9 آمال وانتظارات الحملة الانتخابية بعد وجداني ونفسي، فهي تجربة إنسانية وعاطفية، إذ تتراوح على المرشح لحظات من الخوف والتوجس، ولحظات أخرى من الإشفاق من تحمل المسؤولية وتبعاتها الثقيلة. فكثيرا ما كانت تحدثني نفسي برغبة دفينة، حيث كنت أتمنى صادقا أن لا أفوز بمقعد في المجلس النيابي، على أساس أن ذلك يحقق في نفس الوقت أمرين اثنين: أن معظم أهداف دخولنا في الحملة الانتخابية، والمتمثلة في التواصل مع المواطنين والتعريف ببرنامج الحزب وإيصال خطاب الدعوة التي نحمل ومبادئها وقيمها، ومقارعة الفساد الانتخابي والرفع من تكلفته، ومن ثم الإسهام في محاصرته والتضييق عليه. أن ذلك قد تحقق خلال أيام الحملة الانتخابية، بل منذ أيامها الأولى. وكان هناك أمر آخر يزين للنفس هذا الاحتمال، وهو الشعور بثقل التكليف وخطورته، ليس فحسب في ما يتطلبه من مرابطة متواصلة بالمجلس النيابي وأعمال اللجن، وما يتفرع عن المهمة النيابية من تكاليف إضافية، بل أيضا، وهذا هوالأخطر، في مطالب المواطنين وسكان الدائرة التي لا نهاية لها. فمن جهة، فإن الوضع الاجتماعي والاقتصادي والتنموي للدائرة والإقليم الذي تقع فيه، يفرض مطالب وانتظارات كثيرة من المواطنين، وقبل بضعة أيام من عودتي من جولة في بني ملال بعد اتصالات شكر مع سكان بعض الجماعات على الثقة التي وضعوها في لائحة "المصباح"، ودخولنا إلى مدينة الرباط رفقة أحد الإخوة المحررين في جريدة "التجديد" وأفراد أسرته، وبعد أن اقتربنا من حي السويسي قلت لرفيقي: شتان بين ما هو مطلوب من مرشح فائز في دائرة توجد بها أحياء مثل حي "الرياض" وحي "السويسي"، ومرشح فائز في دائرة توجد بها أحياء مثل حي "الكعيشية" ودواوير "للاعائشة" و"أيت تسليت" و "أوربيع"...وهلم جرا. شتان بين النيابة "المريحة" عن "شعب" ليست له مطالب البتة، والنيابة عن "شعب" كله مطالب. وليت الأمر سيقف عند المطالب التي هي في المقدور، أو التي تدخل في اختصاصات البرلماني. إنها مطالب خدماتية ترتبط بمجالات تدخل المجالس البلدية والقروية، ومطالب تدخل في مجال اختصاص الجمعيات الخيرية والإحسانية، بل إنها في غالب الأحيان مطالب شخصية يمكن لكل مواطن الحصول عليها من خلال الاتصال المباشر بالإدارات المعنية. لكن فساد الإدارة قد ولد لدى فئة عريضة من المواطنين "ثقافة الوساطة" و"ثقافة الاعتماد على الآخر"، خاصة أصحاب الوجاهة والسلطان، إذ لم يعد المواطن يتصور أن بإمكانه الحصول على حقوقه بالطرق العادية، هذا إذا توقف الأمر عند الحقوق المشروعة، ذلك أن كثيرا من مطالب التوسط قد تتجه للمطالبة بامتيازات علي حساب القانون أو على حساب حقوق الآخرين. إن المرشح الفائز في هذه الحالة بين نارين:إما أن يتوسط ويستخدم نفوذه في هذا الجانب الثاني من المطالب، وبذلك سيدخل في تناقض فظيع مع مبادئه، بل مع القانون نفسه، وهذا شأن كثير من رؤساء المجالس البلدية الذين يأذنون بالبناء العشوائي رضوخا لابتزاز المواطنين، وحرصا منهم على رضاهم وأصواتهم لانتخابات مقبلة، وإما أن يقف في وجه هذه المطالب الابتزازية، وهذا هو المطلوب، أي الإسهام في تصحيح ثقافة المواطن وبناء تعاقد انتخابي على أسس واضحة، ولو كان ذلك على حساب المرشح وصورته، وربما على حساب شعبيته خلال الانتخابات المقبلة. ولقد كان ما يصدق هذا التخوف منذ أول يوم من إعلان النتائج، والأيام التي تلتها، إذ بدأت تتراكم عشرات من المطالب الشخصية، منها ما يتعلق بالوساطة في الحصول علي تأشيرة السفر إلي الخارج (فيزا)، أو التدخل للسماح ببناء بيت دون رخصة، أو الوساطة في مباراة للتوظيف...إلخ. ومن جهة ثانية، وإلى جانب هذه الانتظارات، هناك الصورة الخاطئة حول الوضع المالي للمرشح، فقليل هم المواطنون، بل حتى من الأقارب، من يستطيعون أن يتقبلوا بأنه لاشيء سيتغير في هذا الوضع بالمقارنة مع الالتزامات الجديدة ل"البرلماني" مع حزب على المستوى الوطني، وعلى المستوى الإقليمي، والالتزامات التي يفرضها فتحه لمكتب اتصال مع المواطنين، قليل هم المواطنون الذين قد يصدقون أن النيابة عند مرشحي العدالة والتنمية هي مغرم قبل أن تكون مغنما، وعطاء قبل أن تكون استفادة، وأن لا شيء تقريبا يتغير في الوضع الاجتماعي لبرلمانيي العدالة والتنمية. والبرلماني المنتخب حديثا ينبغي أن يكون حذرا في حياته الاجتماعية، بل ربما كان عليه أن يتنازل عن حياته التلقائية، شأنه في ذلك شأن كل الشخصيات العامة، وربما كان عليه أن ينتبه إلى طريقة تحيته ورد التحية، فقد لا يكون مسموحا له أن يحيي بطريقته العادية الهادئة والباردة حسب تقييم البعض. وقد لا يكون مسموحا له أن يكون متعبا في يوم إعلان النتائج وتلقيها، وينبغي أن يكون له من الاستعداد ما يجعله قادرا على أن يخص كل زائر بحديث خاص وأن يخصص لكل واحد وقتا، ولو كانوا بالمئات، كما ينبغي أن يكون مستعدا للبدء في "حملة انتخابية" بعد إعلان النتائج، ويجوب الدائرة من جديد بجماعاتها كلها، وربما في الأيام الأولى من إعلان النتائج، حتى يبرهن بأنه ليس من "النمط القديم" من البرلمانيين الذين بمجرد أن يصلوا إلى المنصب حتى ينسوا المواطنين الذين صوتوا عليهم. وقد يبالغ بعض الإخوة من مسؤولي لجن الدعم في الأحياء في السعي إلى تحقيق هذا المعنى إلى الحد الذي قد يتمنون فيه أن يصافح البرلماني كل الذين صوتوا لفائدة لائحة الحزب يدا بيد بل حتى أولئك الذين لم يصوتوا من سكان الدائرة. والبرلماني في هذه الحالة ينبغي أن يستحضر، بعد فضل الله، فضل أولئك الذين اشتغلوا في السر والعلن لنصرة لائحة الحزب، وينبغي أن لا يقصر، ولو سهوا، في الاعتراف بالجميل للذين أسهموا في صعوده إلى البرلمان، ولا شك أنه إذا كان خلقا نبيلا ينبغي أن يتحلى به الإنسان المسلم، وينبغي أن تفكر إدارات الحملة الانتخابية في الوسائل التنظيمية العملية التي تجعله ميسورا، فإنه قد يتحول أحيانا، إلى تكلف ظاهر، وتصنع مرهق، وإلى من وأذى يجعل التكليف الجديد مكلفا نفسيا وجسديا، وبابا من أبواب العنت والمشقة، والحديث عن انتظارات المواطنين وآمالهم حديث ذو شجون. إن صورة المرشح الذي قد ينال عاطفة الشعب وثقته، ويحوز رضى الناخبين، إما بسبب استقامته الدينية والخلقية، وهذه هي الصورة التي ارتسمت عن مرشحي لائحة "المصباح" ولله الحمد والمنة، ومن ثم لم تفلح كل الدعايات المضادة التي حاولت تشويه هذه الصورة وربطها تارة ب"الإرهاب" وتارة أخرى ب "التطرف" وتارة أخرى بإثارة الشبهات حول مشروع "العدالة والتنمية"، أو قد ينالها بالإضافة إلى ذلك نتيجة شهرته برصيد دعوي أو نضالي سابق، أو رغبة من المواطنين في إعادة اعتبار بعد عملية تزوير في انتخابات سابقة، وكانت هذه هي حالتنا في دائرة بني ملال، إن صورة المرشح في هذه الحالة وشخصيته قد تتحولان إلى ما يشبه "الشخصية الكارزمية"، إذ تسقط عليه مجموعة من الانتظارات والتهيؤات التي تسقط في ثقافتنا الشعبية على شخصية "المهدي المنتظر"، وهكذا بدأت تروج عند المواطنين بعض الأخبار عن إنجازات لا نزعم فضلها، كما أن صورة المرشح لم تعد تقف عند وظيفتها التمثيلية والنيابية، بل لقد شحنت أحيانا بشحنات عاطفية كما تدل على ذلك ثلاثة حوادث منفصلة حدثت خلال أيام الحملة الانتخابية ويوم الإعلان عن النتائج. ففي يوم من أيام الحملة الانتخابية وبعد صلاة الظهر، خرجت أنا وأحد مرافقي في جولة بأحد الأحياء التجارية، وكان مجرد التجوال ببعض الأحياء كافيا للقيام بالحملة الانتخابية وتذكير الناس بالتصويت على لائحة "المصباح". فقد كان الناس يحرصون على اللقاء المباشر بمرشحي اللائحة ورأسها على الخصوص كي يؤكدوا مساندتهم بطريقة مباشرة، فالتواصل المباشر والتخاطب مباشرة هو جزء لا يتجزأ من الثقافة التواصلية المغربية، لا تغني عنه الوسائل الاتصالية الأخرى مثل المنشورات الانتخابية أو لجن الدعم في الأحياء. كان مرافقي يستغل المناسبة لتعريف المواطنين بلائحة "المصباح" وبرنامجها ويدعوهم إلى التصويت عليها، اتجه هذه المرة نحو امرأة وقدم لها منشورا انتخابيا وعرفها باللائحة والحزب ودعاها للتصويت على "المصباح". أكدت السيدة المذكورة بأنها ستصوت على "يتيم"، وذكرت ما شاء الله لها أن تذكر من أوصاف المدح. كنت واقفا إلى جنبها أتابع حوارهما، ولم تكن قد تعرفت علي فقلت لها: ها هو ذا يتيم بلحمه وعظمه!! لم تصدق السيدة المذكورة نفسها وكان وقع المفاجأة عليها قويا فاغرورقت عيناها بالدموع. كان الموقف مؤثرا فينا وفيها، فتركناها مندهشين لأمرها وانصرفنا إلى حال سبيلنا وكذلك فعلت هي الأخري. وفي مساء يوم التصويت دخلت زوجتي إلى أحد المخادع الهاتفية للاتصال بي هاتفيا. رفعت السماعة وضغطت على الأزرار لتطلب رقم هاتفي النقال، نادت علي باسمي العائلي، فقد كانت تلك عادتها دوما في المناداة علي قائلة: يتيم..! ثم استرسلت بعد ذلك في حديثها، أنهت مكالمتها وهمت بالانصراف، فبادرتها المسؤولة عن المخدع الهاتفي قائلة: لقد "تشوك علي لحمي" حينما ذكرت اسم "يتيم".. إنه المرشح الذي نريد أن نصوت عليه. ما علاقتك بالسيد "يتيم"؟ أجابتها قائلة: إنني زوجته، وتبادلا بعض الكلمات في موضوع الانتخابات وحول لائحة المصباح وانصرفت الزوجة إلى حال سبيلها. وفي اليوم الثاني لإعلان النتائج دخلت إلى المخبزات المشهورة في مدينة بني ملال، والتي تهيء حلويات جاهزة. كنت أود رد بعض الجميل والعرفان لأبناء الأخ غازي لبريديا المرشح الثاني في اللائحة، وكنت أقيم عنده خلال أيام الحملة الانتخابية، فأحاطني جزاه الله خيرا هو وامرأته، وخاصة أبناؤه بكل مظاهر العناية والكرم إلى حد أنهم لم يطيقوا أن أغادر البيت عند انتهاء الحملة الانتخابية وإعلان النتائج. كانوا قد زينوا صالة الضيوف بعد إعلان النتائج بطريقتهم الخاصة، وبما يوحي أنهم محتفلون بالنتيجة رغم أن أباهم لم يفز بالمقعد الثاني، وكانت تلك أمنية لنا، وكتبوا بطريقتهم الخاصة على ورقة عادية ألصقوها في صدر حائط من الصالة: مبروك النجاح. دخلت المخبزة المذكورة كي أشتري حلوى أهديها لأبناء الأخ المذكور وأسرته الصغيرة. كان استقبال صاحبها ومستخدميها من كان بها من الزبناء حارا محتفيا بالنصر ومصحوبا بالتهاني من كل حدب وصوب، قالت إحدى المستخدمات وهي تهنئ وتحمد الله نفس ما قالته المسؤولة عن المخدع الهاتفي:"لقد تشوك لحمي!!" شعرت من جديد بثقل المسؤولية وحجم انتظار المواطنين، خاصة وقد خاطبتني مواطنة أخرى بنفس المخبزة: المدينة متعفنة يا سيد يتيم.. لم نعد نطيق العيش داخل هذه المدينة.. نريد منك أن تنظف هذه المدينة!! محمد يتيم