منذ عدة أيام نعينا للأمة الإسلامية، وللأمة العربية، ولأهل العراق، وخصوصًا أهل السنة منهم، أخانا الحبيب إلينا، الأثير لدينا، العزيز علينا، الرجل، العالم، الداعية، المجاهد، الثائر، المقاوم للباطل، المكافح للظلم، الواقف دائما ضد الضلال والباطل، والطغيان والفساد، الشيخ الدكتور/ حارث سليمان الضاري، الأمين العام لهيئة علماء المسلمين العراقية، التي جمعت كل علماء العراق، ليواجهوا الطغيان والاستعمار والعنصرية، وهي الهيئة الأساسية لعلماء السنة في العراق، وهو عضو مجلس الأمناء السابق للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، منذ عرفته لم أعرفه إلا رجلَ حق ورجلَ خير ورجل هداية ورجل مسؤولية. اسمه: حارث الضاري، فهو مكون من لفظين، أو من اسمين، لهما معنيان واضحان، أحدهما الحارث، والآخر الضاري، وقد ورد في الحديث الشريف: "أصدق الأسماء: حارث، وهمام". وذلك أنه ما من إنسان إلا ويتحرك ويحرث، وقبل ذلك لا بد أنه يهم ويريد، وكذلك الشيخ حارث، كان يسعى ويحرث ويبذر، من أجل مستقبل بلده، ومستقبل أمته ودينه، ومستقبل الإنسانية. ومع هذا لا يدع الآخرين يفسدون عليه زرعه وحرثه، فكان ضاريًا في الحفاظ عليه، ومقاومة من يحاول إفساده ويكون ضده، كان أسدًا ضاريًا لا يخاف من أحد، يقول: لا! بملء فيه، ولا يبالي. والدكتور الضاري ينتمى إلى واحدة من كبرى عشائر العراق، وهي عشائر زوبع، التي تنتمي إلى قبائل شمر الطائية العربية العريقة، وقد لعبت دورًا بارزًا في مقاومة الاحتلال البريطاني للعراق في العشرينيات من القرن الماضي، وجده الشيخ ضاري شيخ عشائر زوبع، هو من قام بقتل الجنرال الإنجليزي (لجمن) القائد المكلف بالسيطرة علي المنطقة الغربية إبان الثورة العراقية، ووالده كان ممن وقف وصمد وجاهد ضد الاستعمار البريطاني من قديم. توفي الشيخ الدكتور حارث الضاري عن عمر يناهز 74 عامًا، في إحدى مستشفيات إسطنبول، بعد أن عاش حياةً حافلة بالعطاء والجهاد والبلاء، سواء في ميدان تدريس العلم الشرعي، وتربية الأجيال العراقية على الإيمان، وتخريج العلماء منهم على التأصيل، والدعوة إلى الله على بصيرة، أم في ميدان العمل السياسي، وهو ميدان يقاوم الاستعمار الذي يريد السيطرة على البلاد، ويقاوم التقسيم الطائفي الذي يريد أن يجور على أهل السنة، حتى تضيع حقوقهم، وتنتهك حرماتهم، أم في الجهاد ضد المحتل الأمريكي في العراق، الذي أراد أن يفسد البلاد، ويذل العباد، كما قال الله تعالى على لسان ملكة سبأ: {إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} (النمل:34). فقد كانت له مواقفه الداعية لخروج القوات المحتلة من العراق، وقد أطلق العديد من المبادرات الوطنية الداعية لوحدة وتكاتف العراقيين في وجه مخططات التقسيم والطائفية. كان عالمًا ليس ككل العلماء، فهناك أناس حصَّلوا العلم، ووصلوا إلى أعلى الدرجات في العلم، ولكنهم رضوا بأن يكونوا في ركاب الظالمين، وأن يحنوا ظهورهم، ويطأطئوا رؤوسهم للظالمين المستكبرين في الأرض، أما هو فكان كالطود الأشم الراسخ الراسي، رفض أن يحني رأسه إلا لله في ركوعه وسجوده، لم يخضع إلا للجبار الأعظم، جبار الأرض والسماوات، عرف معنى الله أكبر، فآثر أن يكون دائمًا لله، ومع الله ومجاهدا في الله حق جهاده. كان ملتزما بالحق، كان يمثل الحق الواضح الصريح، وكان مقاومًا المبطلين المتلونين، الذين يتلونون تلون الحرباء، كان لا يداهن الباطل ولا يزين موقفه بالتهريج والهزل، فهو رجل لم يعرف الهزل إليه طريقًا. كان الهم العراقي لا يفارقه في حله وترحاله، وكم رأيته هنا في قطر، وفي الكويت، وفي الأردن، وفي مصر، وفي المملكة، وفي لبنان، وفي تركيا وفي غيرها، منافحا عن العراق وأهله، كان يريد أن يكون العراق لأهله، وكان يقول: إن أهل السنة في العراق هم الأغلبية، ويجب أن يأخذوا حقوقهم. وقد عانى الشيخ رحمه الله كثيرًا من أجل مواقفه، فقد صدرت في حقه مذكرة توقيف من الحكومة العراقية عام 2006، اضطر بعدها إلى أن يخرج إلى الأردن، وقد قتل أخوه ضامر وقبله ابن أخيه غيلة، فقابل كل المحن بصبر وعزيمة، وثقة بالله، وإصرار على المضي قدمًا في طريق الجهاد، فقد كان يعلم أن الجهاد الصادق طريقٌ، من بدأه، فلا بد له من الاستمرار فيه، "وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ" (الحج: 78). ولا بد أن يكون جهادًا بالنفس وبالمال كما قال تعالى: "إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ" (التوبة: 111). وقد قال الحسن البصري: اشترى أنفسا هو الذي خلقها، وأموالا هو الذي رزقها، وأعطى الثمن فأغلى، جنة عرضها السماوات والأرض. وظل على إصراره أن المقاومة في العراق حق مشروع، وأن كل من يعين الاحتلال يعد من المحتلين، ويعد من الخائنين، والله لا يحب الخائنين، ولذا قال تعالى: "إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ" (الحج: 38). تخرج في جامعة الأزهر، بعد حصوله على الدراسات الابتدائية والثانوية في مدارس العراق، وحصل من جامعة الأزهر على شهادة العالمية من كلية أصول الدين عام 1963. ثم تابع تعليمه بعد العالي وحصل على شهادة الماجستير في التفسير (1969) وبعدها سجل في شعبة الحديث، فأخذ منها أيضا شهادة الماجستير، ثم حصل على الدكتوراه في الحديث عام 1978م، كما حصل الدكتور عبد الكريم زيدان على الدكتوراه من مصر، من جامعة القاهرة، وكما حصل الدكتور علي القره داغي على الدكتوراه من جامعة الأزهر، وبعد ذلك عاد إلى العراق، حيث عمل مفتشًا في وزارة الأوقاف، ثم بعد ذلك نُقل إلى جامعة بغداد بوظيفة معيد، فمدرس، فأستاذ مساعد، فأستاذ. وتربى على يديه عدد من خيرة أبناء العراق، من الدعاة المجاهدين، الذين أدعوهم ليتحدثوا ويكتبوا عن شيخهم وأستاذهم. وقد لقيت أحدهم في حفل العزاء في الدوحة، وقال: إننا تعلمنا من الشيخ حارث أمورًا كثيرة، منها: ألا نجعل أوطاننا للبيع أو للإجارة للمستعمر الأجنبي، ومنها: ألا نبيع ديننا بملك المشرق والمغرب، وأن نحتفظ بشخصيتنا حرة صلبة، لا يستطيع أحد أن يتصرف فيها غير أصحابها. وهذه مبادئ عظيمة، يجب أن نرحب بها، وندعو إلى الاستمساك بها؛ فإنها من العروة الوثقى. عمل الأستاذ الدكتور حارث أكثر من 32 عامًا بالتدريس الجامعي، في عدة جامعات عربية، كجامعة اليرموك في الأردن، وجامعة عجمان في الإمارات العربية المتحدة، وكلية الدراسات الإسلامية والعربية في دبي، ثم تقاعد ليتفرغ لإدارة هيئة علماء المسلمين في العراق. كان الضاري الأب الروحي لمقاومة الاحتلال الأمريكي للعراق، وورفض المشاركة في الانتخابات التي أجريت أواخر يناير عام 2004، تحت سلطة المحتل، ورفض تشكيل أي كيان سياسي أو رسمي، ما بقي الاحتلال الأمريكي في العراق، وهو الأمر الذي خالفته فيه، ورأيت أن المشاركة في الانتخابات وفي العمل السياسي ضرورة، والضرورات تبيح المحظورات، والانتخابات لا تعفينا من واجب المشاركة في مقاومة الاحتلال وآثاره. ظل الضاري في الأردن، وبعد خروج الاحتلال الأمريكي من العراق، معارضا لنظام الحكم الطائفي في العراق، ودعا الشعب العراقي إلى القيام بثورة شعبية سلمية ضد حكومة نوري المالكي، الطاغية الطائفي الذي فرض على العراقيين أن ينقسموا إلى طوائف، وصمم أن يعلي إحدى الطوائف على الأخرى، وهو ما رفضه أهل السنة بحق. وبعد سيطرة مسلحي العشائر العراقية على بعض المناطق العراقية العام الماضي، اعتبر الضاري أن ما وقع ثورة من أجل رفع الظلم عن جميع المظلومين والمستضعفين في العراق، وضد ممارسات إجرامية وسياسات طائفية استبدادية اتبعها رئيس الوزراء نوري المالكي. وانتقد الشيخ الفتاوى الطائفية التي صدرت من بعض المراجع الشيعية؛ لأنها تؤجج الفتنة بين العراقيين، وتدعم الحاكم الظالم، وأكد في حوارات صحفية متعددة أهمية وحدة العراق، وأن مشروع الفيدراليات والأقاليم مشروع أعداء العراق الدوليين والإقليميين لتقسيمه على أسس طائفية وعرقية مقيتة. انتقد الضاري تنظيم الدولة الإسلامية وإعلانه عما أسماه ب"دولة الخلافة"، معتبرًا ذلك تمهيدا لتقسيم العراق وتفتيت الوطن العربي. لم يشغل الشأن العراقي الشيخ الدكتور حارث الضاري، عن الاهتمام بمشكلات المسلمين الأخرى، وقد كانت له إسهاماته في القضية الفلسطينية وغيرها من قضايا الأمة، مثل قضية سورية، وقضية ليبيا، وقضية اليمن، وقضية مصر، وكل قضايا الوطن العربي والإسلامي، فكلها قضاياه، يعيش لها، ويموت عليها، ويدافع عنها بكل ما يملك. بل كل قضية عادلة يخوضها شعب من أجل حريته وعدله وحقوقه فهي قضيته؛ لأن الإسلام علمه أن يكون إنسانًا عالميًّا. كما كان الشيخ المجاهد الضاري أحد العلماء الذين أحسنوا فهم الإسلام، فرفضوا الطائفية البغيضة، والمذهبية المتعصبة، والتقليد الأعمى، وكان من العلماء الدعاة المعلمين {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ} (الأحزاب:39). كان يدعو إلى الحق، ويشيع الخير، ويذود عن الحمى، ويقاوم كل من يريدون تحريف الدين، وتزييف الوعي، والبعد عن حقيقة القرآن والسنة، فهو من هؤلاء الذين أثنى عليهم رسولنا المعلم حين قال: "إن الله وملائكته، وأهل السموات والأرض، حتى النملة في جحرها، وحتى الحوت في البحر، ليصلون على معلم الناس الخير". وهو أيضا من (الخَلَف العدول) الذين جاء فيهم الحديث: "يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين". وقد كان الشيخ رحمه الله من الأمة الوسط، التي قال الله فيها: "وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ" (البقرة:143). وقد رفض كل الدعوات التي تنأى بالأمة عن المنهج الرباني القرآني النبوي، فرفض الإفراط والتفريط، ورفض الغلو والتسيب، وتمسك بمنهج الاعتدال، الذي يرفض الوكس والشطط، رفض أن يدخل في غلو الفئات التكفيرية، التي تكفر سائر المسلمين، وتستحل دماءهم وأموالهم، ولذا كان من الذين رحبوا بالاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، ودعا له، ووضع يده في أيدينا من أجل إنشائه وتقويته. وقد انتخب عضوا في مجلس أمناء الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين أكثر من مرة، وكان له رأيه الواضح، وصوته المدوِّي، ووقفته الصارمة في كل جلسة من جلسات الاتحاد، ضد الذين أرادوا أن يَحْرِفوا الاتحاد عن موضعه، ويصرفوه عن وسطيته، فكان الشيخ لهم بالمرصاد، وما عرفنا فيه إلا الصدق والصبر {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} (يوسف:90). لقد وقف بصراحة ووضوح ضد ما رآه من تعصب الشيخ محمد علي التسخيري، المرجع الشيعي، الذي اخترناه معنا من أول يوم، وجعلناه أحد نواب رئيس الاتحاد، وأوصينا إخواننا أن ينتخبوه، فانتخبوه، ولكنه- للأسف الشديد- كما لا حظ الشيخ حارث الضاري قبلنا: أنه كان يريد أن يكسب من وجوده في الاتحاد لمذهبه وطائفته، ولم نكن نحن ننظر للأمور هذه النظرة، بل رجونا أن يكون القوم قد أدركوا أن من الخير للأمة أن تتحد ولا تتفرق، لكنهم رأوا أن تتحد الأمة وراءهم، وتسير خلفهم، تتغنى بأناشيدهم، مع أنهم الطرف الأضعف، والعدد الأصغر، والبند الأقل. كان الشيخ الضاري يصر على أن يناديني دائمًا بهذا اللقب: إمام أهل السنة والجماعة، وإمام علماء المسلمين، ويعلن ذلك في المؤتمرات العالمية، ويصر عليها، ولا يبالي بما يجره ذلك عليه. رحم الله فقيد العراق، وفقيد الأمة: الشيخ حارث الضاري، وتقبله في الصالحين، ونسأل الله أن يرزقه أجر الشهداء، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه". وما علمناه إلا مجاهدا بنفسه ومجاهدا بماله، وطالبا للشهادة بصدق. "مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً" (الأحزاب: 23).