نشرت بعض الصحف المصرية جانبا من الشق الاقتصادي الخاص بحزب " العدالة والحرية " الذي دشنته جماعة الإخوان المسلمين بعد ثورة 25 يناير – هذه الجماعة التي تمثل أهم تيارات الإسلام السياسي الفاعلة في الساحة العربية والإقليمية . ويؤكد البرنامج الاقتصادي للجماعة في رؤيته المالية على ما أسماه " تطبيق المنظومة الاقتصادية الإسلامية البعيدة عن الربا والقائمة على أسلوب المشاركة والمرابحة. وحيث يرى أن كبيرة " الربا " تقف وراء كل الشرور التي تعانى منها المجتمعات وأن الله ولعلمه الأزلي بمن خلق أعلن مع الرسول حربا على مقترفها وعلى المرابين حتى تتطهر البشرية بالابتعاد عنها . وتضيف الوثيقة الإخوانية أن استخدام أدوات مالية لم يقرها الشرع الإسلامي ساعدت على تدهور الاقتصاد , وحيث يتم بيع وتداول قروض مشكوك فيها في شكل أوراق مالية وبما ينطوي عليه من محظورات محرمة في صورة بيوع ربوية وبيع الإنسان مالا يملك وبيع الدين بالدين وغيرها , - وهكذا فأن ما أسمته " المعاملات الربوية غير الشرعية " مسئولية عن الأزمة المالية التي عصفت بالبورصات والأسواق المالية خلال ما يعرف بالأزمة المالية العالمية . ويعكس هذا التصور الإخوانى ما يسميه البعض " بالنظام الاقتصادي الإسلامي " الذي يؤكد منظروه أنه يقوم على أسس استخلاف الإنسان في مال لله وأن تصنيف الفرد الاجتماعي يقوم على التقوى مع أهمية دوافع الربح والبركة والملكية وفق الضوابط الفقهية و الدينية . ما يتعين الانتباه إليه هو واقعة ( الربا ) التي يهتم بها مفكرو" النظام الاقتصادي الإسلامي " والتي يقطع البرنامج الإخواني بأهمية الالتزام بحرمتها والابتعاد عنها . ثمة حاجة للتأكيد على أن تلك الرؤية تتجاهل في عمومياتها الفارق النوعي بين مقاصد الحكم الديني المتصل بتحريم " الربا ", وبين طبيعة ومفهوم " الفائدة " كمبدأ و محرك اقتصادي معاصر . فالثابت تاريخيا أن أصل علة الزجر في التعامل الربوي كان الحيلولة دون " استعباد المدين المعسر " – والتي كانت نظاما لصيقا بقواعد الرق المعمول بها في الجاهلية وحتى صدر الإسلام . تلك الغاية من التحريم ( التنفيذ البدني على المدين ) لم تعد مطروحة في ظل المبادئ التجارية الحديثة التي تحظر التنفيذ على شخص وجسد المدين المعسر , وتنتهي فقط إلى التنفيذ المدني الجبري على أمواله وممتلكاته اقتضاءا للمديونيات المالية . ولعل ذلك هو ما يفسر وضعية أن " عقد القرض ليس أصلا في العقود الربوية وفق مصادر الحق في الفقه الإسلامي , إذ " البيع هو الأصل " بيوع المقايضة والمبادلة بالذات " ويقاس على البيع الربوى القرض الذي يجلب منفعة ( د . عبد الرازق السنهورى – مصادر الحق في الفقه الإسلامي– ج2 ) . فالفائدة في عقد القرض الحديث ليست الربا المحظور شرعا والمحصور في بيوع المبادلة والمقايضة التي تختلف وتتمايز في الماهية والدور والأركان عن القروض المالية وعن البيع النقدي وعن الاستثمار بأسواق السندات المالية . كما أن انتفاء الإعلان عن فائدة معينة سلفا كخصيصة لعمل البنوك التي تصف نفسها " بالإسلامية " لا يعنى غياب فكرة التوظيف الرأسمالي عن تعاملاتها المصرفية , ولا يغير من طبيعة نشاطها الهادف لتحقيق أقصى ربح نقدي ممكن . فالواقع أن جميع البدائل التي تتقدم عبر معاملاتها المالية " بيع المرابحة و المضاربة الشرعية و التمويل بالمشاركة وغيرها " والتي تتدثر في العباءة " غير الربوية " تتصل بتنظيم العلاقة بين رأسماليين وبكيفية توزيع فائض القيمة فيما بينهم . ففي البنوك التقليدية – حيث يوجد سعر فائدة محدد ومعروف – فأن ذلك يعنى أن فريقا من الرأسماليين سوف يحصل في البداية على نسبة معينة من فائض القيمة . في حين أن الصور التي تقترحها تلك البنوك الإسلامية تعنى فقط أن أيا من هؤلاء الرأسماليين لن يحصل " مقدما على قدر من فائض القيمة " , وإنما سيصبح كل الرأسماليين المشاركين بالمشروع سواء عند المكسب أو الخسارة . آلية التوزيع السابق لا تنال من أهداف الشركاء في هذا " المشروع الإسلامي " والتي تدور حول توسيع الفارق بين قيمة الإنتاج وقيمة ما يدفعونه من أجور ونفقات لعنصر العمل أي تعظيما لمقدار فائض القيمة . وهكذا فتحريم الربا لا يمنع التناقض بين عنصري العمل ورأس المال , ولا يؤدى لتحول في نظام الإنتاج الاجتماعي , فهو لا يدحض حقيقة أن تجمع شركاء المعاملة الإسلامية يعتمدون شراء " قوة العمل " من أجل الحصول على الربح النقدي . أما القول بأن نظام الاقتصاد الإسلامي يقوم على أسس أخلاقية و أن المال " مال الله " وأننا " وكلاء على أدارته " وأن عماده هو المزاوجة بين المعاملات والعبادات فالثابت أن القائمين على هذا النظام " بشر " يملكون تأويل وتطبيق النص المقدس وفق أهوائهم الدهرية والزمنية . كما أن " الرأسماليين الربويين " في الغرب لا تنقصهم مناقب التقوى والصلاح الأخلاقي ولا يبخلون في العطاء لأجل رعاية وإنشاء المؤسسات الاجتماعية والعلمية والخدمية . وهكذا فالمقومات العقائدية والروحية ليست أساسا للنشاط المصرفي ولا تجب أخلاقيات الرأسمالية التي تدور في فلك نظام القيم السلعي . كما أن ما يحدث في أسواق المال لا علاقة له بالربا والدين والأخلاق – وإنما ينتمي لأزمة هيكلية تعصف بالرأسمالية منذ سبعينات القرن الماضي , وتكشف عن سطوة رأس المال المالي في مواجهة الاقتصاد الحقيقي / العيني . هذا الانفصام بين حركة الاقتصاد الحقيقي ( حركة الإنتاج والاستثمار والتصدير) وحركة الاقتصاد في أسواق المال هو نتيجة لعملية العولمة المالية ولتحرير المبكر للأسواق المالية عبر جنبات المعمورة ومن خلال حركة الأموال الساخنة التي لم يشهد التاريخ المالي مثيلا لها . ففي ظل الأداء التقليدي للاقتصاد كان رأس المال المالي دافعا نحو تسريع دورة رأس المال وتابعا لخدمة عملية الإنتاج و بعدها الزمني الذي يخضع لحسابات الأجل المتوسط والذي ينشغل بعملية خلق فائض القيمة في مرحلة إنتاج السلعة . ولكن عند ظهور العولمة الرأسمالية في نسقها الجديد فرض " رأس المال المالي " نفوذه على رأس المال الصناعي , ومن خلال سعيه لتحقيق أقصى ربح على المدى القصير فقد دوره التاريخي كنقطة بدء ووسيط مركزي في التمكين لتهيئة شروط عملية الإنتاج الرأسمالي . وهكذا تراجعت معدلات التوسع فى الطاقة الإنتاجية المادية والاستثمار العيني في مواجهة مضاربات الأسواق المالية غير الواقعية , وبشكل لم يعد يؤمن عملية تراكم رأس المال لا على مستوى الدولة القومية ولا على مستوى الاقتصاد الدولي . التوصيف السابق كاشف عن جوهر الأزمة , وهو برهان جديد على صحة التحليلات الماركسية بشأن التناقضات البنيوية لعملية الإنتاج الرأسمالي , ولاسيما التناقض المستمر بين عنصري رأس المال و العمل, وبين الطبيعة الاجتماعية لعملية العمل والملكية الفردية لوسائل الإنتاج . البرنامج السياسي لحزب الإخوان المسلمين لا يقدم نقدا موضوعيا للأساس الاجتماعي والاقتصادي لعملية الإنتاج الرأسمالي , وما ينتج عنه من تفاوت فى توزيع الدخول وغياب للعدالة والتوازن الطبقي. و لكنه بالأحرى يحصن قيم العملية الرأسمالية عبر دائرة (الحلال والحرام الديني) ويخلع على بعض ممارساتها الاستغلالية صفة " الحلال" بما يخدم مصالح الطبقة الاجتماعية المصاحبة لصعود جماعة الإخوان والمرتبطة بالبنوك التي تطلق على نفسها صفة " أسلامية " . الوثيقة الاقتصادية الإخوانية هي بضاعة رأسمالية تدفع بها الأصولية الدينية وبما يخدم مصالحها الطبقية . ومن ثمة فهي ( رأسمالية ملتحية ) تتدثر بعباءة الدين في حين أن الإسلام لم يتبنى أسلوبا معينا من أساليب الإنتاج المادي , كما لا يوجد تعارض بين الخيار الإسلامي الاقتصادي وغيره من الخيارات الرأسمالية أو الاشتراكية , ولم ينشأ تاريخيا تكوين اقتصادي – اجتماعي يطلق عليه لفظ " النظام الإسلامي" . الحوار المتمدن - العدد: 3335 - 2011 / 4 / 13