يعتبر شهر رمضان لهذا العام أول رمضان يقضيه آخر فوج من الأسرى العسكريين المغاربة لدى جبهة البوليساريو في أحضان ذويهم منذ مدة طويلة تصل لدى بعضهم إلى عقدين من الزمن، ويبلغ عدد أفراد هذا الفوج 404 أفراد عادوا في شهر غشت الماضي من جحيم الأسر بمحتجزات المرتزقة بوساطة أمريكا وكذا الصليب الأحمر الدولي. وللاقتراب من أجواء أول رمضان يقضونه بين الأهل ومقارنته بأجوائه في الأسر، التقت «التجديد» خمسة محتجزين سابقين ينتمون إلى مناطق مختلفة من التراب الوطني، وهي جماعة أم الكردان (إقليم تاروادنت) وبلدية طاطا، ونواحي آسفيوالقصر الكبير. أول رمضان بين الأهل بعد 19 سنة... يحكي مبارك الهبولي (41 سنة)، المزداد بجماعة أم الكردان والعامل في صفوف القوات المساعدة، أن وجبة السحور في معتقلات البوليساريو كانت مكونة من كوب من الحليب المجفف الخالي من المواد الدسمة، وهو النوع الذي يعطى للأبقار، ولا تختلف عنها وجبة الإفطار إلا بكسرات من الخبز الجافة، وعن برنامج يومه في شهر رمضان في معتقلات الانفصاليين، الذين أسروه في 26 أبريل 1987 في إحدى المعارك في منطقة العايديات على الحدود المغربية الموريتانية، يقول مبارك إنه لا يختلف عن أيام الشهور الأخرى من حيث التعذيب والأعمال الشاقة، فالبوليساريو لا يعرفون حرمة لرمضان ولا للأعياد، يضيف معلقاً. وعن شعوره في أول رمضان يقضيه بين أهله وأصدقائه، قال: «في الحقيقة يعجز اللسان عن التعبير عن الفرحة الذي أشعر بها، فأحياناً أظن أنني في حلم وأنني عندما أستيقظ سأجد نفسي ثانية في ذلك الجحيم، هذا الشعور ينتابني مراراً وأحاول إبعاده بالاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم، لقد أحسست أنني قد ولدت من جديد»، بيد أنه يستدرك فيقول: «رغم ذلك، فإني لم أذق بعد حلاوة رمضان كما أتمنى، لانشغالي ببناء بيت لأسرتي، إذ أسكن الآن في بيت مأجور، هذا الأمر يشغل بالي كثيراً، ولكن عندما أجلس إلى مائدة الإفطار مع والدتي وزوجتي أنسى هم البناء». كنا نحضر بعض المأكولات خفية... وغير بعيد عن طاطا، التقت التجديد علي الطالبي (45 سنة)، والذي أسر ولم يتعد طفله شهره الرابع، وكان أسره، وهو العامل ضمن أفراد القوات المسلحة الملكية، في 25 فبراير 1987 في إحدى المعارك بمنطقة الفارسية، يتحدث الطالبي بدوره عن ظروف أسره مركزاً حديثه على مرحلة ما قبل سنة ,1992 إذ وصف سنواتها بالجحيم الذي لا يطاق. «في تلك السنوات يقول علي كانوا يوزعون علينا كيلوغرامين من التمر لكل فرد، وكيلوغراما ونصف كيلوغرام من السكر، وكيلوغراما من الحليب المذكور سالفا، وذلك طيلة شهر رمضان، وكنا نأكل اللحم مرة واحدة خلاله، وقد لا نتذوقه بعد ذلك لمدة ثلاثة أشهر أو أكثر، وتوزع علينا خمس بيضات لكل فرد طيلة الشهر. أما المأكولات الأخرى التي اعتاد المغاربة استهلاكها في هذا الشهر فلا أثر لها هناك، إذ يكتفون بتقديم الأرز المسلوق مارو إلينا، وبعض المأكولات التي نحضرها بأنفسهم خفية. وكان المعتقلون كما يحكي الطالبي لا يفطرون أحياناً حتى يكملوا الأعمال الشاقة المجبرين على إنجازها وإن تأخر بهم الأمر لساعات، وعلق على ذلك بالقول: «لقد تعودنا على الجوع والعطش». كل هذا جزء من الماضي، أما الآن فإحساس الطالبي بالسعادة «لا حدود له، وأنا بين أهلي وآكل ما أشاء، وأخرج وأنام وقتما أشاء، لقد أنساني وجودي بين أهلي كل معاناتي في الأسر، وكل اهتمامي الآن هو اندماجي داخل الأسرة والمجتمع أكثر فأكثر»، وقد قضى أيام رمضان بين جلسات العائلة وجلسات الأصدقاء. كنا نجهل الشهر واليوم الذي نحن فيه... اعتقل محمد آيت التهامي، وهو عامل في صفوف القوات المساعدة المرابطة بالصحراء المغربية في عقد الثمانينات، سنة 1986 وزج به في جحيم معتقلات تندوف، تاركاً زوجة وابنتين صغيرتين، سن الأولى خمس سنوات والأخرى سنة واحدة، في مواجهة مصير مجهول، استقبلنا آيت التهامي في بيته الآيل للسقوط بمدينة آسفي، وجزء من أسقفه مكسو بالخشب والقصب، وهو مهدد بسقوط أحجار السور البرتغالي المحاذي له عليه، يقول: «لقد فرضت علي عصابة البوليساريو الأشغال الشاقة في مجال البناء وأنا في فترة النقاهة جراء إصابة بتعفن في رجلي اليمنى بعد إطلاق النار علي قبل الأسر، وكلما هممت بالاستراحة تنزل علي الضربات بالسياط لاستئناف العمل، أما في الليل فيتم إيقاظنا بالسياط كل ساعتين لإحصائنا واستفزازنا بالشتم والكلام البذيء والإساءة للوطن، وفي الصباح نقتاد إلى أوراش البناء، حيث لا تسمع سوى أصوات السياط على ظهور الإخوة المغاربة بسبب أو بغير سبب». وعن ظروف المعيشة في الأسر، يفرق محمد بين فترتين: ما قبل سنة ,2000 حينها كانت ظروف الاعتقال قاسية، فلا دواء ولا نوم ولا راحة ولا ماء، إضافة إلى انعدام شروط النظافة، والتي تصبح معها الأجساد متسخة ومكاناً آمناً للقمل على حد قوله، وأكثر من هذا، يضيف محمد، «كنا نمنع من حلق رؤوسنا ونرغم على المشي حفاة لدرجة أصبح منظرنا يذكر بالإنسان البدائي، ففي هذه الفترة يكاد يكون مستحيلاً إقامة الشعائر الدينية، بل صدقني أنه غالباً ما نجهل الشهر واليوم الذي نحن فيه». وحدث مرة أن اكتشف الانفصاليون أحد المعتقلين وهو يؤدي صلاته فكان مصيره التهكم والضرب الموجع، هذه الوضعية المأساوية هي أهون مما يقع لمعتقلين مغاربة في مناطق أخرى تابعة للبوليساريو، حسب ما حكاه عضو من لجنة الصليب الدولي في زيارته لأيت التهامي ورفاقه. صيام وسط مناخ من العنف... وبعد سنة 2000 تاريخ وقف إطلاق النار، تخفف العذاب نسبياً بفضل مجهودات الجالية المغربية بالخارج والمنظمات الحقوقية والمتضامنين مع قضية المحتجزين المغاربة مدنيين وعسكريين، وأصبح بالإمكان القيام بالفرائض كالصلاة والصيام، دون أن يخلو ذلك من استفزازات ومضايقات، «كنا يضيف المعتقل نصوم رمضان رغم الأشغال الشاقة التي نرغم عليها، والمصحوبة بالضرب المبرح والشتم والسباب، ورغم رداءة الطعام الذي كان يقدم لنا كالحليب الجاف ذي المذاق المر والقطاني». وبخلاف حالة الفرح والغبطة التي أصبح عليها المعتقلون السابقون المذكورون آنفاً بعد عودتهم، رد أيت التهامي على سؤالنا كيف وجدت أهلك بالمغرب؟ بالقول «في وضعية مزرية وأسوأ حال»، ليمضي شارحاً أنه وجد ابنتيه الوحيدتين قد انقطعتا عن الدراسة لقلة ذات اليد، ووجد زوجته مريضة بمرض يكلف علاجه ثمناً باهضاً، بالإضافة إلى أن بيته صار قاب قوسين أو أدنى من الانهيار، وقد حز في نفسه عدم إصلاحه رغم استعطاف زوجته للعمال والولاة السابقين، وقد زاد من ألمه علمه برغبة المسؤولين المحليين في طرد أبنائه إلى الشارع دون مراعاة للمحنة التي كان يواجهها الأب في مخيمات الذل والعار... رمضان الوطن رمضان الحرية والكرامة... وفي اتجاه الشمال، التقت التجديد مع مصطفى العبادي من دوار أولاد علي المدنة، سوق الطلبة (نواحي القصر الكبير) ومحمد الفراع من القصر الكبير لتستفسرهما عما كانوا هم ورفقاؤهم في الأسر يقاسونه خلال رمضان في المخيمات ووضعهم الحالي في أرض الوطن، فرد الفراع «رمضان هذه السنة هو رمضان الكرامة والحرية بأرض الوطن بعد 18 سنة من الاحتجاز والعذاب والمعاناة والموت»، أما العبادي فقال: «أنا سعيد جداً أن أحياني الله حتى عدت، وقد كنت أظن أنه لن تكتب لنا العودة إلى أرض الوطن، وبفضل الله وفضل المجهودات التي بذلها جلالة الملك والمنظمات الحقوقية وكذا كل المغاربة، خاصة جاليتنا بالخارج للتعريف بقضيتنا، أقضي أول رمضان، بعد سنين من الأسر، في بلدي وسط أهلي وأحبابي، ومنهم ابني مراد الذي لم أره وتركت أمه حاملاً به في شهرها السادس، لقد حرم من قبلة الأب وحضنه بسبب 18 سنة من الحجيم في تندوف حتى البسمة نسيت طعمها نتيجة ما ذقناه من أنواع وتلاوين العذاب». رمضان المخيمات رمضان الجوع والعطش... «كانوا يحاولون إقناعنا، وكل المحتجزين، بأننا في حالة حرب ولا يجوز لنا الصيام، وأن من يتحمل وزرنا هو النظام المغربي، وكانوا يأمروننا بعدم الصيام ويجبرون كل من وجدوه صائما على الإفطار، ومن يصوم كان يصوم سرا»، هكذا يصف العبادي كيف كانوا يعيشون رمضان، ويزيد بالقول إنهم كانوا يقضون نهار رمضان كباقي الأيام في الأشغال الشاقة في صناعة الطوب والبناء (قرابة 200 طوبة في اليوم في العراء تحت حرارة الشمس)، أو في صناعة الفحم، وكانت حصتهم من مؤونة الأكل في ذلك الشهر الكريم عبارة عن كيلوغرام من الحليب و5 كيلوغرامات من الدقيق وكأس من حبوب الشاي وعلبة سردين، فكان إفطارهم هو الشاي أو الحليب والخبز في السنتين الأخيرتين، أما في باقي السنوات فكان كل طعامهم هو ماء العدس أو اللوبيا أو الجلبان، إذ كانوا يطهون كيلوغراماً واحداً في 10 لترات من الماء... الصلاة والدعاء يستفزان الجلادين... «أما الصلاة فقد كنا نقبع داخل دهاليز مظلمة مساحتها متر مربع، حيث يكون أداء الصلاة فيها على أصعب وضع، إلا أن صلاتنا كانت تستفزهم وتقلقهم وكانوا يمنعوننا بالضرب بالسياط»، يقول مصطفى ذاكراً أنهم كانوا يظنون أن المساجين يدعون الله عليهم، والشيء نفسه ينسحب على الآذان ولقد كان هدفهم هو قتل الإحساس الديني في نفوسهم، والذي كان هو سندهم في البقاء على قيد الحياة وفق كلام المتحدث نفسه، «بحيث كانوا يستغربون مما نقوم به من أشغال شاقة ونحن صائمون، فقدرة الله ومعونته كانت دائماً معنا تحمينا. ولم يكن في المخيمات تراويح ولا فقهاء أو وعاظ، وكان المعتقلون أنفسهم يقومون بتعريف الناس بدينهم، وإذا وجدوك تقرأ القرآن أخذوه منك ودفعت الثمن باهضاً...» يوم العيد هو يوم العذاب وحتى مناسبات الأعياد كانت لحظات عذاب بالنسبة للمساجين، فقد كانوا، وفق ما يحكي مصطفى محرومين من صلاة العيد ويؤديها منفردين، بل إن الأشغال الشاقة تزداد بمناسبة الأعياد، خاصة عيد العرش المجيد، الذي يذيقونهم فيه ألواناً من العذاب، «ذات مرة يقول العبادي نطق عبارة عاش الملك أمامهم فحكموا علي ب 15 يوماً بالضرب المبرح وبالعري إلا بلباس رياضي».