تهدف هذه السلسلة إلى تيسير فهم فقه المعاملات المالية وتطبيقاته المعاصرة التي تجريها المؤسسات المالية سواء كانت بنوكا أو أسواق مالية أو مؤسسات التأمين التعاوني، والتي تعتبر الأرضية الاجتهادية للفقه المالي الإسلامي ومجال تطبيق مختلف منتجات الهندسة المالية الإسلامية التي سنتوقف عنها لشرحها وتبسيط آليات تطبيقها بالإضافة إلى الإشارة أهميتها في الدفع بعجلة التنمية و دورها الوقائي من مختلف الأزمات المالية التي تسببها التعاملات المالية الرأسمالية . وسنخصص المحور الأول لصيغ التمويل والاستثمار البنكية ، والمحور الثاني للأدوات المالية في الأسواق المالية ثم المحور الثالث لمؤسسات التأمين التعاوني. أولا: صيغ التمويل والاستثمار البنكية لقد حددت الشريعة الإسلامية الصيغ المالية الملائمة لتمويل الاستثمارات والمشاريع التي تهدف إلى تحقيق تنمية المجتمعات، وكان للاجتهاد الفقهي الدور المحوري في تحديد معايير وضوابط هذه الصيغ المالية للاستثمار ، كما كان له الدور الأساسي في ابتكار أدوات مالية جديدة تتناسب والتطورات المعاصرة ،مع مراعاة الضوابط الشرعية في ذلك. وقد شكلت هذه الصيغ التمويلية أدوات التعامل المالي في البنوك الإسلامية . الصيغة الأولى: المشاركة أولا: تعريف المشاركة إن الإسلام حينما حرم على المسلم اكتناز المال الذي يعجز عن استثماره بنفسه ، وحرم عليه إقراضه بفوائد محددة مسبقا، وضع له بديلا يمكنه من تشغيله وتحقيق عوائد عليه، مع مراعاة تحقيق العدالة والمساواة بين صاحب المال وصاحب الجهد الذي يقوم بتشغيله له، أو إعطاء فرصة لصاحب الجزء الصغير من المال للقيام بمشاريع أكبر وذات مردودية أفضل، وهذا البديل هو «نظام المشاركة « إن نظام المشاركة أو التمويل بالمشاركة هو عقد يتم بموجبه الاشتراك في الأموال لاستثمارها، حيث يساهم كل طرف بحصة في رأس المال. فالتمويل بالمشاركة يقوم على أساس أن يقدم المصرف الإسلامي التمويل الذي يطلبه العميل لتمويل مشروع معين دون اشتراط فائدة ثابتة كما هو الشأن في البنوك الربوية، وإنما يشارك المصرف العميل في الناتج المتوقع للمشروع ربحا وخسارة ووفق النتائج المالية المحققة، وذلك على ضوء قواعد وأسس توزيع تم الاتفاق عليها مسبقا بين المصرف والعميل وفق الضوابط الشرعية.1 ثانيا: دليل مشروعية المشاركة إن المشاركة كوسيلة لتوظيف المال مشروعة بالكتاب والسنة كما في قوله تعالى: " إنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ "2. و الخلطاء هم الشركاء ، كما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في الحديث القدسي فيما يرويه عن ربه عزّ وجل:» أنا ثالث الشريكين ما لم يخن أحدهما صاحبه، فإذا خانه خرجت من بينهما « 3. وقد عرف الفقه الإسلامي عدة صور لشركة الأشخاص منها:شركة العنان4 وشركة المفاوضة 5وشركة الأعمال،6 وشركة الوجوه 7 وشركة الأبدان8. وإذا كان الفقهاء قد اتفقوا بشأن شركة العنان، فقد اختلفوا في غيرها من حيث الجواز وعدمه، و من حيث الشروط في من أجازوها.9 ثالثا: أنواع صيغ المشاركة وشروط تطبيقها. أ- أنواع صيغ المشاركة: وهذه الأنواع المطبقة في التمويل الإسلامي يمكن تقسيمها على الشكل التالي: 1 - من حيث إدارة مشاريع المشاركة: حيث نفرق بين ؛ - المشاركة في مشروع معين تتولى الجهة المصدرة لصكوك المشاركة فيه (بنك أو مؤسسة استثمارية) بإدارة وتسيير المشروع ويتم توزيع الأرباح حسب حصص رأس المال للشركاء، ومثال ذلك «شهادات المشاركة بالبنك المركزي السوداني» «شمم» المملوكة لبنك و وزارة المالية السودانية. - المشاركة في مشروع معين تتولى جهة أخرى غير المصدرة للصكوك وأصحاب الأنصبة في المشاركة، وذلك مقابل نسبة من الأرباح، ونموذج ذلك «شهادات المشاركة الحكومية» المسماة «شهامة» التي تصدرها الحكومة السودانية. 2 -من حيث مدة مشاريع المشاركة: حيث نفرق بين ثلاث صيغ؛ - المشاركة الدائمة: وهي الصيغة المعروفة في الفقه الإسلامي بكونها تتم بصفة دائمة من خلال أنواع من الشركات كالعنان والوجوه والأبدان والأعمال في مشاريع ذات طابع تجاري أو صناعي أو زراعي أو عقاري أو غيرها حسب نوع الشركة. ويعرف هذا النوع في الاقتصاد المعاصر بشركات المساهمة والتي يقسم رأس مالها على حصص متساوية تسمى أسهم. - المشاركة المحدودة بأجل: وهي التي تكون في مشاريع محددة في مدة معينة (10 سنوات مثلا)، يتم تصفيتها بعد انقضاء هذه المدة وتوزع عوائدها حسب الأنصبة، مع تحمل الخسارة أيضا في حال حدوثها. - المشاركة المنتهية بالتمليك: وهي التي يحق فيها لشريك أن يحل بشكل تدريجي أو دفعة واحدة محل باقي الشركاء(عادة البنك أو مؤسسة التمويل)، وذلك مقابل نسبة متفق عليها غير الحصة من الأرباح، والتي تخصص لتسديد نصيب الشركاء الآخرين من رأس مال تمويل المشروع. وتعتبر هذه الصيغة الأكثر تطبيقا في المصارف المالية الإسلامية المعاصرة. ب- شروط التمويل بالمشاركة: وتتمثل هذه الشروط فيما يلي 10: - أهلية المتعاقدين - أن يكون رأس مال المشاركة من النقود أو القروض عند أغلب الفقهاء، كما يجب أن يكون معلوما وموجودا بالاتفاق . - جواز اشتراك أحد الشركاء بشيء ذو صبغة مالية كبراءة الاختراع أو علامة تجارية أو اسم تجاري . - أن يكون توزيع الربح حسب حصص رأس المال، ويرى الفقهاء المعاصرون أن يكون حسب الاتفاق لأن العمل له حصة في الربح . - أن يكون نصيب كل شريك من الربح جزء شائعا لا مبلغا محدداً. - أن تكون الخسارة حسب حصص رأس المال باتفاق كل الفقهاء . ثالثا - مزايا نظام المشاركة ودوره في تحقيق التنمية وتجنب الأزمات المالية. إن هذا النظام له خصائص تميزه عن النظام الربوي وُتبين أفضليته، يمكن إيجازها فيما يلي: - تقوم المشاركة على التعاون بين أصحاب رأس المال وأصحاب العمل، لذلك يسلط كل من الطرفين اهتمامهما على المشروع والعمل على نجاحه وتفوقه واستمراره، لأن عوائده تعود عليهم، بالتالي تتحرك عجلة التنمية قدما. - يقضي نظام المشاركة على الروح السلبية للفرد الذي يرضى بفائدة ثابتة مضمونة على أن يقدم على مشروع ينطوي على مخاطر. - يقوم نظام المشاركة على التوزيع العادل للعوائد، فصاحب المال يتحصل على ربح يتناسب وقيمة مساهمته بالمشروع، وصاحب الجهد يكافئ حسب مقدار جهده، وكذا في حالة الخسارة. لهذا فنظام المشاركة لا يتيح فرصة تركيز الثروة عند فئة قليلة من المجتمع لتسيطر على اقتصاده وتوجهه لصالحها. - تعمل المؤسسات المالية القائمة على نظام المشاركة على إقامة أفضل المشاريع والأكثر ربحية بما يتوافق مع الشريعة الإسلامية، من خلال تجنيد كل إمكانياتها لدراسة جدوى المشروعات المقترحة، لأن نجاح المشروع في حد ذاته هو هدفها، خاصة وأن جزء من عوائده سيؤول إليها، إضافة إلى السعي لتحقيق عوائد اجتماعية. - إن تأسيس علاقات تمويل دولية على أساس المشاركة في الربح والخسارة، قد يكون المخرج الوحيد لأزمة الديون الدولية بكل ما لها من تراكمات وآثار داخلية وخارجية على كل الدول النامية والمتقدمة. - يزيد الأخذ بنظام المشاركة من حركة النشاط الاقتصادي وتوفير فرص عمل أكثر، كما ينمي القدرة على الإبداع والتجديد. - يساعد نظام المشاركة على الادخار والاستثمار، في حين أن الفوائد في النظام الربوي تشكل عبئا ثقيلا على المقترض تجعله يسعى لتحقيق عوائد تفوق سعر الفائدة، وإلا تضاعفت خسائره. لكن نظام المشاركة يلغي هذه الفوائد ويقوم بدراسة وافية للمشروعات، وبالتالي فقرار الاستثمار يترتب على العائد المتوقع فقط . - إلغاء الوساطة العقيمة والمبنية على الاستغلال من طرف أصحاب الفائض على حساب أصحاب العجز وتعويضها بعلاقة متداخلة ذات مصلحة واحدة هو نجاح المشروع وتحقيق عوائد مالية واجتماعية على حد السواء . لذلك فإن تطبيق نظام المشاركة لا يعد بديلا إسلاميا للنظام الربوي فحسب، بل هو أفضل منه بكثير، لأن هدفه إلى جانب تحقيق الربح الخاص بالمستثمر يسعى لتحقيق عوائد اجتماعية تحقق التنمية الشاملة و تعود على الجميع بالخير والنفع وتمنع وقوع أي اضطرابات أو أزمات لأطراف دون أخرى. 1 - د.سليمان الخنجري»الأسواق المالية وأحكامها الفقهية» ص:273. 2 - سورة ص/الآية: 23 3 - أخرجه أبي داود في سننه كِتَاب الْبُيُوعِ - أنا ثالث الشريكين ما لم يخن أحدهما صاحبه فإذا خانه خرجت من بينهما (رقم: 3383) .و سكت عنه [وقد قال في رسالته لأهل مكة كل ما سكت عنه فهو صالح]. 4 - شركة العنان:هي أن يشترك اثنان أو أكثر بماليهما على أن يعملا بأبدانهما في التجارة والربح بينهما بحسب ما يتفقون عليه،وأما الخسارة فتكون على قدر المال.-د.محمد عثمان شبير»المعاملات المالية المعاصرة في الفقه الإسلامي» ص:291 5 -شركة المفاوضة:أن يفوض كل واحد من الشريكين إلى صاحبه التصرف في ماله مع غيبته وحضوره، وذلك واقع عندهم في جميع الممتلكات. محمد ابن رشد»نهاية المقتصد وبداية المجتهد»ج2/392 6 -شركة الأعمال:هي أن يتعاقد اثنان أو أكثر على أن تقبلوا نوعا معينا من العمل أو أكثر أو غير معين لكنه عام، وأن تكون الأجرة بينهم بنسبة معلومة.وذلك كالخياطة والصباغة والبناء وتركيب الأدوات الصحية وغيرها، وتسمى أيضا شركة الصنائع والتقبل.-د.نزيه حماد»معجم المصلحات الاقتصادية في لغة الفقهاء»ص:166. 7 -شركة الوجوه:هي الشركة على الذمم من غير صنعة ولا مال. أبا الوليد محمد ابن رشد»نهاية المقتصد وبداية المجتهد»ج2/394 8 شركة الأبدان:قال الشيرازي هي الشركة على ما يكسبان بأبدانهما- د.نزيه حماد»معجم المصلحات الاقتصادية في لغة الفقهاء»ص:165. 9 -أنظر: أبو الوليد محمد ابن رشد «-كتاب الشركة- في»نهاية المقتصد وبداية المجتهد»ج2/389-395 10 - أنظر: د.محمد عثمان شبير»المعاملات المالية المعاصرة في الفقه الإسلامي»ص:293- د.سليمان الخنجري»الأسواق المالية وأحكامها الفقهية» ص:277.- د.سامي يوسف محمد كامل»الصكوك المالية الإسلامية:الأزمة والمخرج» دار الفكر العربي القاهرة ط1-1431ه/2010م ص:34