يتناول تقرير المعرفة العربي للعام 2009 أحوال المعرفة في الراهن العربي، وهو يكتسب شرعيته من الحاجة إلى التعرف على نوعية الأداء المعرفي العربي في زمن ازدادت فيه أهمية المعرفة، وتنامي دورها في المجتمع. ولاشك أن مقاربة التطور المعرفي والثورة المعرفية التي عرفها العالم في نهاية القرن الماضي وبداية هذا القرن، تعتبر على وجه العموم، مسألة مستجدة في مؤسسات البحث الوطنية والدولية التي تولي عناية لأدوار المعرفة. يندرج هذا التقرير في موضوع المعرفة في الوطن العربي ضمن سلسلة من التقارير هدفها فتح مداخل عديدة للاقتراب من واقع المعرفة، والتفكير في سبل النهوض بمتطلباتها من أجل تحقيق التنمية الإنسانية الشاملة. وقد اتجه هذا التقرير لوضع ما يمكن اعتباره مدخلا عاما للإحاطة بحال مجتمع المعرفة العربية ومكوناتها، كما اتجه لرسم الملامح الكبرى لرؤية عامة تهدف إلى ردم بعض جوانب الفجوة المعرفية العربية. ونفترض أن التقارير القادمة ستتجه بدورها لإلقاء المزيد من الضوء على أحوال المعرفة العربية، انطلاقا من زوايا أخرى في النظر والمقاربة بهدف تطوير الأداء المعرفي العربي، وتحويل المعرفة إلى قاطرة للنهضة والتنمية. ما تزال الأدبيات التي تبحث في مسارات المعرفة في بدايتها، ولهذا صَوَّب التقرير نظره نحو قطبين اثنين : القطب الأول نظري، يضع الأسس الفلسفية والمقدمات الكبرى المعتمدة في هذا التقرير، والقطب الثاني يدور حول بعض المكونات الصانعة لدوائر المعرفة في الواقع العربي، وذلك لإنجاز تشخيصات تسمح بقياس حجم الفجوات المعرفية القائمة. وسنحاول أن نوجز المفاصل الكبرى للتقرير باعتماد المخطط التالي: مقدمات التقرير، جدليات التقرير، موضوعات التقرير. وقبل إعادة ترتيب محتوى التقرير من خلال العناصر التي ذكرنا، نشير إلى أن العمل كان يراوح الخطى بين مستجدات مجتمع المعرفة في الدول التي ولجت أبواب المعرفة وبين حال المعرفة العربية بمختلف فجواتها ونواقصها. وقد ظل التقرير، في كل الموضوعات والمحاور التي اعتنى بها، متجها لإنجاز تشخيص يساعد على إدراك واقع المعرفة العربية، ويرسم في الآن نفسه بواسطة إشارات عامة، فتوحات المعرفة اليوم ومكاسبها، والآفاق التي أطلقها أمام المجتمعات الإنسانية. كما حرص التقرير، على الرغم من نقص البيانات، وغياب المراصد الوطنية والقومية، على الاستفادة من بيانات المؤسسات الدولية بعيون فاحصة، مما ولَّد في التقرير نوعا من الجدل الداخلي المتطلع إلى بناء وتطوير الأداء المعرفي العربي. ويمكن أن نضيف أن التقرير حرص على الاستفادة من المُتاح من البيانات، كما حرص على تثمين الإرهاصات والبدايات التي تعكس نشوء ما يشكل أَنْوِيَة صغيرة لمجتمع المعرفة العربي، وذلك مقابل وضعه اليد على المعضلات الكبرى التي يعاني منها وضع المعرفة في مجتمعاتنا، سواء في مجال التعليم أو البحث، أو في مجال استخدام الوسائط التقنية الجديدة، التي تصنع اليوم شبكات المعرفة في عصر المعلومات. انطوت مختلف فصول التقرير على هاجس الاستماع إلى المحلي والخصوصي باعتباره يشكل منطلق التفكير في تعميم مكاسب الكوني والعالمي في المستوى المعرفي. ولم يكن حضور هذا الهاجس بسبب نزعة تُخَاِصم مكاسب المعرفة الكونية، بل باعتباره الفضاء الذي ينشد توطين هذه المكاسب وإعادة إنتاجها، بهدف بلوغ مرتبة المشاركة في الإبداع وتجاوز مختلف أشكال تسليع واستهلاك المعرفة. هناك هاجس آخر صاحب هذا التقرير، يتمثل في النظر إليه باعتباره واحدا من المداخل الممكنة للإصلاح في الوطن العربي، ولهذا السبب اتسع مفهوم المعرفة في التقرير ليشمل روحها، أي ليتضمن البعد التنويري والبعد التنموي، ويتجاوز في الآن نفسه الأبعاد الأخرى التي تُعْلِي من شأن المؤشرات الجزئية، والكمية متناسية أن المعرفة حرية، وأنها طريق يستلزم المزيد من شحذ آليات الذكاء الإنساني الخلاق. مقدمات التقرير تتسم البنية العامة لمختلف قضايا هذا التقرير بطابعها العام والمفتوح، وذلك بحكم أهمية الآفاق التي يفتحها موضوع العناية بالمعرفة ودورها في التنمية. فقد كان الحرص في مختلف مفاصله على العمل في إطار واجهتين، واجهة واقع المعرفة في الوطن العربي، ثم واجهة رسم بعض ملامح الطموح الرامي إلى تجاوز فجوات المعرفة العربية، ثم العمل في الواجهتين معا على تقديم مقترحات تساعد في حال تنفيذها في بداية تدارك بعض جوانب الفجوات المعرفية العربية. انطلق التقرير من مبدأ الحق في المعرفة واعتبره مبدءاً لا يقبل الجدل، وخاصة في الوطن العربي بالذات، الذي مازال يعاني من الأمية المعرفية والرقمية. كما نظر إلى المعرفة باعتبارها أداة للتنمية، وفي الوقت نفسه ربط الحق في المعرفة والتنمية بالنهضة والتنوير، واعتبر أن الإبداع هو السبيل المُعَزِّز لكل ما يسعف الإنسان بتجاوز عوائقه وقيوده. وقد سمحت هذه المبادئ مجتمعة بإضفاء الطابع المركب على بعض فصول التقرير، بحكم الترابط القائم فيما بينها. تُسَلِّم فصول التقرير مجتمعة بأن التأخر التاريخي العربي في مجال المعرفة قابل للتدارك، عندما يتوفر الطموح أولا، وتتوفر الإرادة السياسية المدعومة برصد الموارد اللازمة لبناء البيئات التمكينية والمؤسسات القادرة على رعاية التطور المعرفي، وتحويل مكاسبه إلى وسائل مساعدة على تحقيق التنمية الإنسانية الشاملة. جدليات التقرير تضمن التقرير في مختلف الموضوعات التي ركب في فصوله، جدليات عديدة، وجمع في مقاربته بين التوصيف ورصد التفاعل وإبراز التناقضات والمفارقات، متوخيا الحذر في إصدار الأحكام والمواقف. وقد حاول التخلص من النظرة الاقتصادوية للمعرفة، ومن تبعات المنظور الحتمي للتكنولوجيا، كما حاول إبراز رحابة كل من مفهوم مجتمع المعرفة ومفهوم الإبداع. وظلت تصاحبه في هذه الخيارات رغبة معلنة أحيانا ومضمرة أخرى، تشير إلى مبدأ البحث عن مجتمع للمعرفة مطابق ٍ ومتفاعلٍ مع محيط المجتمع العربي، باعتبار أن الهدف الأساس للمعرفة كما يتصوره التقرير، يتوخى خدمة الإنسان وخدمة طموحاته في النهوض بواقعه، وتجاوز الإشكالات التي تحد من إمكانية توسيع درجات تحرره. ومن بين أبرز الجدليات التي حرص التقرير على أن تكون بادية للعيان في فصوله بصور وأشكال مختلفة، مسألة علاقة المعرفة بالحرية وبالتحديث، وبكل ما يساهم في تعزيز الكرامة الإنسانية. وعندما تنحو بعض فصول التقرير للدفاع عن أهمية الحرية والمؤسسات والتشريعات، فإنها تتوخى النظر إلى المبادئ السابقة باعتبارها مفاتيح لتشييد مناخ العقلانية والنسبية، وفتح الطريق أمام مفاهيم المحاسبة والرقابة والمراجعة والشفافية وغير ذلك من القيم التي تعد أرضية مؤسِّسة وداعمة لمجتمع المعرفة اليوم. توقف التقرير أيضا أمام بعض الجدليات الموصولة بالهُويّة، مثل إصلاح اللغة، واتجه لإبراز الطابع المُلِح لهذه المسألة من أجل أن تظل اللغة العربية حاضرة وقادرة على تركيب نسق فاعل ومنفعل بمكاسب التقنيات الجديدة في المعرفة. وفي السياق نفسه، بلورت بعض توجهات التقرير دفاعها عن مبدأ التواصل مع العالم دون إغفال التواصل مع الذات، وذلك بإصلاح عللها ومنحها القدرة على أن يكون تواصلها مع العالم مُنتجا، وفعالا. ومن المؤكد أن هذه الجدلية تدخل في باب الانفتاح على المكاسب التي بنتها ثورات المعرفة المعاصرة. يعد مبدأ الانفتاح الإيجابي على ثورة المعرفة وما ترتب عنها من مكاسب في مجالات التنمية وتوسيع خيارات الإنسان في العيش الكريم، يعد المبدأ المذكور قاعدة أساسية في مشروع نقل وتوطين وإبداع المعرفة في عالمنا، وذلك انطلاقا من قاعدة أن الاستمرار في النقص المعرفي العربي يؤدي إلى استمرار تأخرنا التاريخي العام. ولهذا السبب، حرص التقرير على أن يكون مبدأ التواصل المعرفي مع العالم خاصية ملازمة لكل مظاهر المعرفة في العالم العربي، في التعليم وفي التقنية، وفي الثقافة العامة. ولابد من التشديد هنا على أن الدفاع عن التواصل لا يعني التبعية ولا يعني الانتقاء، كما لا يعني الاستعارة؛ إنه، أولا وقبل كل شيء، إرادة وطموح هدفهما تهيئة السبل التي تمكننا من بيئة تمكينية للمعرفة، ومن تحقيق مطلب توطين وإبداع المعرفة، وذلك باستيعاب القيم المعرفية المعاصرة والعمل على تطويرها لمصلحة الإنسان العربي. فصول التقرير يتضمن التقرير تقديما عاما وستة فصول. وفي التقديم العام، نقف على تأطير للتقرير يضعه في سياق التطورات التي عرفها حال التنمية الإنسانية في الوطن العربي حتى الربع الأول من سنة 2009. ويستعرض أبرز التحديات التي تعاقبت على المشهد السياسي والمعرفي العربي، مبرزا ضغوطها على الأداء المعرفي العربي. كما يعالج الأزمة المالية العالمية وتأثيراتها على مجتمع المعرفة، وانعكاساتها على الأوضاع العربية، ويفكر في مآل الإصلاح في العالم العربي، بعد انطلاق الجيل الثالث من مفاهيم الإصلاح في الفكر العربي في مطلع الألفية الثالثة. ولأن مهمة التقديم لا تتجاوز مبدأ الإشارة إلى مظاهر التحديات القائمة في الواقع العربي ، ولا سيما ما يرتبط منها بمجالات المعرفة، فقد تم الوقوف على استمرار الاحتلال الأميركي للعراق، والخطر الذي مازال يولده داخل المجتمع العراقي وفي المشرق العربي على وجه العموم. كما نقف على العدوان الإسرائيلي الأخير على غزة وأشكال الدمار والتنكيل التي لحقت الفلسطينيين، من جراء هذا العدوان ودون إغفال الملابسات والشعارات التي أطّرت العدوان في علاقتها بالتناقضات الموجودة في الساحة الفلسطينية. لم يغفل التقديم أيضا إثارة المشاكل التي تثيرها نزعات التطرف والتشدد في علاقتها بالمعرفة بحكم أن هذه النزعات تميل إلى عدم الاعتراف بالآخر وتعتمد منطقا أحاديا ومنغلقا في الفكر، ولهذا أثره الكبير على مناخ الحريات الذي يعتبر شرطا معززاً لإقامة مجتمع المعرفة. ويخصص هذا التقديم، أيضا، محورا يقوم فيه برصد سريع لأحوال المعرفة خلال السنوات الأخيرة، مقدما بعض المؤشرات التي ستتم معالجتها والعودة إليها تفصيلا من خلال فصول التقرير. أما الفصول الستة فقد تتابعت كما يلي : 1- الإطار النظري للمعرفة في الوطن العربي، مفاهيم وإشكالات. استوعب الفصل أربعة محاور، عالج في أولها الأسس والمنطلقات الموجهة لآليات الفهم والتحليل، وحددها في منطلقين اثنين ، المنطلق الأول يرسم ملامحه العامة ثلاثية المعرفة، والتنمية، والحرية. ذلك ان الحديث عن علاقة التنمية الإنسانية بالمعرفة يستحضر البعد الغائي الذي يجعل المعرفة في خدمة التنمية، أما الضلع الثالث المتمثل في الحرية فيبرز في الأطر الاجتماعية والسياسية والاقتصادية المساعدة في عملية العناية بالمعرفة والإبداع، وذلك بحكم التفاعل القائم بين توسيع فضاءات الحرية وبناء المعرفة. أما المنطلق الثاني فترسمه العلاقة بين مطلب التنمية وبناء مجتمع المعرفة، فقد أصبح من المؤكد اليوم أن تجليات المعرفة اتجهت لتفعيل الجهود التنموية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، الرامية إلى مغالبة النواقص التي تحد من إمكانية توسيع وتعميم الرفاه البشري. وتناول في المحور الثاني بناء المفاهيم، متوقفاً أمام مفهوم مجتمع المعرفة ومحاولا بناء الحدود المختلفة التي رسمت لتعيين دلالته. كما حاول تركيب تعريف إجرائي اعتمادا على نتائج مختلف فصول التقرير، وهو ما يعتبر محاولة أولى في إعادة النظر إلى مرتكزات المفهوم، بالاعتماد على تصور يراعي احتياجات وطموحات المجتمع العربي الفعلية في مجال المعرفة. وقد تميزت معطيات هذا الفصل بمعاينة وفحص دلالات المفهوم المختلفة في الخطاب المعرفي المعاصر، وبخاصة أشكال تداوله في التقارير الدولية. وكانت الغاية من عملية البناء ومن تركيب تعريف محدد هي عدم الاكتفاء بما هو متداول في هذا الباب، لا سيما وأن الفجوة المعرفية العربية، متعددة وعميقة وتقتضي، أساسا، الاستعانة بحال المعرفة العربية، من أجل بلورة التعريف الذي يتجاوب وينسجم مع الخصوصيات والطموحات العربية. وقف الفصل في محوره الثالث على النواظم والمرجعيات النظرية، التي يتم انطلاقا منها تركيب مفاهيم مرادفة لمجتمع المعرفة، من قبيل تقنيات المعلومات واقتصاد المعرفة والمجتمع الشبكي، وذلك بهدف إبراز التصورات الفلسفية التي تقف وراء تلك التسميات. وقد ترتب على عمليات الفحص والبناء إبراز مرجعيتين اثنتين وبصورة بارزة؛ أولاهما تشير إلى جوانب من الفلسفة الوضعية ، ولا سيما في أبعادها المتحمسة للحتمية التكنولوجية. أما المرجعية الثانية فقد كشفت عنها مفاهيم حقوقية تجد سندها في الأجيال المختلفة لحقوق الإنسان، الأمر الذي يضع خطاب مجتمع المعرفة في صلب دعاوى التحديث السياسي. وقد انتهى الفصل بمحور رابع عالج أبرز إشكالات مجتمع المعرفة، سواء في أبعادها الكونية أو في بعض جوانبها المرتبطة بالتحولات المعرفية الجارية في المجتمع العربي من قبيل إشكالية الهوية والعولمة، تقنات المعلومات والواقع الافتراضي، مشروع بناء منظومة جديدة للقيم، مجتمع المعرفة والمشاركة السياسية، المرأة العربية ومجتمع المعرفة ثم قضيا تجديد النسق اللغوي العربي. وقد أنشأ الفصل في هذا المحور جدلا جمع فيه بين الإشارة إلى جوانب من هذه الإشكالات وإلى الآفاق المحتملة منها في سياق ما يجري من تطورات في مجتمع المعرفة. 2- بيئات الأداء المعرفي العربي: توسيع الحريات وبناء المؤسسات. إذا كان الفصل الأول يهتم بالإطار النظري العام لمجتمع المعرفة، فإن هذا الفصل يتناول الشروط التي تمكن من تطوير المعرفة في الوطن العربي. وهما متكاملان على اكثر من وجه. ذلك أن هذا الفصل يعمل من خلال مجموعة من المحاور على تشخيص الضغوط والقيود التي تعرقل بناء مقومات مجتمع المعرفة، معتمداً أمثلة من البيئة السياسية والاقتصادية، وكذلك البيئة الاجتماعية والثقافية والإعلامية، ليبرز أشكال الإكراهات والقيود التي تحول دون تشكل بيئة حاضنة ومستوعبة لمتطلبات مجتمع المعرفة. ينطلق الفصل من مسلمة أساسية ترى أن الحريات بأشكالها المختلفة تعد أبرز سمة من سمات البيئات المحفزة للمعرفة. وقد أصبحت هذه المسلمة عنواناً للعصر، ومرشدا لجميع تجارب النهوض المعرفي، فكل بيئة تمكينية راعية للحريات توفر إطاراً ملائماً لقيام مجتمع المعرفة. والمعرفة والحرية وجهان لعملة واحدة. وفي معرض التفكير بالبيئة السياسية المؤطرة للمعرفة، اهتم الفصل بمسألة تراجع الحريات في الوطن العربي. كما تعرض في تحليله للبيئة الاقتصادية، إلى استمرار غياب الحريات في المجال الاقتصادي، موضحا أن الطفرة النفطية لم تدعم الحريات الاقتصادية. كما أشار إلى واقع حرية الملكية الفكرية، وفي الجانب الثقافي، وضع اليد على قيود المعرفة وتصاعد اتجاهات التشدد الديني. أما في المستوى الاجتماعي فقد أشار إلى أن استمرار حرمان المرأة العربية من كثير من حقوقها يضاعف النقص في البيئة التمكينية التي يفترض أن تكون رافعة للمعرفة. ومن خلال كل هذه العناصر عمل الفصل على تسليط الضوء على كثير من الكوابح والإكراهات التي ما تزال تحاصر الأمل في إنعاش أوضاع المعرفة العربية. وقد اعتبر الفصل الحرية قاطرةً للمعرفة؛ ففي غيابها تنشأ ظواهر تُفقِر المجال المعرفي، وتولّد ظواهر تعمق من فجوات المعرفة. وفي محور آخر، تناول الفصل بطريقة تمهيدية البحث في موضوع المؤسسات والقوانين ومختلف العناصر التي تمكن من المراجعة والمراقبة والمحاسبة، لتضمن لمجتمع المعرفة الدعم والرعاية. ثم توقف أمام محور آخر تناول فيه مسارات البيئة التمكينية العربية، موضحا أنه لا سبيل لولوج مجتمع المعرفة إلا ببناء قواعدها، أي بناء ما يؤهل المجتمع العربي لإنتاج وإبداع المعرفة. أبرز التقرير في إطار توضيحه لاهمية المأسسة ، أن البناء المؤسسي والقوانين المنظمة له يحققان مطلب الشفافية، ذلك أن المؤسسات تساهم في المراقبة والمحاسبة مع سيادة أحكام القانون. ومن حيث ارتباطها بالمجال المعرفي، تساهم المؤسسات أيضا في تحقيق درجة من اللامركزية والفعالية في أدائها للمهام المحددة لوظيفتها، حيث يؤدي التشبيك المؤسسي والتفريع المؤسسي إلى تعزيز آلية المأسسة التي ترادف في هذه الحالة شكلا من أشكال التحديث داخل المجتمع. ولا يتعلق الأمر هنا بالتشبيك والمأسسة في الداخل وحده، بل إن المؤسسات تمتلك بدورها في ظل مزايا التشبيك ما يمنحها القدرة على ولوج دروب المؤسسات في الخارج، وخصوصا عندما تكون قد استوعبت فضاءات التشبيك الناتجة عن ثورة المعلومات، الأمر الذي يولد بيئة محفزة على التلاقح والمثقافة والتشارك والتعلم، وركوب درب المغامرة المحسوبة، أي الفعل المؤسسي في بعده العقلاني المسؤول والقائم على حسابات المصلحة والمردودية. 3- التعليم وتكوين الرأسمال المعرفي. يثير موضوع التربية والتعليم في علاقته بمجتمع المعرفة قضايا متعددة، بحكم الترابط القائم بين التكوين والتربية واكتساب المعرفة ثم إعادة إنتاجها وإبداعها. ويمكن التفكير في دوره في تعميم المعرفة، كما يمكن تناول أدواته التربوية ووظائفه في التنشئة المعرفية والاجتماعية إضافة إلى مجمل علاقته بالرأسمال المعرفي وعلاقة هذا الرأسمال بالسوق وبتوظيف التعليم لخدمة التحرر والتنمية. يضاف إلى ذلك أن التعليم يحتل في حياة الأفراد والجماعات مكانة خاصة، وذلك لطول فترة التعليم، وللتجدد والتراكم الحاصل في ميادين المعرفة المختلفة، وكذلك لأدواره في تهيئة الأفراد للانخراط في سوق العمل والتمتع بمؤهلات منتجة ومبدعة. وقد ازدادت أهمية التعليم في مجتمع المعرفة بفضل التقنيات الهائلة التي أصبحت توظَّف في مجال التربية والتعليم؛ فأصبحنا نتحدث عن التعليم عن بعد، وعن المختبرات الجماعية، وعن تقنيات التعليم التي تركب الفضاءات الافتراضية، والتقنيات التي تقدم الدروس والاختبارات والشهادات عن بعد. إلا أن ما أشرنا إليه الآن قد لا يكون قريبا تمام القرب من واقع التعليم في الوطن العربي؛ ذلك أن تعميم التعليم لم يحصل كلية في مختلف الأقطار العربية، كما أن نسب الأمية عند الكبار والصغار والشباب ما تزال تحديا يواجه المسؤولين عن أنظمة التعليم في كثير من البلدان العربية. ويعني ذلك أن مطالب مجتمع المعرفة المحددة في جودة التعليم واستخدام التقنيات العصرية في التدريس وإنشاء شبكات للتعليم المتجدد، لا تندرج في الواقع العربي إلا في بعض الأقطار، وفي صورة تجارب رائدة صعبة التعميم في الوقت الراهن على الأقل. وعندما نضيف إلى كل ما سبق محتوى التعليم، وتكوين أطره، ووضعية الجامعات، وكذلك وضعية خريجي الجامعات وأحوال البحث العلمي، فإننا نجد أنفسنا أمام موضوعات مركبة يصعب مواجهتها دفعة واحدة. في إطار الوعي بالطبيعة الشائكة للموضوع، اتجه الاهتمام في هذا الفصل نحو قضية محورية تتعلق برأس المال المعرفي العربي، كما تبنيه وتُراكم لَبناتِه المدرسةُ والجامعة. نقصد برأس المال المعرفي مجمل الكفايات المعرفية التي يمتلكها أفراد المجتمع والتي تشمل المعارف في مختلف الميادين، كما تشمل المهارات الذهنية بمختلف أشكالها، وتطبيق المعارف والمهارات لحلّ مسائل نظرية أو عملية، والتوليف، والتخطيط، والتنظيم، واستشراف المستقبل، والتكيّف مع المتغيّرات والمستجدّات، واستغلال فرص التجديد والابتكار والإبداع، وما إلى ذلك من مهارات عقلية عليا. وتشمل أخيراً الكفايات الإنسانية والاجتماعية القائمة على المعرفة، وفي مقدّمتها المهارات المتعلّقة بالتواصل وإقامة علاقات إيجابية مع الآخرين والتعاون معهم. واستعرض الفصل في الجزء الأول منه المشهد العام لحال المعرفة من خلال التعليم في الدول العربية. ثم اتجه في قسمه الثاني الذي يشكل مادة الفصل إلى رصد كيفية تطويره، وذلك من خلال جملة من المؤشرات الكمية والنوعية المستندة إلى تقسيم ثلاثي، عالج فيه الفصل رأس المال المعرفي عند الأطفال والشباب والكبار. وقد خلص الفصل إلى ان البحث في موضوع رأس المال المعرفي يكشف عمق الفجوة التي تزداد اتساعا بين أحوال رأس المال المعرفي العربي ومكاسب المعرفة والثورة المعرفية المتواصلة في العالم. وانطلاقا من البيانات المتاحة، قدم الفصل خريطة تقصَّى فيها طبيعة رأس المال المعرفي وفجواته ومفارقاته. كما وضح أشكال التمايز والاختلاف والتقابل بين البلدان العربية في مختلف مراحل التعليم المختلفة. وعالج الفصل في الجزء الثالث موضوع نوعية رأس المال المعرفي المناسب لولوج مجتمع المعرفة، كاشفا محدودية رأس المال ذاك، ومبرزا بعض فجواته وبعض العوائق التي ما تزال تحول بينه وبين مجتمع المعرفة. 4- تقنيات المعلومات والاتصالات في الدول العربية: دعائم المعرفة وأدواتها إذا كان الفصل الأول والثاني قد وجها العناية للأطر النظرية والبيئية المهيئة والداعمة لمجتمع المعرفة، وتوقف الثالث أمام موضوع التعليم - وهو من مرتكزات مجتمع المعرفة - فإن الفصل الرابع اعتنى بالدعامة التقنية التي تحتل اليوم بدورها مكانة هامة في باب تطوير المعرفة وتحصيل المعلومات مبرزا أن تقنات المعلومات تعد إحدى الدعائم الرئيسية لإقامة مجتمع المعرفة؛ ذلك أنها تمثل الأداة الرئيسة في العصر الحالي لنشر المعرفة وتداولها، علاوة على دورها في تطوير ودعم وتسهيل وتسريع البحث العلمي والثقافي على أوسع نطاق ممكن. وقد توخى هذا الفصل قياس درجات ولوج العرب إلى مجتمع المعرفة انطلاقا من مستويات تحصيلهم واكتسابهم لتقنية المعلومات والاتصالات، مسلطاً الضوء على مكون مركزي في مجتمع المعرفة. أبرز الفصل أهمية الفتوحات التي أنجزتها تقنيات المعلومات والاتصالات في تركيب شبكات المعرفة، التي أصبحت أدوات ضرورية في نشر وتعميم وتوسيع دوائر المعرفة وتوظيفها في مختلف مناحي الحياة، وبحسابات تتجاوز عوائق الزمان والمكان، بحكم ما أصبحت تقدمه خدمات الإنترنتْ، على سبيل المثال. لقد أصبحت هذه التقنيات هي الطريق المناسب والسهل لتحصيل المعارف، وتم تعميمها في مختلف مجالات الحياة؛ في الاقتصاد والإدارة والتعليم، مما يكشف درجات تغلغلها في مختلف البنى في المجتمع. وقد عالج الفصل نوعية حضور تقنيات المعلومات في البلدان العربية، محاولا تقديم التطبيقات الجارية وحدودها، مستعرضا بعض الأمثلة في مجال التعليم والتجارة والرعاية الصحية والتنمية الاجتماعية ، موضحا الفجوات القائمة في هذه التطبيقات، دون أن يغفل إبراز المكاسب المحصَّلة. واعتنى الفصل في محور آخر بالتحديات التي تواجه المحتوى الرقمي العربي، متوقفا أمام ضحالة هذا المحتوى مقارنة مع المحتوى الرقمي العالمي. وفي هذا السياق، اهتم الفصل بموضوع تطوير اللغة العربية، من أجل أن تصبح قادرة على إنتاج المعارف الملائمة لمتطلبات الواقع العربي. وفي هذه النقطة بالذات تمت الإشار إلى الفقر التقني للغة العربية مقارنة مع اللغات التي تمتلك ناصية المجال التقني المعلوماتي، ونبه إلى أهمية تطوير أدوات هذه اللغة، لتصبح قادرة على تركيب المحتوى الرقمي بما يوسع مكاسب العرب التقنية، ويوسع المحتوى الرقمي على وجه العموم. وفي نهاية هذا الفصل ، تمت الإشارة إلى بعض المبادرات التي تمكن من تخطي جانب من العقبات التي تحول دون تعميم تقنية المعلومات والاتصال في المحيط العربي موضحا أنه باستثناء بضع علامات مضيئة متفرقة في عدد محدود من الدول العربية فإن صوغ استراتيجيات قطاع تقانات المعلومات والاتصالات ووضع التشريعات والقوانين التي من المفترض أن تنظم استثمارها، يتم ببطء نسبياً في مختلف الأقطار العربية. وقد أضحت الحاجة ملحة لإعادة النظر فيها لهذه الاستراتيجيات، وذلك لأنها لم تتناول بالعناية اللازمة، عدداً من القضايا الأساسية التي لا يمكن بدونها استثمار تطبيقات التقانات المتاحة على النحو الأمثل. وفي واقع الحال فإن الاستراتيجيات التي أُقرّت في الكثير من الدول العربية أولت القسط الأكبر من العناية لقضايا البنية الأساسية والتشريعات ولم تتناول بالعناية ذاتها القضايا المرتبطة بالتطبيقات وبالمحتوى الرقمي وبتطوير الإمكانات المتاحة لاستخدام اللغة العربية على الشبكة. 5- الأداء العربي في مجال البحث والإبداع. اتجه التقرير في الفصل الخامس لبحث موضوع الإبداع في المعرفة العربية، منطلقا من محاولة توسيع مؤشرات الإبداع كما بنتها التقارير الدولية، التي كانت في الأغلب الأعم ترادف الإبداع بالابتكار، وتنظر إلى العلوم والتقنيات باعتبارها المجال الخاص بالإبداع، حيث يتم قياس درجة الإبداع بحصر عدد الكشوف العلمية في العلوم وحصر براءات الاختراع المسجلة، ويتم تناسي المجالات المعرفية الأخرى، كالعلوم الإنسانية والاجتماعية والإبداع الفني على الرغم من دورها الهام فضاء للإبداع والتركيب الخلاق وقد توقف الفصل في بدايته أمام موضوع الإبداع واقتصاد المعرفة مشيرا إلى أن الوطن العربي يفتقد إلى مرصد قومي يُعِدُ المؤشرات الكمية والنوعية العربية، ويضمن مصداقية البيانات حول البحث والنشر العلمي والابداعي العربي. وتشكو المؤسسات الدولية من النقص الفادح في المعلومات الواردة من الدول العربية. حاول الفصل في محوره الأول إبراز سياسات العلوم والتقانة في الوطن العربي، وذلك من خلال رصده لنشر وإنتاج المعرفة العلمية، ووقوفه على معطيات تتصل بواقع مراكز البحوث العربية، إضافة إلى مسألة تمويل البحث العلمي في الوطن العربي. ثم انتقل بعد ذلك إلى السياسات العربية في مجال العلوم الإنسانية والاجتماعية والإبداع الفني. وفي هذا المحور بالذات، تجاوز المؤشرات المتداولة، وفتح المجال لإدراج كشوف البحث في الإنسانيات والعلوم الاجتماعية، وكذلك دور الفنون في تركيب الإبداعات الموصولة بالتخييل وبالوجدان. فقد غدت الفنون التشكيلية والإبداعات الأدبية في الرواية والمسرح والسينما والموسيقى تمتلك بدورها القدرة على إنتاج الإبداع الذي يثري الوجدان ويخصب الذاكرة، مما حَوَّل مفهوم الإبداع والبحث العلمي من محيط يوصف بالطابع الكمي والرياضي إلى مجالات التخييل والحساسية والقيم، وهي مجالات يصعب قياسها كمياً، كما يصعب نفي حضور الإبداع فيها. أما المحور الثالث في هذا الفصل، فقد اتجه إلى رصد مظاهر ومؤشرات الفجوة الإبداعية في الراهن المعرفي العربي. وعالج هذه الفجوة من خلال بحثه في المردود المجتمعي والاقتصادي للإبداع، ثم هجرة الأدمغة العربية، واضعا اليد على أهمية الهجرة البينية التي تَضِيق وتتسع بين الأقطار العربية دون سياسة واضحة، وقادرة على تحقيق نوع من التكامل بين الأقطار العربية. وتزداد أهمية التعاون العربي عندما نعرف التنوع والاختلاف الحاصل في نوعيات الأداء المعرفي بين الأقطار العربية، حيث أن بوسع أي سياسة تعاوني أن تقوم بعمليات توظيف متنوعة بين البلدان العربية، مما سيعزز إمكانية خلق بيئة تمكينية عربية مشتركة. وإن كان هذا الأمر يبدو صعبا اليوم جراء غياب التنسيق والتعاون فإنه يصبح ممكنا في حال توفر الإرادة السياسية القادرة على تطوير منظور عربي للمعرفة والإبداع. ويمكن أن نرجح أهمية هذا الموقف، مثلا، بإنشاء مراكز عربية مشتركة للبحث والإبداع، فنقلل من هدر الإمكانيات والطاقات في مراكز هامشية في كل قطر عربي على حدة، وننشئ مراكز تستوعب الموارد البشرية والمالية المشتركة . 6- رؤية وخطة لبناء مجتمع المعرفة في المنطقة العربية. اتجهت فصول التقرير السابقة إلى توصيف ورصد ومساءلة حال المعرفة وطبيعة الأداء المعرفي العربي. وقد جرى العمل التحريري فيها ، مجتمعةً، باعتماد إيقاعٍ مزدوج ، يرسم أوله ملامح المعرفة في الراهن العربي، اعتمادا على البيانات المتاحة، مع تسجيل ملاحظة نقدية كبرى تتعلق بغياب مرصد عربي لمتابعة تطور حال المعرفة العربية، ولا سيما أننا نعيش اليوم في بداية القرن الواحد والعشرين، قرن ثورة المعرفة بامتياز. أما الإيقاع التحريري الثاني فيتجه للتفكير في كيفية تطوير الأداء المعرفي العربي في الموضوعات التي شكلت العناوين الكبرى للفصول. وقد ازدوج الإيقاع بهدف الإمساك بمختلف تموجات الوضع المعرفي العربي مستوعباً التشخيص والرصد إلى البحث والتفكير في سبل النهوض بالأداء المعرفي العربي. بنى التقرير في نهايته، رؤية وخطة للعمل، من أجل التصدي للفجوات المعرفية التي كشفت ملامحها فصول التقرير وتشكل هذه الخطة صيغة مقترح يؤدي في حال تبنيه أو تبني الروح الموجهة له إلى ردم جوانب من الفجوة المعرفية، ليتمكن المجتمع العربي من الاستفادة من مكاسب المعرفة الداعمة لمشاريعه في النهوض والتنمية. لا يدخل هذا الفصل في باب رسم المأمول في الوضع المعرفي العربي بلغة اليَنْبَغِيَات والأحلام التي تضيق بمظاهر التباعد بين مجتمع المعرفة في الدول المتقدمة وهامشية المعرفة في الواقع العربي، بل إنه يكتفي برسم المعالم الكبرى لتجاوز العقبات وتخطي الانغلاق والفقر المعرفييْن، وذلك في صورة اقتراح محدد يعي جيدا الفروق والاختلافات القائمة في مجال المعرفة بين البلدان العربية، ويدرك، في الوقت نفسه، ضخامة الفجوات القائمة وصعوبة مواجهتها، ولهذا اعتمدت الخطة مبدأ التدرج طريقا لسد الفجوات المعرفية، وعملت على ترتيب أولويات في التحرك متدرجة في الزمن، (المدى الزمني القريب والمتوسط والبعيد)، ليتمكن العرب من التواصل مع ذواتهم ومع العالم بناءً على مكاسب المعرفة المعاصرة. إن التواصل مع الذات، أي تشخيص عللها المعرفية بصورة دقيقة وتشخيص أعطابها الموصولة ببيئات المعرفة، ثم التواصل مع العالم بكثير من الشجاعة والطموح، وبكثير من الإيمان الذي يسلم بأن التشارك في إنتاج المعرفة يتطلب الحوار، ويتطلب بناء التعاقدات العقلانية التي لا تنظر إلى الذات من زاوية سكونية، بل ترى أنها في تطورها تعد محصِّلة فعل تاريخي مركب، الأمر الذي يتيح للعرب إمكانية إنجاز مشاريعهم في توسيع دوائر المعرفة وتحقيق النهضة العربية المأمولة. ويرى الفصل الختامي أن الرؤية المقترحة تطابق الطموح والإرادة العربية الساعية لتخطي فجوات المعرفة. وفي هذا الإطار اهتم ببناء هذه الخطة على ثلاثة أسس: أولها يتعلق بالقواعد اللازمة لمجتمع المعرفة، وقد حددها في ثلاث قواعد، أولها توسيع مجال الحريات. والقاعدة الثانية هي التناغم والتجاوب مع حاجات التنمية الإنسانية. وتتمثل الثالثة في الانفتاح والتواصل. أما بالنسبة لمحاور الرؤية، فقد حددها في بناء البيئة التمكينية، ثم توطين المعرفة، ثم توظيفها لخدمة المشروع التنموي والنهضوي في الوطن العربي. ثم رسم الفصل ما أطلق عليه التقرير، ورتب فيها مهام مستعجلة وأخرى أقل استعجالا، وذلك حسب معطيات الفجوات المعرفية المرسومة في البلدان العربية. يبدأ التحرك الهادف إلى ولوج مجتمع المعرفة بالعمل في ميدان البيئة التمكينية، ليصل إلى مجال النقل والتوطين، وينتقل بعد ذلك إلى التحرك في مجال توظيف المعرفة من أجل الانخراط في إنتاج وإبداع المعرفة، دون أن يغفل أن هذه الخطة المقترحة تترك المجال واسعا للجمع بين ما هو مطلوب في صيغ من التفاعل والترابط والتدرج، حيث يظل مبدأ التحرك والمواجهة وتنويع المداخل من الوسائل المشجعة على اللحاق بمجتمع المعرفة. كما أشار هذا الفصل أيضا إلى مقترحات تشير إلى بعض المطالب المستعجلة من قبيل الحاجة إلى مرصد عربي للمعرفة، وهو ما يمكن أن يُدرَجَ في أكثر من محور من محاور هذه الخطة المقترحة، بهدف تعزيزها وإطلاقها. إن إيجاد نظام متكامل لرصد واقع المعرفة في العالم العربي يعد اليوم مطلبا أساسيا، بل إنه يشكل في الراهن العربي الخطوة المدخل لمقاربة النهوض بالأداء المعرفي العربي وامتلاك قواعد الإبداع. ذلك أنه لا يمكن وضع البرامج دون قياس الفجوات ومعرفة درجات الخلل التي تسود مختلف مجالات المعرفة. يتطلب إيجاد هذا الدليل عملا جماعيا تشارك فيه مختلف الجهات ذات الصلة بالموضوع، إنه خطوة مركزية في باب الإعداد لمجتمع المعرفة العربي، حيث تبنى القواعد وترتب البيانات وتبتكر المؤشرات في إطار التواصل مع الذات وأحوالها المعرفية، دون إغفال الاستفادة من التجارب السابقة في هذا المجال. ذلك أن دليلا عربيا مقترحا للمعرفة لا يعني التخلي عن المكاسب التي بنتها التجارب التي سبقتنا قدر ما يعني بناء دليل يستجيب لمتطلبات الواقع العربي. ولا يعتبر هذا المقترح من الأعمال الطوباوية، على الرغم من أهمية اليوتوبيا في أفعال التاريخ، بل إنه يندرج ضمن الخطط المساعدة على تجاوز الفجوة المعرفية العربية بالبناء المتدرج الذي يسلم بأن دليلا عربيا للمعرفة يعد خطوة أساسية في طريق طويل ، إنها خطوة البداية الضامنة لسلسلة الأفعال الموصلة إلى مجتمع المعرفة الذي نأمل. ******* يفتتح تقرير المعرفة للعام 2009 سلسلة من التقارير التي ستتابع في السنوات القادمة، بهدف بناء مرجعية من المعطيات والتوصيفات والمقترحات للنظر في طبيعة الأداء المعرفي العربي، وقياس المسافات التي تفصله عن مكاسب ومنجزات ثورة المعرفة في العالم المعاصر. ويفترض أن تدعم المعطيات والنتائج التي تضمنها هذا التقرير ما يتيح إمكانية مقاربة زوايا أخرى في موضوعات المعرفة والحرية والتنمية والتقدم، وهي محاور موصولة بمتطلبات التغيير المعرفي المطلوب في المجتمع العربي، والهدف من ذلك هو فتح الطريق وتوسيعه أمام مشروع النهضة العربية.