كلما تقدمت المدنية المعاصرة ازدادت اكتشافا للوسائل والأدوات التقنية المتطورة التي تسهل على الإنسان سبل الحياة وتيسر له اليوم ما كان عسيرا أمس. وينطبق هذا على وجه الخصوص على وسائل نشر العلوم والتقنيات، وأدوات إذاعة المعارف وتلقينها. فقد شهد عصرنا دفقة واسعة في المنتجات التعليمية، لم تترك صغيرة ولا كبيرة في ميدان البرامج والمناهج وطرق التبسيط والتبليغ إلا ارتادتها، فقد تنوعت هذه الوسائل بين كتاب ومجلة وحاسوب وملصقات وإعلانات وألعاب هادفة ومنبهات تثير حاسة البصر والتفكير والسمع والشم واللمس والذوق، وتضع الروائز، وتمتحن المتعلم وتحمله على سرعة الاهتداء وحسن الجواب... ولو تأملت قيمة المعارف والعلوم التي تتلقاها أجيال اليوم، لوجدت أنها ضعيفة جدا معرضة للنسيان والضياع، ومطبوعة بالسرعة والعجلة والسطحية، ومشروطة بالمنبهات إذا توفرت هذه حضرت تلك، وإذا غابت غابت. ولو حاورت شباب اليوم في الأغلب الأعم لوجدت كثيرا منهم لا كلهم مفتقرين إلى أدبيات الحوار، وطرق المناظرة وطول النفس، ومنهج الإقناع، والتسلسل المنطقي... وهي أمور كانت منتشرة يوم لم تكن هذه الوسائل الهائلة متوفرة فلما اندفع سيل المخترعات والتقنيات التعليمية قل العطاء، وتخرج على مدرسة التقنيات الحديثة جيل مرهق الفكر، منهك الحواس، أتعبته المنبهات، وبات يلمس مطلوبه في الألعاب والأنشطة، ولعل السبب في ذلك كله أن العلوم والمعارف أفرغت من محتواها لما فصل العلم عن الأخلاق والعقيدة، وأصبح المدرس مجرد ملقن للتلميذ لا يختلف حاله عن حال الآلات الملقنة وحال الحواسيب التي يملي عليها الإنسان رغباته فتستجيب له، ومعنى ذلك أن التلميذ اليوم وكل إلى نفسه وهو يتعلم ويتلقى المعرفة، وفصلت هذه المعارف عن التربية والتوجيه وخلق الانضباط والاستماع والاحترام. ولقد أسفرت هذه المناهج المفرغة الجوفاء عن جيل من المدرسين كانوا بالأمس تلاميذ فأثمروا ما بذر فيهم، وانتصبوا أمام أفواج من التلاميذ، وهم لا يملكون لهم علما ولا تربية ولا خلقا، واستمر هذا الخط في دوران مغلق... ولا تسأل عن انعكاسات هذه المناهج العلمانية الفاصلة، على المجتمع، وما تزوده به من ظواهر بشرية غريبة تطبعها الأنانية والسطحية والعجلة، وتفتقر إلى من يدير أمورها ويأخذ بيدها، ولكنها أعطيت زمام تسيير الشؤون العامة وحملت المسؤوليات الجسام فكانت وبالا على البلاد والعباد. ورأس الداء كله هو فشو مريع لأدوات العلم، وتناقص لأطرافه لما فصل عن مرجعيته العقدية والخلقية؛ فليس النقص في وسائل نشر المعرفة، ولكن النقص في طبيعة المعرفة ذاتها وما ينبغي أن ترمي إليه من إعادة تشكيل الإنسان وفق أصوله الحضارية الأولى ثم ما يفرضه العصر من تحد ومواجهات ومن حرب حضارية كونية، وعولمة تمتص خصوصيات الأمم وثقافتها، وتذيبها في بوتقة التمييع والتضييع، وهي بوتقة تصهر عناصر القوة في كل ثقافة، ولا تترك لها إمكانية التأثير والغلبة والتوجيه، إفادة الثقافات الأخرى بتجارب خاصة يمكن أن تنتقى وتصير نافعة في حياة الأمم والحضارات، فمن المعلوم أن النظام العالمي الجديد صيغة تفتقر إلى نظام، ومدنية تفتقر إلى حضارة مؤطرة، وجسد يفتقر إلى روح، صيغة ذات نظام موهوم ألقي بها في دنيا الناس بقصد إفراغ الحضارات والثقافات من محتواها وخصوصياتها، والقضاء عليها، وإدخال أهلها في إطار كوني جديد يزعم أنه إنساني ولكنه ناسف لكل ما عداه مما ينافسه ولا يخدم مصالح واضعيه. هذه هي العقبة الكأداء التي ينبغي أن تقتحمها المعرفة في الوقت الراهن، وهذا هو التحدي الذي يواجهها وهي تلتمس طريقها إلى عقول الناشئة وقلوبهم، معززة بإطارها العام الحضاري ومذهبها العقدي وتصورها السليم الذي يربط العلم بأساس الأخلاق والاستقامة، وهي تلتمس طريقها هذه بالوسائل النظيفة تلك، لكي تعيد تشكيل عقلية الأمة حتى تحصنها من التذويب والتمييع وتمكنها من التأثير والنفع والعطاء... عبد الرحمان بودرع