يتحدث القرآن (كلام الله) في هذه الآيات من قوله تعالى : {يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي} إلى قوله تعالى : {وما الله بغافل عما تعملون} عن بني إسرائيل (قوم موسى) أحيانا بضمير الغيبة أو بضمير المخاطب. أو يوجه النداء إليهم ويدعوهم إلى الإيمان والتصديق بما جاء به النبي محمد (عليه السلام) مذكرا بما أنعم الله به عليهم باصطفائه موسى منهم ليكون نبيا ورسولا، ويندد بلبسهم الحق بالباطل وقولهم إن الحق هو ما جاء به موسى، وإن محمدا جاء بالباطل مع أنهم يعلمون أحقية ما جاء به، مؤكدا أن رسالة النبي الجديد هي تصديق لرسالة النبي القديم موسى (عليهما السلام) وواجب عليهم تصديقها. وأمر الله بني إسرائيل (اليهود) بأن يلتحقوا بالإسلام ويقيموا شعائره بأداء الصلاة والالتزام بالصبر والامتثال لِمَا أمر الله به والامتناع عما نهى عنه (على لسان محمد). وهذه الشعائر يقول الله لا يقوم بها إلا الصابر المحتسب، الخاشع المطيع لربه. أما مَن لم يُشْرَب قلبُه الإيمان، فيكبُر عليه أداء الشعائر، لأن أساسها الإيمان وهو فاقده. ***** {وأوْفوا بعهدي أوفِ بعهدكم}: تعددت فهوم المفسرين لهذا العهد المتبادَل بين الله وبني إسرائيل وأرى أنه لا ينبغي إبعاد النُّجعة في البحث عنه باعتبار أنه العهد الأول عهد الله لآدم الذي جاء في الآية السابقة (وهو ما قاله بعض المفسرين) : {فإما ياتينكم مني هدى ممن اتّبع هداي} إلى آخر الآية، وأضافوا أن عهد الله لآدم هو عهد لجميع ذريته ومنهم بنو إسرائيل، وهو عهد عام. أو كما قال البعض إنه العهد الخاص الذي قطعه الله لأبينا إبراهيم الذي جاء ذكره في قوله تعالى : {وإذا ابتلى إبراهيمَ ربُّه بكلماتٍ فأتمّهن. قال إني جاعلك للناس إماما. قال ومن ذرّيتي قال لا ينال عهدي الظالمين} سورة البقرة الآية 421). أفهم هذه الآية التي جاءت في سياق حض بني إسرائيل على التصديق برسالة نبينا محمد، على أن المراد بالعهد هو التزام بني إسرائيل أمام الله بتصديق رسالة موسى وهي رسالة التوحيد، وهذا يقتضي أن يومنوا برسالة التوحيد التي جاء بها من بعده من الرسل وآخرهم محمد الذي جاءت رسالته مطابقة لرسالة موسى ومصدّقة لها. ونقرأ ضمنيا في هذه الآية أن كفران بني إسرائيل برسالة محمد هو كفران برسالة موسى التي لا خلاف بينها وبين ما جاء به الدين الجديد. ويترتب على ذلك أن اليهود لم يُوفوا بالعهد الذي التزموا به لله، وهذه حجة بالغة عليهم. إن دين الإسلام هو الدين الواحد الذي جاء به الرسل جميعا. {إن الدين عند الله الإسلام}. ولا يصح للبشر أن يؤمنوا بدين أنزله الله ويكفروا بنظيره. وتضيف الآية أن اليهود إذا ما كفروا برسالة الإسلام سيكونون أول من كفر بالدين الواحد الحق، وكان ينبغي أن يكونوا أول المؤمنين. في هذا السياق علينا أن نذكر أنه أثِر عن نبينا محمد (عليه السلام) قوله: >نحن معاشر الأنبياء أبناءٌ (أو إخوةٌ) من عَلاّتٍ (ضرّات) مختلفة<. كما ورد في تاريخ العهد النبوي أن يهوديا أقسم بالمدينة أمام مسلم بموسى قائلا : وحق موسى الذي اصطفاه الله على العالمين فاستفزّ أحدَ المسلمين بهذه المقولة، فلطم اليهوديَّ على خده. وقال له : لا تقل إن الله اصطفى موسى على العالمين فالرسول محمد هو المصطفى على العالمين. وبلغ هذا الحادث إلى علم النبي فأسف لما وقع بين المسلم واليهودي وقال : لا تَخَيّروا بين الأنبياء. وهذا أسمى مظاهر التسامح الذي سنه نبينا (عليه السلام) في مجتمع المدينة (انظر كتابنا حقيقة الإسلام، وخاصة ما جاء فيه عن تسامح الإسلام وتعايشه مع الديانات). وإذا كان إيمان اليهود بموسى يستلزم الإيمان بعيسى وموسى، فإن الإسلام جاء صريحا في وجوب إيمان المسلمين بالإسلام والديانات السماوية الموحّدة السابقة: >آمن الرسول بما أنْزل إليه من ربه والمؤمنون. كلٌّ آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله. لا نفرق بين أحد من رسله} (سورة البقرة الآية 582). ***** {ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا}: هذه إشارة إلى أن بعض اليهود في تعصبهم لرسالة موسى وما أضافه إليها أحبارهم، وكفرانهم برسالة محمد إنما يتعاطون صفقة خاسرة يتقاضون فيها ثمنا زهيدا، لأن هذه الفصيلة من الأحبار التي تفتى لعامة اليهود بالكفر برسالة الإسلام تفعل ذلك مقابل ما تأخذه من ثمن على خدماتها الدينية الكاذبة المُضِلة. وهو ثمن بخس بالنسبة لما يجره عليهم الكفر برسالة محمد (عليه السلام) من غضب الله وسخطه. والآية نقد وتنديد بكل من ينصب نفسه مفتيا في الدين ويحرف كلام الله عن موضعه، ويفتي بالغرض والشهوة، أو تملقا إلى الحاكم لإرضاء نزواته، مقابل منافع مادية تحصل عليها هذه الفصيلة من المتعالمين (وهم ليسوا العلماء). وتوجه الآية إلى هذا النوع من رجال الدين نداء بأن يخشوا الله ويتقوه ويبتعدوا عن التيه في طريق الضلال. ***** {وإياي فاتّقون}: خُصّوني بالتقوى ولا تشركوا معي فيها غيري. وينتج عن هذا أن الله سبحانه أمر اليهود بالإيمان بما جاءت به رسالة الإسلام وبما جاء في القرآن، وهي رسالة الله التي جاءت بتوحيده الرسالات الثلاث الموحّدة فعلى اليهود أن يلتزموا بالإيمان بالله وتوحيده وبوحدة رسالاته. والتقوى تعني الامتثال لما أمر الله به ونهى عنه. ***** {أتأمرون الناس بالبرّ وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب}: تصور هذه الآية حالة التناقض التي يعيشها اليهود، وهم يَدْعُونَ إلى البر، (وهو عمل الخير وحسن العمل في أمور الدنيا وأمور الآخرة. وفي طليعة أنواع البر يأتي الإيمان بالله ورسله وكتبه)، وتبرز تناقض أحبار اليهود لكونهم يأمرون الغير بالبر والتقوى والإيمان، وينسون أنفسهم فلا يؤمنون ولا يتقون، مع أن كتابهم يأمرهم بالإيمان والتقوى. {وتنسون} المراد بالنسيان الترك ولا يعني السهو. أي أنهم يتركون العمل بما أمِروا به. وتتضمن الآية توبيخا موجها إلى هذه الطائفة من اليهود (وضمنيا من ينتصبون للوعظ ويطلبون من الناس أن يفعلوا ما لا يفعلون هم). ***** {واستعينوا بالصبر والصلاة}، بعد أن حضت الآيات السابقة بني إسرائيل على التّحلي بالمحامد والتّخلي عن المساوئ، وخاطبهم الله بالترغيب والترهيب، جاءت هذه الفقرة من الآية ترشدهم إلى وسيلة تُغلّبهم على أنفسهم وتعيدهم إلى مَحجّة الهدى هي استعانتهم بأمرين: الصبر (والمصابرة). وهو البلسم الشافي لمن ضل عن الطريق وغوى. والصبر (والمصابرة) مكابدة صعبة، تفيد من مارسها بالمِران والتّعوّد وتساعده على تحوله من سلوك سيئ إلى سلوك أحسن، ومن شك إلى يقين، ومن غفلة الذهن إلى حضوره، ومن عدم الالتزام إلى الالتزام بالمسؤولية. والصبر كما قال عنه الشاعر العربي : الصَّبْر كالصِّبْر مُرٌّ في تذوُّقه لكنْ عواقبُه أحْلى من العسل وقد تعهد الله للصابرين بأنه دائما معهم وبجانبهم. في سورة البقرة الآية 351: {يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين}. فالخطاب الموجه إلى بني إسرائيل هو نفس الخطاب الموجه إلى المؤمنين جميعا. وجاء في حديث نبوي: إنما الصبر عند الصدمة الأولى. وفي سورة العصر قوله تعالى: {وتواصَوْا بالصبر}. وبذلك يكون الصبر من أركان الإيمان وبه يكتسب المؤمنين السكينة والطمأنينة والاستقرار الروحي والأمن الباطني. ***** {والصلاة}: وقد قرن الله الصبر بالصلاة. فالإيمان بالله اعتقادٌ بالجَنان، ونطْقٌ باللسان، وعبادة بالأبدان. (صلاة وصوم). وامتلاك الصبر يتطلب الإرادة القوية وصحة العزم. وإلى ذلك أشار الله في سورة الشورى الآية 34 :{ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور}. وإفراد الصلاة بالذكر في هذا السياق مع أنها إحدى ركائز الإسلام الخمس يعني أنها الركن الأساس، وما بعدها تابع لها. فلا إسلام بلا صلاة. وقد جاءت الصلاة في الرتبة الأولى في ترتيب حديث : بُني الإسلام على خمس. وورد في السنة أن النبي صلى عليه وسلم كان إذا حَزبه أمرٌ (إذا ضاق بأمر صعب) فزع إلى الصلاة. وكان يقول لبلال المؤذن عن صلاة العشاء : أرحنا بها يا بلال. ***** {وإنها لكبيرة}: الضمير يعود على الصلاة: إن التكليف بالصلاة غير سهل، إذ يقتضي الالتزام بأدائها في وقت محدد والتهيؤ لإقامتها بالطهارة والوضوء، والتفرغ لها بقلب مؤمن مطمئن، وأداؤها بصبر وأناة، وشعور المصلي بأنه قريب من الله، وأقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، وترك التفكير فيما عداها. لذا تشُقّ على نفوس ناقصي الإيمان وعلى من لا يؤدونها حق أدائها. ***** {إلا على الخاشعين} لكنها سهلة على المؤمنين الذين يؤدونها وقد سكن الخشوع والانقياد إلى الله قلوبهم وضمائرهم، فهؤلاء يرتاحون فيها. وبها يحققون طهارة أنفسهم وصفاء سرائرهم، إذ يرجعون فيها إلى الله. وفي صلاتهم يتذكرون أنهم ملاقو ربهم، وأنهم إليه راجعون فيزدادون إيمانا وتقوى، وشعورا بطمأنينة الإيمان وسكينة المؤمنين. وعند وجود هذه السكينة بقلب المؤمن يصبح في مأمن من الخوف على نفسه ومصيره دنيا وأخرى. ويقول بعض الفقهاء : إن الصلاة بدون خشوع لا تُقبل. وهذه مبالغة، فالإنسان نساء خطاء، والله لا يؤاخذه بذلك. لكن البعض يقول : الخشوع من علامة القبول وهذه المقولة أصوب. ***** {يظنون}: الظن هنا يعني الاعتقاد الجازم لا الشك. وكثيرا ما يطلق الظن في العربية على الاعتقاد الجازم. ويقال إن الظن يحمل على اليقين، أو إنه مَحْمِل اليقين.