الحلقة الأولى تحت عنوان قريب من هذا كان الأستاذ المقرئ أبو زيد الإدريسي قد أصدر كتيبا صغيرا تحت عنوان: "مذكرات مرشح راسب، وذلك عندما تقدم للانتخابات التشريعية الجزئية سنة 1994 بمدينة وجدة وقد استهواني نفس العنوان على أساس أن استبدل كلمة "راسب" بكلمة "ناجح" فصرفني عن ذلك أننا معشر الإخوان حزب العدالة والتنمية لنا فهم خاص لدلالة هذه المصطلحات تختلف عن المألوف، بل حتى طريقة تهنئة بعضنا لبعض ب "الفوز" بالمقعد النيابي تختلف عن المألوف، إذ الشائع عندنا أن نهنئ إخواننا بنيلهم لثقة المواطنين، ونسأل الله لهم المعونة والتوفيق على "التكليف" الجديد، وعلى المسؤولية الجسيمة، كما أننا عند تلقي النتائج لا ننطلق في مواكب تدق الطبول أو تعزف المزامير بل إننا نستقبل ذلك بالحمد لله على التوفيق الذي لا توفيق إلا بحوله وقوته وبسجود الشكر على فضله ومنه وبالدعاء لله على المعونة على المسؤولية الجديدة. ثم إن النجاح لا ينحصر عندنا في الفوز بالمقعد، فنجاحنا يبدأ مع أول يوم من الحملة حين نحس أننا نقوم بواجبنا في التواصل مع المواطنين والاطلاع على أوضاعهم والاستماع إلى شكاواهم وشكهم ويأسهم من العملية الانتخابية. نجاحنا يبدأ عند أول خطوة ينتقل من خلالها المواطن من حالة الشك واليأس إلى حالة الثقة والأمل بأن الإصلاح ممكن، وإقناع المواطن بأن المقاطعة واللامبالاة لا تحل مشكلة، ولا تقدم حلا بقدر ما تخدم قوى الفساد والإفساد الانتخابي. والنجاح يبدأ عندنا عندما ينال الواحد منا الثقة من إخوانه داخل الجمع العام الإقليمي حيث لا يفرض الواحد منا فرضا على القواعد الحزبية، وإنما يتداولون في المرشحين لهذا التلكيف ويمارسون الديمقراطية في أبهى وأعلى أشكالها وصورها، ويبدأ النجاح عندنا حينما يحس الواحد منا أنه غير موكول لنفسه لأنه لم يسأل الترشيح للبرلمان ولم يحرص عليه بل إنه معان كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم. ويبدأ عندنا وهو يحس بالتفاف المناضلين حول القضية التي يناضل من أجلها الحزب وليس من أجل الشخص، ومن ثم يتساوى في هذه الحالة رأس اللائحة مع غيره من أعضاء اللائحة أيا كانت مرتبتهم. وبهذا المقياس فإن أول الناجحين عندنا ليسوا هم رؤوس اللوائح بل هم أولئك الإخوة والأخوات الذين تصدقوا بأسمائهم والواحد منهم والواحدة منهن شبه متأكد أنه لا أمل له تقريبا في الحصول على المقعد، وربما يكون الرابع أوالثالث أو الثاني في اللائحة أكثر حيوية ونشاطا وأكثر أثرا في خدمة القضية التي يناضل من أجلها الحزب خلال الحملة الانتخابية، وهذا ما عاينته وشاهدته من الأخوين الذين كانا معي في اللائحة التي قدمها الحزب في مدينة بني ملال. وكان هذا المعنى هو المعنى الذي خرجنا به من الانتخابات التشريعية لسنة 1997 بمدينة بني ملال التي شهدت يومها عملية تزوير فظيعة لإرادة المواطنين صارت تفاصيلها حديث الخاص والعام كان شعورنا أننا انتصرنا رغم أن حزبنا قد سرق منه المقعد بتدخل سافر لأعلى سلطة في الإقليم وبتواطؤ مكشوف من باشا المدينة آنذاك ومن قائد المقاطعة الثالثة آنذاك حيث نظمت عملية إنزال للبطائق وصارت السيارات تحمل "الناخبين" أفواجا أفواجا إلى منطقة "أوربيع" حيث كانوا "يصوتون" للمرشح المعلوم وكانوا يتقاضون "المقابل" أي المال الحرام في ضيعة من الضيعات المعروفة، وهو أمر لم يعد مستورا أو خافيا بل صرحت به أوساط مقربة من المرشح المعلوم. انتصر حزب العدالة والتنمية لأنه ألجأ قوى الإفساد الانتخابي والسلطات الإدارية المتواطئة معها إلى عملية إفساد مكشوف لم يكن من الممكن التستر عليه بعد ذلك وصارت أخباره تتسرب من هنا وهناك. فحين انطلقت حملتنا الانتخابية في موعدها القانوني المقرر أخذت أخبار ترشح من هنا وهناك فردتنا وردت مناضلينا إلى الأجواء التي خيمت على المدينة عند اقتراع يونيو 1997. كان مناضلونا في لجنة من لجان الدعم يطرقون البيوت للتواصل مع المواطنين وشرح برنامجنا وحث المواطنين على التصويت على لائحة "المصباح"، كان المواطن المعني بالأمر هذه المرة أحد رؤساء المكاتب السابقة فحكى لمناضلينا مشهدا من مشاهد التزوير عاينه بنفسه في أحد المكاتب بوسط المدينة، حيث "انطفأت" الأضواء فجأة، وثم حشو الصندوق الصندوق بالعديد من الأغلفة المعبأة بورقة "المرشح المعلوم". وحيثما كنت أحل وارتحل خلال أيام الحملة الانتخابية وألتقي بمئات المواطنين كان نفس الكلام يتكرر: لقد صوت على حزب العدالة والتنمية أنا وأسرتي.. وكانوا يقسمون بأغلظ الأيمان أنهم أعطوا لمرشح حزب العدالة والتنمية كذا من الأصوات.. كانوا يقولون ذلك والمرارة تنبعث من نفوسهم ومن خلال كلماتهم. وفي مساء يوم من أيام الحملة الانتخابية كانت محطتنا هي قرية عياط في طريق عين اسردون، الحملة الانتخابية في هذه المنطقة والمناطق المجاورة لها ممتعة لأنك تحسب نفسك أنك في جولة سياحية لجمال المنطقة وللمياه المنسابة في جداولها، ولهوائها النقي الذي ينسيك أوساخ المدينة ومعاناة بعض أحيائها الهامشية بل حتى أحيائها "الراقية" مع الأوساخ والأزبال، لكنك ما تلبث أن ترجع أو يرجع بك أحد المواطنين إلى ليلة الإفساد الانتخابي شهر يونيو 1997. كنت أتجه نحو جماعة من المواطنين قرب قرية عياط اعتادوا على الجلوس تحت أشجار الزيتون لقضاء وقتهم في لعب الورق، إنه نفس المشهد قد تكرر سنة 1997 مع فارق وحيد هو أنه ربما قد يكون بعض شهود مجزرة الديمقراطية في مدينة بني ملال آنذاك قد لحقوا بالرفيق الأعلى. استأذنت المجموعة كالعادة في الحديث إليهم فأذنوا لكن واحدا منهم قد قاطعني مصارحا: حتى أقول الحقيقة فإننا في عياط قد صوتنا على المرشح الفلاني مقابل مبلغ مالي هو (300000 ريال) لقد جاءنا المرشح الفلاني خلال الحملة الانتخابية واشترطنا عليه مساعدة "المسجد" فأعطانا المبلغ المذكور، ثم لما جاءت النتيجة لصالح المرشح المذكور أتانا أهل "الطاكسيات" فقالوا لنا: لقد خنتمونا يا أهل الطاكسيات؟ قال ذلك وهو يحسب أنه قد أبرأ ذمته أمام الله، أما عن سائقي الطاكسيات فكان كثير منهم مساندين لمرشح حزب العدالة والتنمية آنذاك إن لم يكن أغلبهم، وكانوا متأثرين للنتيجة المطبوخة ومعلوم أن كثيرا من مواطني بني ملال ظلوا يؤاخذون ساكنة عياط وأوربيع حيث كانت المكاتب التي جاءت كي تقلب النتيجة في آخر لحظة، وللإنصاف فإن ناخبين من عياط وأوربيع قد صوتوا لمرشح حزب العدالة والتنمية، كما أن عمليات الإفساد قد تمت في مكاتب أخرى، بالرغم من أن أغلب المكاتب التي كانت وسط المدينة قد صوتت لفائدتنا. واقعة تقديم المبلغ المذكور من المرشح المذكور كنا قد أثبتناها في الطعن في نتائج الانتخابات آنذاك ودعمناها بشهود من عين المكان لكن المجلس الدستوري لم يأخذ بها، ولا أدري هل استدعى الشهود أم لا، لكن الواقعة قد تأكدت هذه المرة بلسان "المستفيدين" وصرت أسائل نفسي كيف يمكن أن يقبل المواطنون إقامة صرح ديني ويستعينون في ذلك بأموال محرمة شرعا وقانونا؟ تلك قضية أخرى سنرجع إليها وقد نتكلم عنها في هذه المذكرات حينما سنتكلم عن العلاقة الجدلية بين الإفساد الانتخابي والقابلية للفساد الانتخابي. محمد يتيم