خلق الله تعالى الإنسان وبث فيه أشواقا ومشاعر نفسية وروحية ثابتة، توجه تعامله مع أخيه الإنسان والمخلوقات الأخرى، وأرسل إليه الرسل والكتب السماوية لترشدها وتنأى بها عن الفقر والجفاف. فالمشاعر الخيرة النبيلة هي التي تصنع الحياة وتحفظ تماسك المجتمع، وفقرها وجفافها هو الذي يولد التعاسة ويكون سببا في الحروب والعداوات، التي يبتهج الشيطان وأعوانه لبثها بين بني آدم في أفق تحقيق هدفه الاستراتيجي. وسيرة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، قدوة البشرية في الأخلاق العظيمة، والذي حظي بالتكريم الإلهي عن حلمه ورأفته ورحمته، ملأى بمشاهد إنسانية رائعة سواء مع أصحابه وخصومه ومع مكونات الوجود حوله من حجر وشجر وحيوان.فهو الذي جعل تبسمك في وجه أخيك صدقة، وجعل اللمسة على رأس اليتيم صدقة، وانتصف للجمل الذي يتعبه صاحبه بعدم العناية به، وخاطب جبل أحد أن يهدأ لأن عليه رسول الإنسانية وصديقا وشهيدان(أبو بكر الصديق، عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان رضي الله عنهم)، حتى مع أعدائه طلب من الله تعالى أن يمهل عذابهم وألا يطبق عليهم الأخشبين عسى الله تعالى أن يخرج من أصلابهم من يعبده. إن حرص الرسول الكريم على مراعاة المشاعر دفعت الكافر ليسلم طائعا مرتاح البال، وأصلحت ذات البين بين إخوان الإسلام أعداء الجاهلية(الأوس والخزرج)، وبمراعاته ذلك قال للأنصار عندما وزع الغنائم:ألا ترضونَ يا معشر الأنصار أن يذهبَ الناسُ بالشاةِ والبعير، وترجعوا برسول الله إلى رحالكم، فو الذي نفسُ محمدٍ بيده لولا الهجرةُ لكنت امرءاً من الأنصار، ولو سلك النّاس شعباً وسلكت الأنصار شعباً لسلكت شعب الأنصار، اللهم ارحمِ الأنصارَ وأبناءَ الأنصار، وأبناءَ أبناءِ الأنصار. وقد تلقف هذا المنهج خلفاؤه الراشدون، وأعملوه سياسة يسوسون بها الناس والرعية، فهذا أبو بكر الصديق يبذل أمواله لفك أسر المسلمين، وهذا عمر يعزل عاملا لفقر مشاعره، وهذا عمر بن عبد العزيز يرفق بخادمه ويقوم ليوقد المصباح بنفسه.. لكن نحن اليوم في حاجة إلى الاقتداء وليس إلى الإحسان فقط، لأننا ببساطة عجزنا أن نرعى المشاعر النبيلة في أنفسنا ومع المحيطين بنا في البيت والحي ومكان العمل ومقاعد الدراسة، بله أن تتعدى ذلك لتشمل الخصوم والمخالفين، وصارت جل معاملاتنا مع أصدقائنا ملؤها التصنع الزائف، لأن تصريف المشاعر النبيلة ليس وراءها عائد مادي في دنيا الاستهلاك والتكالب على ملذات الحياة. والمشاعر الطيبة جزء من كيان الإنسان وهي التي تميز إنسانيته، وهي تشمل حسن الظن والبشر وإفشاء السلام ولزوم الإنصاف عند الخلاف والتهنئة والثناء الصادق المعتدل والإيثار والمحبة، وقد أفرد لها أحد الكتاب المشارقة،(الشيخ محمد الحمد)، كتابا خاصا بعنوانفقر المشاعر، أوضح فيه أن طغيان المصالح الخاصة جعلت كثيرا: من تعاملات الناس أقرب إلى النفعية منها إلى المروءة والإنسانية، وغدت مراعاة المشاعر مطلبا ثقيلا..إن حياتنا اليوم تعج بمظاهر كثيرة لفقر المشاعر في تعامل الوالدين مع الأولاد، وفي الحياة الزوجية وبين الجيران وبين الطلاب والمعلمين ومع العمال والغرباء والخصوم وغيرهم، لذلك كان لزاما علينا معرفة الأسباب التي ترتقي بمشاعرنا وتشيع الدفء في علاقاتنا. أما حالنا اليوم فإننا كما يعاني الكثير منا من الفقر المادي نبخل بتوزيع المشاعر النبيلة على من حولنا، حتى غدا إفشاء السلام بين جيران المبنى الواحد أو المؤسسة الواحدة مثارا للشك بين النفوس، وكأن الآخر يقول في نفسه: هل يعرفني هذا ليسلم علي؟ إن مراعاة المشاعر النبيلة مطلب شرعي واجتماعي وليس مجرد مظهر تكميلي أو تملق نفعي، ويبدأ الإحساس ببرود المشاعر مع الأقربين وليس بالتزام أسلوب التعامل الديبلوماسي مع الآخرين، فما ترانا فاعلون؟