماعية لدوار كومّة تنقلها لكم >التجديد< من أفواه ساكنته في الاستطلاع التالي: دعاوى فاشلة ضد الآباء المترامين دوار كومّة تجمع سكاني قروي يبعد بحوالي عشر كيلومترات شرق وزان، مساكن بسيطة من الطين والأحجار تلتصق بسفح جبل صغير، تبعد عن الطريق المعبدة ببضع مآت من الأمتار، تقطنها حوالي 140 أسرة، وحول المساكن تنتشر حقول أهلها وأغراسهم، وبين البيوت أزقة ضيقة قد تصادف فيها قطيعا من المواشي أو سربا من الدجاج البلدي يقوده ديك بعرفه الأحمر المنتصب على هامته، وبين الفينة والأخرى لا بد أن يصادفك كلب هنا أو هناك يمارس مهمته النبيلة في الحراسة والدفاع عن بيت صاحبه، كل معالم البساطة والتواضع البدويين تنطق بها جنبات الدوار، معالم لم يكن يكدر صفوها من قبل حسب أحمد، أحد شباب الدوار إلا مشكل الترامي على حوالي 30 هكتارا من أراضي الجموع، مما تسبب في فتنة وخصومات بين الساكنة. هذه المساحة من الأراضي يشرح لنا عبد السلام، وهو أحد الشبان الذين تزعموا توبة دوار كومّة كانت خالية، وكانت بمثابة أرض للجموع تستغل للرعي من لدن من ليست لهم أراض، وتستغل كذلك فضاءات عمومية يلعب فيها الأطفال والشباب، وكانت فيها آبار يسقي منها من ليست لهم آبار، وعليها أقيمت المدرسة الوحيدة في الدوار والمسجد، ثم بدأ الناس يستولون على هذه الأراضي شيئا فشيئا، وكل واحد منهم يقتطع منها قطعة فقطعة مِمَّا حول أملاكه الخاصة ويضمها إليها، وبدأت المنافسة بين الناس على ذلك، حتى استولى بعضهم حتى على الطرقات العامة وأقفل المسالك، وتبلغ مساحة هذه الأراضي المستولى عليها حوالي 30 هكتارا. عندما استولى السكان على هذه الأراضي منذ عقود بدأوا يستغلونها في الفلاحة وفي السكن، وهناك من غرسوها بأشجار مثمرة، وكانوا يتغاضون عن بعضهم البعض، وانتفض الشباب ضد آبائهم، يضيف عبد السلام، وقد بدأت هذه العملية منذ حوالي 5 سنوات، ومنهم من رفعوا دعاوى قضائية ضد المترامين ولو كانوا آباءهم، ورد الآباء على الأبناء بعنف ومنهم من طردوهم من البيوت، ولكن رغم ذلك لم يستسلموا وتمسكوا بمبادرتهم وأصروا على تنفيذها. ما يستغرب له الكثير من شباب الدوار هو أن الجهات المسؤولة لم تتجاوب مع مبادرتهم لما رفعوا دعاوى ضد الآباء ليتراجعوا عن الترامي على الملك العام المتجسد في أراضي الجموع، خصوصا وأنها أراض تؤرخ لعبقرية أجدادنا الذين كانوا يفكرون في المصلحة العامة، يؤكد أحمد، فقد كانوا يقتطعون لهذه المصلحة العامة من أراضيهم ما يكفي لخدمتها، وهذا هو الإطار الذي تندرج فيه هذه الأرض التي خصصوها لعدة مصالح منها التعليم والفلاحة والرعي والسقاية، حيث كانت فيها الآبار والعيون، وكذلك المقابر وأماكن مخصصة للعب الأطفال، وكان على الجهات المسؤولة لما رفع إليها أمر هذا الترامي أن تتحرك وتعيد هذه المصالح العامة التي تعطلت بسبب الاستيلاء على أراضي الجموع. أراضي الجموع في هذه المنطقة تتوزع على ثلاثة أماكن وهي: الأرض المسماة الخميس والأخرى المسماة القلعة ما تزال تعرف تراميا رغم تحفيظها والثالثة تسمى الكيسة والأراضي المنتشرة وسط دوار كومّة، وهي التي استرجعها الشباب من المترامين، وأرض رابعة تحده مع دوار الريحيين، وقد نشأت نزاعات حول بعض هذه الأراضي، وخصوصا أرض الخميس، بين دوار كومّة ودوار جبل الحرش، ويبلغ مجموع أراضي الجموع المحيطة بالدوار حوالي 250 هكتارا، فلنتأمل إذن كيف أن أجدادنا كانوا يقدمون المصلحة العامة ويعظمونها إلى درجة أن يخصصوا لها كل هذه المساحة، في دوار هو أصلا صغير المساحة. وإذا الانتخابات فرَّقت وكما أن الانتخابات تعرف مناسباتها بالتجاوزات القانونية والتغاضي عنها، بل وحمايتها، ممن لهم مصالح انتخابية، كالتغاضي عن البناء العشوائي في المدن أو استغلال الواجهات والأملاك العمومية مقابل كسب الدعم الانتخابي من المتجاوزين والمترامين، فإن سماسرة الانتخابات في دوار كومّة لم يشكلوا استثناء عن هذا النهج الإفسادي، بل سعوا إلى حماية المترامين على أراضي الجموع بالدوار وتشجيعهم وتسهيل الأمر لهم، فالسبب الأول لهذا الترامي في الحقيقة هو الانتخابات، يوضح عبد السلام، فقد قسمت الدوار إلى شطرين، يتنازع عليهما مرشحان، وكل شطر يتنافس مع الآخر في الاستيلاء على أكبر قدر من الأراضي وعلى أجودها، وهكذا تشتتت وحدة الدوار وضاعت المصالح العامة بين براثن المصالح الخاصة والفردية، وأصبح الناس فريقين كل منهما يتبع مرشحا من المرشحين اللذين يحتكران الانتخابات في المنطقة، وكل مرشح يوفر الغطاء والدعم لأتباعه ويسهل لهم عملية الترامي، وامتدت فتنة الانتخابات هذه حتى إلى ساحة المسجد، حيث لا يقبل الطرفان المتفرقان أن يصلي بعضهما وراء البعض الآخر إذا غاب الإمام، وهناك من بلغ به الحد إلى تفحص وجه من يقف إلى جانبه في الصف أثناء الصلاة ليعلم هل هو من فريقه أم لا. تصريح عبد السلام وتحليله هذا يؤكده اعتراف كهل في الخمسين من عمره حيث يقول: كنا نتسارع إلى الترامي على أراضي الجموع في المناسبات الانتخابية، وأنا شخصيا أذكر أن عدة تراميات وقعت في سنوات 1983 و1992 و,1997 و,2002 ويسخر الكهل نفسه من هذا الترامي الذي لا يرى فيه سوى إثقالا لكواهل فاعليه بالذنوب، لأن المردود المادي للهكتار الواحد من هذه الأراضي لا يتجاوز 10 آلاف درهم في السنة، مسترسلا: ومن أجل هذا كنا نتخاصم ونتدابر ونعادي بعضنا البعض، إني لأخجل من هذا الآن عندما أتأمله جيدا، فأكتشف أننا كنا نفعل ذلك وكأن أعيننا وبصائرنا عليها غشاوة. توبة في ذكرى غزوة بدر من الأقدار التي لا يفتأ شباب دوار كومّة يتحدثون عنها ويتفاءلون بها خيرا أن مبادرتهم باسترجاع الأراضي المترامى عليها جاءت في شهر رمضان المنصرم، وانطلقت بالضبط يوم السابع عشر منه، الذي يوافق ذكرى غزوة بدر الكبرى، وهي موافقة يرى الكثيرون منهم أن لها دلالة عظيمة، فكما كانت غزوة بدر فرقانا بين الحق والباطل، يرون في مبادرتهم وتحققها في ذكرى غزوة بدر فرقانا بين ماض تميز بالظلم وتجاهل المصلحة العامة، وحاضر طهروا فيه ذمتهم وذمة آبائهم من اختلاس المال العام. جاءت هذه المبادرة من الشباب في شهر رمضان بعدما أحسوا بثقل المسؤولية وحملوا هم الإصلاح والتوبة والعودة إلى الله، فتضامنوا بينهم من أجل إرجاع هذه الأراضي إلى سابق ما كانت عليه، خصوصا وأنها سببت نزاعات ومشاحنات وحقدا بين الناس، وفرقت بين الجيران والإخوان والآباء والأبناء. في يوم 17 رمضان، عزم الشباب على تنفيذ مبادرتهم وإخراجها إلى الوجود، من منطلق تغيير هذا المنكر، ولو سكتنا عن هذا الأمر لبلغنا حد إغلاق الطرقات بالترامي يقول أحد الشباب . ويضيف آخر: صممنا على أن نفرض على الناس الأمر الواقع، فمن اقتنع فبها ونعمت، ومن لم يقتنع اتفقنا أن نرسل إليه من يناقش معه ويلهيه عنا بالكلام، فيما نمضي نحن إلى قطع الأغراس التي توجد في الأرض التي استولى عليها ونحول حدودها إلى أن نبقي على أملاكه فقط، والمثير هو أنه ولله الحمد لم نجد مقاومة من الناس، والكثيرون اقتنعوا، وحتى القليلون الذين لم يقتنعوا، لم يقاوموا مع الاقتناع المستمر للناس، حتى أننا أصبحنا أمام ما يشبه كرة من الثلج تكبر شيئا فشيئا، وغدا الجميع في الأخير مبتهجين بهذا العمل وشارك فيه الكل واعتبروه خيرا هدى الله إليه الشباب. طريقة استرجاع الأراضي كانت تنم عن ذكاء هؤلاء الشباب وفطنتهم، فهم بدأوا بأقل الناس مقاومة للفكرة حتى يسهل اقتناع الذين يرفضون الفكرة بشدة ويتم عزلهم ووضعهم أمام الأمر الواقع، ثم فكروا كذلك في أن يتركوا لمن بنوا على الأراضي المترامى عليها بيوتا إمكانية أداء ثمنها. يقول أحد الشبان: الذين استولوا على الأراضي نزعناها منهم، والذين أقاموا عليها بيوتا اخترنا ألا نهدمها، وطلبنا منهم أن يؤدوا عنها مقابلا ماديا، وقد أدى الناس هذا المقابل وهم مبتهجون، إضافة إلى أن الشبان متزعمي المبادرة حرصوا على أن تتم هذه العملية بالتي هي أحسن، وهو ما يشرحه أحدهم قائلا: كنا نحاول أن نقنع الناس بالتخلي عن الأراضي المستولى عليها بأن نعظهم في البداية ونفهمهم أن ما يقومون به لا يجوز شرعا، وبأن هذا العمل يأكلون منه الحرام، وقد ختمنا هذه العملية في الأخير بحفل ذبحنا فيه ثلاثة خرفان، وحضره أعوان السلطة. ومن مظاهر يقظة أصحاب المبادرة أنهم حرصا على نجاحها وعدم التراجع عنها قرروا أن يقطعوا للمترامين كل صلة بالأرض التي استردت منهم، ولو كانت هذه الصلة عاطفية فقط. هؤلاء الشباب، يؤكد أحمد، كانوا أذكياء لما قرروا أن يقتلعوا الأشجار التي زرعها المستولون على الأراضي رغم أن منها ما عمر أكثر من ثلاثين سنة، وهذه الأشجار في الحقيقة غرست في القلوب قبل أن تغرس في الأرض، واقتلاعها سينهي كل مبرر لامتلاكها، وسيقطع أي علاقة عاطفية لهؤلاء الناس مع الأراضي المستولى عليها، وهناك دواوير أخرى تفكر ساكنتها في التخلي عن أراضي الجموع التي استولت عليها، وذلك بعدما رأوا نجاح تجربتنا. ضمانات لعدم العودة إلى الترامي ولم يكتف أصحاب المبادرة باقتلاع أراضي الجموع من قلوب المستولين عليها باقتلاع الأغراس منها، بل اتخذوا إجراءات أخرى تمنع المترامين التائبين من العودة إلى هذه الأراضي، حاولنا يقول محمد أن نوفر ضمانات لكي لا يعود الناس إلى الترامي من جديد على هذه الأراضي، فقد بينا حدودها بصخور كبيرة جدا وضعناها بآلة الطراكس، ومن هذه الأحجار ما يزن طنين إلى ثلاثة أطنان حتى لا يسهل تحريكها، وهذه الحدود وضعناها مؤقتة، وسنسعى بعد نهاية أعمال الحرث إلى تحفيظ هذه الأراضي وحمايتها بالقانون من الترامي والسرقة. شيء واحد يقول سكان دوار كومة إنه ما يزال يقض مضجعهم وبنغص عليهم فرحة هذه التوبة الجماعية، وهو شخص نافذ في المنطقة يقولون إنه ما زال يستولي على أراضيهم شيئا فشيئا منذ مدة طويلة، ويتهمونه بأنه يزور رسوم الملكية. وفي ذلك يقول عبد السلام: نطالب بالتحقيق في قضية شخص ترامى على العديد من أراضينا وقد رفع على العديد منا دعاوى قضائية كسبها بشهادات زور نظرا لما له من نفوذ سياسي ومالي في المنطقة، وهذا النفوذ يجعله ألحن بحجته على الآخرين، والكثيرون منا سلبهم أراضيهم وباعوا كل ما يملكون لمواجهته أمام المحاكم، وبينما عبد السلام يتحدث، قاطعه كهل من كهول الدوار وهو يصرخ موجها لنا الخطاب: اكتبوا هذا أسودا على أبيض، وانبرى خالد في مرارة والكلمات تتدافع في حلقه: أبي أنفق أزيد من 600 ألف درهم في التقاضي مع هذا الشخص المتنفذ، ومنذ أزيد من 26 سنة وهما في المحاكم، نطالب وزارة العدل بالتدخل لوقف هذا الشخص عند حده وإلا فإنه سيقود أسر الدوار إلى التشرد.