برعاية ورئاسة مصر والنرويج، من المقرر أن تستضيف القاهرة في الثاني عشر من تشرين الأول / اكتوبر 2014 مؤتمرا لمانحين دوليين وعرب من أجل إعادة إعمار غزة كهدف معلن، لكن الأسباب التي منعت المانحين أنفسهم من الوفاء بتعهداتهم السابقة للهدف ذاته في باريس عام 2007 ثم في شرم الشيخ بعد عامين ما زالت قائمة. لذلك فإنهم على الأرجح سوف يكررون في مؤتمرهم الجديد في العاصمة المصرية إعادة تدوير تعهداتهم في المؤتمرين السابقين، وسوف يكررون عدم الوفاء بها. وسوف يظل الشعب الفلسطيني المحاصر في القطاع على صفيح ساخن بانتظار عدوان جديد تشنه عليه دولة الاحتلال الإسرائيلي بحجة إزالة الأسباب التي يتذرع المانحون بها لإعادة تدوير تعهداتهم بإعادة إعمار لن تتحقق على أيديهم أبدا في المدى المنظور. فوفاء المانحين بتعهداتهم القديمة – الجديدة ما زال مشروطا سياسيا بتطبيق نموذج الوضع الفلسطيني القائم في الضفة الغربية على قطاع غزة — أي التنسيق الأمني مع دولة الاحتلال، وتصفية أي مقاومة للاحتلال ومطاردتها، وارتهان إعادة الإعمار لموافقة حكومة الاحتلال الأمنية، إلخ. — وحتى في هذه الحالة سوف تظل شروط المانحين للوفاء بتعهداتهم مرهونة باستمرار التزام منظمة التحرير بالحل التفاوضي كاستراتيجية وحيدة وبالاتفاقيات الموقعة التي أنشئت السلطة الفلسطينية بموجبها. وكل الدلائل تشير إلى أن منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية تخوضان معركة المانحين لفرض شروطهم بالنيابة عنهم، باسم "الشرعية" و"المشروع الوطني" و"السلطة المركزية الواحدة" التي تملك وحدها "قرار الحرب والسلم"، وتعلن استعدادها التام للاستمرار في التزامها بشروط المانحين السياسية. والمفارقة هنا هي أن دولة الاحتلال الإسرائيلي لا تلتزم بالشروط التي نجحت في فرضها على المانحين للسلطة الفلسطينية بعامة وليس لإعادة إعمار قطاع غزة فحسب، فهي لا "تنبذ العنف" بل تكرر ممارسة إرهاب الدولة وشن الحروب على الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال، وهي انتهكت علنا وتكرارا كل اتفاقياتها الموقعة مع منظمة التحرير، وهي لم تبادل حتى اعتراف منظمة التحرير بها ولم تعترف رسميا أبدا حتى الآن بإقامة دولة فلسطينية. لا بل إنها تهدد بحل حكومة الوفاق الوطني ما لم تفرض سلطتها كاملة على قطاع غزة، وتعلن بلسان نائب رئيس وزرائها د. محمد مصطفى بأن إعادة الإعمار لن تتحقق طالما لم تتحقق السيطرة الكاملة لحكومته على القطاع. لكن كل الدلائل تشير كذلك إلى أن المقاومة باقية في القطاع، وأن قوتها لمقاومة فرض شروط المانحين عليها وعلى القطاع متصاعدة. غير أن الترجمة الوحيدة لكل هذه الحقائق وغيرها هي أن إعادة إعمار قطاع غزة بهذه الشروط والمعطيات مؤجلة عمليا إلى أمد غير منظور، وان تأجيل إعادة الإعمار وربط هذه العملية باستنساخ نموذج الضفة الغربية في القطاع إنما يمثل استراتيجية وضوءا أخضر لتكرار غزو القطاع بعدوان جديد. إن استحقاقات إعادة الإعمار تتراكم في قطاع غزة نتيجة لهذه الاستراتيجية، فالدمار في القطاع لم يبدأ بالحسم ضد هذه الاستراتيجية عام 2007، فاستحقاق إعادة بناء مطار غزة ومينائها البحري على سبيل المثال ما زال قائما منذ دمرهما الاحتلال عام 2002، واستحقاقات إعادة إعمار ما دمره العدوانان على غزة عام 2008-2009 وعام 2012 ما زالت متراكمة. ويقول تقرير حديث للمجلس الاقتصادي الفلسطيني للتنمية والإعمار (بكدار) إن التكلفة الإجمالية لإعادة إعمار ما دمره العدوان الأخير على القطاع تقدر بحوالي ثماني مليارات دولار أميركي في عملية تستغرق خمس سنوات إذا رفعت دولة الاحتلال حصارها بصورة "كاملة" عن القطاع، وهو ما لم يحدث حتى الآن وليس من المتوقع أن يحدث قريبا. ومن الواضح أن إعادة إعمار غزة تتطلب تبني استراتيجية فلسطينية جديدة تفصل بين منح المانحين وبين شروطهم السياسية، وتقطع نهائيا مع أي التزام فلسطيني بهذه الشروط المذلة التي أثبتت السنوات التي أعقبت ما سمي "عملية السلام" أنها دمّرت أكثر مما عمّرت، وكانت الحاضنة الأم للانقسام الفلسطيني، من دون أي عائد وطني ولو بالحد الأدنى. كما تتطلب حكومة فلسطينية جديدة منبثقة عن شراكة وطنية تحتضن المقاومة ضد الاحتلال، فحكومة الوفاق الوطني الحالية بسقفها الزمني المحدد بستة أشهر وبمهمتها الرئيسية المحددة بالتهيئة لانتخابات رئاسية وتشريعية هي حكومة انتقالية مؤقتة ليست مؤهلة لأعباء مهمة ثقيلة وطويلة مثل إعاد إعمار قطاع غزة ورفع الحصار عنه، وهي مهمة إنسانية ووطنية أسمى من أي خلافات سياسية أو فصائلية. إن استمرار تبني الرئاسة الفلسطينية لشروط المانحين السياسية التي لا تفصل بين ما هو إنساني وبين ماهو سياسي هي استراتيجية لا تفصل بين ما هو وطني وما هو فصائلي، وهو ما يطيل أمد "الكارثة الإنسانية" في القطاع، لكن هذا الفصل المستحق منذ أمد طويل لا يبدو حتى الآن أنه على جدول أعمال لا المانحين الأجانب والعرب ولا على جدول أعمال الرئيس الفلسطيني محمود عباس الذي طالب في رسالة بعثها إلى الأمين العام للأمم المتحدة بان كي – مون في الثلاثين من تموز / يوليو الماضي بإعلان القطاع "منطقة كارثة" تعاني من "أزمة إنسانية خطيرة".
وهذه "الأزمة الإنسانية الخطيرة" ناجمة عن العقوبات الجماعية المفروضة على القطاع قبل الانقسام الفلسطيني لكنها استفحلت بعده، واستمرار أي رهان فلسطيني على مواصلة الالتزام بالشروط السياسية للمانحين، المسؤولة عن استمرار هذه العقوبات الجماعية، يعني فقط موافقة فلسطينية على استمرار إخضاع القطاع وأهله لهذه العقوبات، وقد حان الوقت كي تتبرأ أي قيادة فلسطينية من اتهامها بالمشاركة في هذه العقوبات، أو بالتواطؤ معها، أو بغض النظر عنها نتيجة العجز السياسي. فهذه العقوبات الجماعية المفروضة على القطاع لم يعد من المقبول استمرارها بحجة معاقبة حركة "حماس"، فهي بموجب مواثيق جنيف ولاهاي جريمة حرب بحق أهل القطاع المدنيين "المحميين" بالقانون الإنساني الدولي. إن ربط إعادة إعمار غزة بإعادة الرئاسة الفلسطينية إلى قطاع غزة وببسط سلطتها "الكاملة" عليه وبشروط المانحين السياسية، التي هي شروط دولة الاحتلال، يعني فقط ربط إعادة الإعمار بفرض أجندة حركة "فتح" الفصائلية على القطاع، ويعني معاقبة أهل القطاع جماعيا لخلافات "فتح" الفصائلية مع "حماس"، ليصبح من الصعب جدا تجنب عدم توجيه الاتهام بوجود تواطؤ فلسطيني في استمرار فرض العقوبات الجماعية على غزة، ومن الأصعب الدفاع عن وجود مساهمة فلسطينية في ارتكاب جريمة حرب كهذه. وإذا ما استمر الوضع الراهن، فإن إعادة إعمار غزة بشروطها الحالية سوف تظل مؤجلة، واستحقاقتها سوف تتراكم أكثر، ولن يظل أمام أهل القطاع سوى خيار البحث عن خلاصهم بوسائل أخرى وبأيديهم وحدهم، اللهم إلا إذا قررت الرئاسة الفلسطينية وفصيلها التحرر مرة واحدة وإلى الأبد من الارتهان ماليا وسياسيا للمانحين ل"عملية السلام" العاقر التي لم تلد حتى الآن سوى الموت والدمار والانقسام. ولم يفت الأوان بعد على الخيار الوطني المتاح حتى الآن، إن صدقت النوايا، لإنقاذ غزة وأهلها والوحدة الوطنية والمقاومة و"القرار المستقل" فعلا، باستكمال تنفيذ آليات المصالحة الوطنية، وتفعيل الإطار القيادي الموحد لمنظمة التحرير، والتوافق على استراتيجية فلسطينية جديدة على قاعدة الشراكة والمقاومة، وتأليف حكومة وطنية جديدة منبثقة عنها تكون مؤهلة لمهمة جسيمة مثل إعادة إعمار غزة ورفع الحصار عنها، ولا يحتاج كل ذلك إلا وقفة صادقة مع النفس، وتحكيم الضمير الوطني، وإرادة سياسية حرة.