ودّع دنيانا قبل أيام، المجاهد الكبير، وأمين عام هيئة علماء المسلمين في العراق، الشيخ الدكتور حارث الضاري. جنازة مهيبة، وعزاء مهيب أيضا، يليق بشيخ مجاهد جليل، سليل أسرة عريقة ومجاهدة. رجل نذر حياته لشعبه وأمته، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين. قبل الاحتلال الأميركي للعراق، كان الشيخ حارث معروفا كعالم جليل، وكشيخ في عشيرته وبين أهله. رجل العلم والشهامة والكرم كان، لكنه بعد الاحتلال أصبح رجل المقاومة والجهاد، ورجل المواقف البطولية والبوصلة الصائبة في التعامل مع المحتلين وأذنابهم. وسط التيه الذي أصاب العرب السنّة في عراق ما بعد الاحتلال، وفي ظل عملية تزوير للتاريخ؛ تاريخ العراق لم يسبق لها مثيل، قبض الشيخ حارث الضاري على جمر المواقف الصائبة والمكلفة، ولو أراد الحصول على شيء شخصي، لجاءته المناصب التي يريد، لكنه اختار المركب الصعب، فكان المنفى الاضطراري، لا للهرب من التضحية، بل لإدارة مشهد مرتبك لفئة زاد ارتباكها بمرور الوقت، وذلك بعد أن تصدر تمثيلها سياسيون صغار تلاعب بهم المحتلون وأذنابهم. حين جاء الغزاة إلى بلاده، لم يتردد الشيخ حارث الضاري، حفيد الضاري الجد؛ أحد أهم رموز ثورة العشرين المجيدة، لم يتردد في ركوب الصعب، وهو الطريق الصائب، فاختار مسار المقاومة دون تردد، ليس كموجِّه فقط، بل كفاعل عملي في صناعة الكتائب وتوجيه البوصلة، وهذا هو السبب الذي جعله مستهدفا واضطره إلى مغادرة العراق بعد أن أصبح هدفا للغزاة وأذنابهم في آن، وهي مقاومة مجيدة أفشلت مشروع غزو بالغ الخطورة على العراق والأمة بأسرها. رفض الشيخ في موقف صائب ورجولي تلك العملية السياسية التي رتبها المحتلون، والتي حشرت العرب السنّة في دائرة الأقلية (20 في المئة لا أكثر)، واستمر يرفض كل المخرجات التي نتجت عنها، والتي زادت بؤس تلك الفئة بمرور الوقت، وبالطبع (كما أسلفنا) بسبب سياسيين مراهقين من شتى التيارات؛ يتصدرهم الحزب الإسلامي، وجماعة صالح المطلك، وتاليا النجيفي، وبعض رموز العشائر. وحين اغتر تنظيم الدولة بقوته، واصطدم بالمنخرطين في العملية السياسية والعشائر بعد 2007، وكذلك بقوى المقاومة، لم يذهب الشيخ حارث الضاري -رغم المرارة- نحو تاييد الصحوات التي أسسها الاحتلال، ولم ينكر دور التنظيم في ضرب الاحتلال وإفشال الغزو، وإن رفض سياساته الجديدة، وتحمَّل تبعا لذلك الكثير من الهجاء. لقد رأى ببصيرته أن من استَدرجوا أولئك لترتيب مشروع الصحوات، لن يمنحوا العرب السنة حقوقهم، وسيكتفون بضرب بعضهم ببعض، ومن ثم تجاهل مطالبهم لاحقا، وهو ما حدث بالفعل. وحين انتفض الناس من جديد (سلميا) ضد طائفية المالكي، كان الشيخ صوتهم المدوي، وحمل مطالبهم ومظالمهم إلى كل مكان تمكن من الوصول إليه. وحين يئسوا من العمل السلمي، وانتفضوا بالسلاح من جديد لم يتردد الشيخ في حمل مطالبهم، والتعبير عنهم، وكان صوتهم أيضا، من دون أن يتورط في الخطاب الطائفي، فهو يحمل قضية عادلة، وتحقيقها لا يتطلب بالضرورة إلغاء الآخرين، لكن الطرف الآخر هو الذي كان يغرق في الطائفية حتى أذنيه بعد أن تصدر المشهد طائفي بائس اسمه المالكي، وضع البلد رهينة بيد إيران. وها إن الشيخ يترجل عن صهوة جواده بينما يغرق العراق في الحرب من جديد، وهي دورة دم لم تكن نتاج تنظيم الدولة كما يروِّج كثيرون، بل إن صعوده في هذه المرحلة لم يكن سوى نتاج طائفية المالكي ودموية بشار الأسد. وهي دورة دم تجاوزت العراق إلى سوريا واليمن، وربما مناطق أخرى تاليا، وعنوانها غرور إيران وغطرستها. يترجل الشيخ، بينما المأساة التي حاول أن يوقفها مستمرة، وحسبه أنه جاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين. فيا رب أكرمه بصحبة النبيين والشهداء والصحالين، وحسن أولئك رفيقا.