أشكر لجريدة "التجديد" أن فسحت لي صدرها لنشر هذه الخواطر في حلقات، بل بادرت إلى مخاطبتي باقتراح نشرها عندما علمتْ بها. وأرجو أن يستفيد منها كل من يرغب في الغرْف من ينابيع القرآن الكريم. والله من وراء القصد، وهو سبحانه ولي التوفيق. {وإذْ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطّور خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تَتّقون. ثم تولّيتم من بعد ذلك فلولا فضل الله عليكم ورحمته لكنتم من الخاسرين} يمضي مسلسل قصص بني إسرائيل القرآني في هذه الآيات من سورة البقرة مذكّرا إياهم بتقلباتهم المتوالية : يتعهدون أمام موسى بالالتزام بما جاء به عن الله، ثم لا يلبثون أن يكفروا ويجحدوا، حتى عندما يلتزمون أمام الله وموسى بعهد وميثاق أن لا يكفروا ويبدلوا دينهم. وفيما سلف ذكره من قصص بني إسرائيل مع نبيهم موسى تبدأ الآية بعبارة {وإذ} أي واذكر يا محمد لمن يستمعون إليك عندما وقع كذا. وهنا يأتي هذا التعبير للمرة العاشرة بعد أن بدأ بقصة آدم في قوله تعالى : {وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة}. واستغرق قصص بني إسرائيل سبع آيات مضت، وهذه الآية : {وإذ أخذنا ميثاقكم} هي الرقم الثامن في المسلسل. وهي تدعو محمدا (عليه السلام) إلى تذكير بني إسرائيل المعاصرين له بالميثاق الذي التزم به أسلافهم وخالفوه، والعهد الذي قطعوه على أنفسهم أن لا يعودوا إلى الكفر بعد إيمانهم ونكثوه، وأن ينشروا دعوة موسى بين العالمين ولم يفعلوا. والله لم يصْطفِهم بين العالمين إلا ليبلغوا دعوة نبيهم. وذكّرتهم الاية أيضا بتفاصيل ودقائق ما أعطاهم الله من نعم، وما أظهر لهم من معجزات خارقة للعادة ليؤمنوا أو يزدادوا إيمانا. ومنها أن الله رفع فوقهم جبل الطور الواقع بصحراء سيناء عندما تجلى الله لموسى وكلّمه تكليما، فتحرك جبل الطور وارتجف من خشية الله، وأظلّهم الجبل وبدا لهم كأنه ظُلّة تقيهم وتحجبهم كما جاء في القرآن في آية أخرى من سورة الأعراف :{وإذ نتَقْنا الجبل فوقهم كأنه ظُلّة وظنوا أنه واقع بهم}. كما ذكّرتهم الآية بأن الله في هذا المشهد الرهيب خاطبهم بقوله : {خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتّقون}، أي أنه سبحانه حثهم على التمسك بشريعة موسى والامتثال لما جاءت به، وأن لا يعودوا إلى الكفر. وكانوا التزموا في تلك اللحظة بأن يكونوا أوفياء لميثاقهم غير ناكثين لعهدهم، لكنهم لم يلبثوا أن خانوا وغدروا، وصُنِع لهم إله فعبدوه. وإذ كانوا جُبلوا على الغدر والخيانة، فقد عهدوا من الله التّواب الغفور أن لا يواجههم بغضبه، بل بفضله ورحمته. ولولاهما لكانوا من الضالين الخاسرين دنيا وأخرى. ***** {أخذنا ميثاقكم}: الميثاق عهد (أو عقد) يربط بين أكثر من طرف : اثنان فما فوق. وقد يكون مكتوبا أو منطوقا به. والاشتقاق اللغوي للكلمة يوحي بعلاقة الميثاق بالثِّقة، ثقة كل طرف في الآخر، الثقة في وفاء كل طرف بما تعهّد به. والفعل هو وثِق ثقة. ويوحي بالتوثيق. فالميثاق يوثّق ارتباط الأطراف بعضها ببعض بنص وثائقي مكتوب أو منطوق يلتزم الكل بمضمونه. وجاء في الذكر الحكيم لفظ الميثاق في سياقات متعددة، مضامينها المشتركة هي المعاني التي أشرنا إليها. ومن بين هذه الآيات قوله تعالى في سورة الرعد/الآية 02 : {الذين يُومنون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق}. ومقابِلهم (من ينقضون الميثاق). جاء في سورة الرعد/الآية 52 : {والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه}. كما ورد ذلك في سورة البقرة/الآية 72 : {الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه}. ووردت كلمة الميثاق للدلالة على رابطة الزواج أو عقدة النكاح في قوله تعالى : {وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض وأخذن منكم ميثاقا غليظا}. كما وردت كلمة الميثاق في آيات أخرى. أما ميثاق بني إسرائيل فقد ذكر في القرآن في عدد من السور والآيات، ومنها الآية التي نشرحها: {وإذ أخذنا ميثاقكم}. وتقول المصادر اليهودية إن الميثاق الذي أخذه الله من بني إسرائيل تمّ بواسطة موسى الذي التزم له اليهود بتوحيد الله والعمل بشريعته في تلكم اللحظة الرهيبة التي كلّم الله فيها موسى وهو في جبل الطور. وتزعزع الجبل وخشى اليهود على أنفسهم، فأخذ الله عليهم الميثاق أن لا يشركوا به أحدا وأن يتمسكوا بشريعة موسى. وهذه القصة معروفة عند أحبار اليهود ومدونة في كتبهم. وفي هذه الآية أطلع الله عليها نبيه الرسول محمدا (عليه السلام). وهي إحدى معجزاته الغيبية. **** وقوله تعالى: {أخذنا ميثاقكم}، يعني أن الميثاق عهد رابط بين الله وبني إسرائيل إما مباشرة وإما بواسطة موسى نيابة عن الله. ***** {ورفعنا فوقكم الطّور}: يطلق الطور على الجبل. وقال عبد الله بن عباس إنه الجبل الذي يظهر فيه نبات، وما لا يُنبت من الجبال فليس بطُور. والمراد بالطور في الآية الجبل الذي تجلى منه الله لموسى وكلّمه وهو في صحراء سينا. وما يزال معروفا بهذا الاسم أو باسم جبل موسى. ***** {خُذوا ما آتيناكم بقوة}: ما آتى الله بني إسرائيل هو ما جاء به موسى من وصايا وصحف وألواح، فأمر الله بني إسرائيل أن يأخذوها، أي يلتزموا بما جاءت به، بقوة، أي بالتزام قوي شديد لا تساهل فيه، ولا انتقاص منه. فالدين لا يتجزأ ولا يتبعّض. يُوخذ كلّه أو يُترك. وقد عاب الله في القرآن على بني إسرائيل أنهم يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون بالبعض. والمطلوب من المتدين أن يكابد بقوة النفسَ الأمارة بالسوء والمثبطة عن فعل الخير، ليقوم بالطاعات، وأن يتوفر له كمال الإيمان والتصديق، وأن يتحلى بفضيلة المداومة على فعل الطاعات، حتى يصبح أداء الشعائر طبيعته. ***** {واذكروا ما فيه لعلكم تتّقون}: هذا أمر من الله لبني إسرائيل ومن يأتي بعدهم ويدخل في دين الله، سواء كان الرسول عيسى أو محمدا أن يتدبروا ما جاءت به الرسالات والكتب، وأن يعملوا بما جاء فيها ولا ينسوه أو يضيعوه. وحفَل القرآن الكريم بالآيات التي تحضّ على التفكير في الله والتذكر والتدبر واستخلاص العبر. وأقوى هذه الآيات دلالة قوله تعالى في سورة العنكبوت/الآية 44 : {إن الصلاة تنهى على الفحشاء والمنكر. ولذكر الله أكبر}. وذكْر الله لا يعني ذكر اسمه بقبض السبحة بين الأصابع والدعاء بالحساب العددي، بل تعميق ذكره سبحانه، أي استحضاره في القلب والضمير والوجدان، والتفكر فيه وفيما خلق، والخلوص من ذلك إلى الإيمان بتوحيده والتسليم بقضائه وقدره. وكنت أقول لطلبتي في الجامعة إن الإسلام عقيدة تتطلب التفكير: فقبل أن تُسْلِم عليك أن تفكر. والمسلم لا يكمل إسلامه إلا إذا فكر في الدين وتدبّر واستخلص الجواب عن السؤال : لماذا أنا مسلم ؟ وحفلت الآيات القرآنية بالربط بين الإيمان والتفكير وتلازمهما : {إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون}. {إن في ذلك لعِبرة لأولي الألباب}. أي العقول الرشيدة : {أفلا يتدبّرون القرآن أم على قلوب أقفالها}. وتدبر القرآن ليس هو تلاوته والفكر سارح، بل تعميق فهمه لاستخلاص حقيقة ما جاء فيه، وتلاوة القرآن مطلوبة شرعا لكن تدبره مطلوب أكثر. ***** {ثم توليتم من بعد ذلك}: في كل مرحلة وكل فترة يذكّر الله بني إسرائيل بإخلالهم بالميثاق ونكثهم العهد. وفي هذه الآية يقول الله عنهم إنهم لم يُوفّوا بالميثاق الذي أخذه الله معهم وتولوا وأعرضوا. ومن ذلك عودتهم إلى الوثنية بعبادتهم العجل. وذكّرهم الله بأنه رغم توالي تقلباتهم شمل المؤمنين منهم بفضله ورحمته. ولولاهما لكان جميع بني إسرائيل من الخاسرين الضالين. هذه الآية تتوجه إلى بني إسرائيل قائلة: إنكم تعلمون قصة بعض اليهود منكم الذين اعتدوا على حرمة يوم السبت الذي هو يوم عطلة وراحة عندكم وحرم الله عليكم العمل فيه: هؤلاء اليهود الذين لا يشبعون من جمْع حُطام الدنيا مسخ الله قلوبهم وأعمى بصائرهم حتى لقد أصبحوا أشبه بالقردة، ونزلوا عن درجة الإنسان الملتزم بما أمر الله به. ومن خلالهم وقد أنزلوا أنفسهم هذه المنزلة أعطينا للمتقين من عباده درسا وعبرة للموعظة والتذكر حتى لا يفعلوا مثلما فعل بنو إسرائيل ويصبحوا مثلهم من الضالين الخاسرين. أغلبية المفسرين ذهبت إلى أن مسخ من اعتدَوْا في السبت من اليهود كان مسخا حقيقيا وقالوا صاروا قردة وشُيوخهم خنازير، وما نجا منهم إلا القليل ممن تابوا. وقال مفسرون إن الذين مسخهم الله بلغوا سبعين ألفا. وقال عبد الله بن عباس لم يحيوا على الأرض إلا ثلاثة أيام ثم انقرضوا ولم يأكلوا وهم أحياء ولا شربوا. وقال مجاهد إنه لم تمسخ أبدانهم وأجسامهم بل مسخ الله قلوبهم. وبعض المفسرين قالوا إن الله قال لهم : كونوا قردة ولم يقل مسخناكم قِردة، أي تصرفوا مع دينكم تصرف القردة الذين لا يدينون بدين، ولا يفكرون ولا يعقلون. ذلك أنهم وقد أعرضوا عن الدين وتنكروا لتعاليمه أصبحوا أشبه بالقردة والحيوانات العجماء. والإجماع واقع على أن هذه القصة لم تجر في حياة موسى بل ابتدأ الحديث عنها في عهد النبي داود ولم يأت لها ذكر في أسفار العهد القديم، لكنها معروفة من لدن أحبار اليهود ولم يتحدثوا عنها. وأطلع الله عليها نبيه محمدا (عليه السلام) في هذه الآية. وهذه معجزة غيبية أخرى من معجزات الرسول. ***** {السبت}: وفعله سبت أي احترم وعظّم يوم السبت. ***** {جعلناها نَكالا}: الضمير يعود على العقوبة سالفة الذكر. والنّكال العقوبة الشديدة. وقد جعلها الله عقوبة لما سبق من الذنوب، وما يأتي بعدها كما جعلها عبرة للأجيال المتلاحقة، وموعظة يتذكرها المتقون فيزدادون إيمانا وتقوى.