قد يبدو مستغربا أن يخطر ببال متأمل في عبر التاريخ، موضوع الشورى حين يتعلق الأمر بمعركة عسكرية يقودها نبي مرسل! فالعقلية السائدة تستصعب الحديث عن الشورى فيما يتعلق بالشأن العسكري، خصوصا في ساحة المعركة وما تقتضيه من حسم وطاعة. أما حين يتعلق بنبي يوحى إليه، فالأمر يصبح أقرب إلى كبيرة من الكبائر! ويصبح الحديث الأقرب إلى الأذهان هو حديث الانضباط والجندية. لكن الشورى في غزوة بدر، ليست استنتاج متأمل، بل هي الحدث الأبرز، الذي يطفو عبر مسار الواقعة كلها، ويهيمن على مجمل الأحداث المنتظمة عبرها. وإنه لأحرى بالعمل المدني الهادئ والمعقلن والبطيء، بناء عليه، أن ينضج بالشورى في كل جوانبه! نجد في قراءتنا لأحداث هذه الواقعة التي تظللنا ذكراها هذه الأيام، أن النبي صلى الله عليه وسلم استصحب الشورى أداة للحسم، في مختلف مراحل المعركة: عند اتخاذ القرار المصيري بالقتال، وأثناء تسيير المعركة، وفي معالجة نتائج المعركة. الشورى عند اتخاذ القرار (قبل المعركة) عندما فوجئ المسلمون بأن العير قد أفلتت وأن النفير في المواجهة، وقف النبي صلى الله عليه وسلم يستشير المسلمين: مراعاة الظروف: إن النبي صلى الله عليه وسلم إذ قام يستشير أصحابه إنما يريد مراعاة ظروف الناس في اتخاذ القرار. وظروف هؤلاء الناس أنهم خرجوا للعير ونُدِبوا له ندبا اختياريا. ثم إنهم لم يأخذوا كل ما عندهم من السلاح والكراع، كان عندهم فقط فرسان وسبعون بعيرا، وكانوا قلة، ليس لهم استعداد نفسي ولا مادي للمعركة. والخطير أن ذلك يحصل في أول معركة يخوضها المسلمون!. قام الرسول صلى الله عليه وسلم يكرر: "أشيروا علي أيها الناس!" ولم يقنع برأي صفوة المهاجرين، بل طفق يستزيد أصواتا أخرى ليسمع رأي العموم، وليسمع على الخصوص رأي الأنصار. احترام العهود والمواثيق: فالبيعة عقد بالتراضي بين طرفين على بنود، وقد استوثق له عمه العباس من الأنصار في بيعة العقبة الثانية: "بأن يحموه مما يحمون منه نساءهم وأطفالهم"، ومعنى هذا أن يحموه داخل المدينةالمنورة دفاعا لا خارجها هجوما. وإذ تغير الوضع، فإنه صلى الله عليه وسلم لم يكتف بالتعويل على إيمانهم وطاعتهم وحبهم، بل طرح الأمر للشورى حتى يكون قرار الأنصار اختياريا. تجنب الإحراج: لم يتوجه النبي صلى الله عليه وسلم لأنصار بالإسم، ليخلق لديهم إرادة المنافسة عن طريق الإحراج المعنوي، بل أخذ يعمم، حتى قام إليه سيد الأنصار، وقال له: "لكأنك تقصدنا يا رسول الله". أدب في المستشير وذكاء في المستشار!. الاشتراك في اتخاذ القرار: عندما يشارك الناس في اتخاذ القرار يكون تنفيذه جيدا. أما عندما يفرض عليهم، يكونون سابيين وغير مستعدين وملزمين. وأحدث أساليب التربية والتعليم تقول بضرورة إشراك الطالب في استنتاج المعلومات حتى تفهم لديه وتترسخ. وأحد أعظم النتائج الإيجابية للشورى، أنك عندما تشارك في اتخاذ القرار تتحمس له، ثم تفهمه، فتقوم بتنفيذه على أكمل وجه. الشورى في تسيير القتال (أثناء المعركة) شرع النبي صلى الله عليه وسلم في الخطوات التنفيذية، فجاءه الحُباب بن المنذر وقال: "أهذا منزل أنزلكه الله أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟". فأجابه بكل واقعية ،ووضوح وتواضع: "بل هو الرأي والحرب والمكيدة". فكان تعليق الحباب صريحا: "إن هذا ليس بمنزل". وهكذا لما أنِس هذا الصحابي بأن الأمر يتعلق بالاجتهاد وليس بالوحي، عبر بكل وضوح عن رأيه. الخبرة عن طريق الشورى تستزيد أسباب النصر: لقد كان من بركات هذه الشورى، أن المسلمين انتقلوا إلى مكان سيطروا فيه على عنصر حاسم في المعارك وإلى اليوم، وهو الماء، وقد ساهم هذا الاختيار في هزيمة المشركين. ثم بعد ذلك نزل المطر فأضاف بعدا آخر لتغيير المسلمين المكان ببركة الشورى: أوحلت الأرض الترابية تحت أقدام المشركين، وصَلُبت الأرض الرملية تحت أقدام المسلمين: (وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويثبت به الأقدام). البراءة من التلبيس: كانت بدر أول معركة في الإسلام، والمسلمون فيها محتاجون إلى المدد المعنوي. وليس في المدد المعنوي أفضل من أن يقول لهم الرسول صلى الله عليه وسلم بأن الله يسير هذه المعركة، وأن كل تفاصيلها تضنع على عين الله. ولقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم محتاجا لتلك الإجابة من باب رفع معنويات المسلمين حتى يمضوا مطمئنين إلى أن كل التفاصيل هي وحي من عند الله! لكنه فضل الإجابة الصريحة والمخاطرة النزيهة على التمويه المنفعي، وحاشاه أن يفعل العكس، ولو من باب طمأنة المسلمين، لأنه معصوم من تلبيس إبليس. كان المسلمون يعلمون بأن لا خبرة عسكرية للرسول صلى الله عليه وسلم، فهو نبي وداعية وراعي وتاجر مسالم. وكان هو يعلم على هذه الخلفية أن استشارتهم قد تفتح عليهم باب الشك في النتيجة، وقد تدخل عليهم من الخور والضعف والخلل ما يدخل على الذين يُستشارون، لأن الاستشارة علامة على العجز عن اتخاذ القرار الصائب وعلامة على الاحتياج لتداول الرأي! ولكن الشورى بالعكس يحتاج إليها الإنسان حتى في فهم النصوص الشرعية، وحتى مع الوحي ومع العصمة، مع وضوح الرؤية.. هذه تربية لنا على الشورى، وصفعة على وجه كل متسلط سواء أكان حاكما أم رئيسا أم مسؤولا، في أدنى مستوى للمسؤولية، يقول لقومه: "ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد"! وهي صفعة آكد معلى خد من يلبس عليهم الشيطان، فلا يأتيهم من باب الاستبداد المباشر، وإنما يأتيهم من باب "الحاجة" إلى رفع معنويات الأتباع، أو حسم التردد والاختلاف، أو توفير الوقت والجهد، أو ما شاء إبليس من الملبسات! الشورى في تدبير النتائج (بعد المعركة) أهم نتيجة نجمت عن معركة بدر، هي وقوع سبعين أسيرا من المشركين بيد المسلمين، وهو مستجد يحتاج إى اجتهاد. وقد أكثر رسول الله صلى الله عليه وسلم المشورة بشأنه، حتي تبلور موقفان بصدده: موقف شدة رآه عمر بن الخطاب وموقف لين رآه أبو بكر. وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بحسم الاختيار مرة أخرى بالشورى وبما يميل إليه طبعه "اللين" من مسالمة وحب للخبر. وهكذا صاحبت الشورى هذه المعركة المباركة من بدايتها إلى نهايتها، دليلا على تأصل الشورى في الفعل النبوي السياسي بل وحتى العسكري. مما يعتبر منهجا ملزما للمسلمين. والعجب أن كثيرا من بني البشر اليوم آمنوا بهذا المنهج وسعدوا به، إلا المسلمون! إن للشورى بركة عظيمة، بل هي نعمة كبيرة، قد تخطئ الشورى مرة، ولكنها تصيب مرات. أما الديكتاتورية فمصيبة كبرى، فحتى لو أصابت مرة فإنها تخطئ أغلب المرات. أفلا نخجل من أن يستشير المسدد بالوحي المعصوم من الخطأ، ونستبد نحن؟ أبو زيد المقرئ الإدريسي المغرب