اعلم أن الكلام في مشكل الحديث قد بدأ مبكرا، فقد أُلِّف فيه منذ القرن الثاني الهجري؛ نَهَجَ ذلك الإمامُ الشافعي(204ه) رحمه الله في كتابه "اختلاف الحديث". وتواصل الاشتغال بهذا العلم، فكتب فيه الإمام ابن قتيبة(276ه) كتابه "تأويل مختلف الحديث"، وقَالَ فيه: "وَقَدْ تَدَبَّرْتُ رَحِمَكَ اللَّهُ كَلَامَ العائبين والزَّارِينَ، فوجدتهم يَقُولُونَ على الله مَا لا يَعْلَمُونَ، وَيَعِيبُونَ النَّاسَ بِمَا يَأْتُونَ، وَيُبْصِرُونَ الْقَذَى فِي عُيُونِ النَّاسِ، وَعُيُونُهُمْ تَطْرِفُ عَلَى الْأَجْذَاعِ، وَيَتَّهِمُونَ غَيْرَهُمْ فِي النَّقْلِ، وَلَا يَتَّهِمُونَ آرَاءَهُمْ فِي التَّأْوِيلِ". ثم ألف فيه الإمام الطحاوي(321ه) كتابه المشهور "شرح مشكل الآثار" وقال فيه: "وَإِنِّي نَظَرْتُ فِي الْآثَارِ الْمَرْوِيَّةِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْأَسَانِيدِ الْمَقْبُولَةِ، الَّتِي نَقَلَهَا ذَوُو التَّثَبُّتِ فِيهَا وَالْأَمَانَةِ عَلَيْهَا وَحُسْنِ الْأَدَاءِ لَهَا, فَوَجَدْتُ فِيهَا أَشْيَاءَ مِمَّا يَسْقُطُ مَعْرِفَتُهَا وَالْعِلْمُ بِمَا فِيهَا عَنْ أَكْثَرِ النَّاسِ، فَمَالَ قَلْبِي إلَى تَأَمُّلِهَا وَتِبْيَانِ مَا قَدَرْتُ عَلَيْهِ مِنْ مُشْكِلِهَا، وَمِنِ اسْتِخْرَاجِ الْأَحْكَامِ الَّتِي فِيهَا، وَمِنْ نَفْيِ الْإِحَالِاتِ عَنْهَا". وكتب فيه الإمام ابن فورك(406ه) "مشكل الأحاديث وبيانه"، وقال فيه: " كتاب نذكر فيه ما اشتهر من الأحاديث المروية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يوهم ظاهره التشبيه مما يتسلق به الملحدون على الطعن في الدين". وألف فيه أيضا الإمام ابن الجوزي(597ه) كتابه "كشف المشكل من حديث الصحيحين" وقال فيه: "وَمَعْلُوم أَن الصَّحِيح بِالْإِضَافَة إِلَى سَائِر الْمَنْقُول كعين الْإِنْسَان، بل كإنسان الْعين. وَكَانَ قد سَأَلَني من أثر سُؤَاله أَمارَة همتي، شَرْحَ مُشكله، فأنعمت لَهُ، وظننت الْأَمر سهلا، فَإِذا نَيْلُ سُهَيْل أسهلُ، لما قد حَوَتْ أَحَادِيثُه من فنون المشكلات ودقائق المعضلات". ومنهم الإمام العلائي(761ه) الذي قال معلقا على حديث مشكل أورده في كتابه "التنبيهات المجملة على المواضع المشكلة": "وقد حاول القاضي عياض(544ه)، ثم الشيخ محي الدين –النووي(676ه)- رحمهما الله، تأويل حديث ابن شهاب المتقدم، على أنه لما أراد النبي صلى الله عليه وسلم تحريمَ خاتم الذهب، اتخذ خاتم فضة، فلما لبس خاتم الفضة أراه الناس في ذلك اليوم، ليعلمهم إباحته، ثم طرح خاتم الذهب وأعلمهم تحريمه، فطرح الناس خواتيمهم من الذهب، فيكون قوله: "فطرح الناس خواتيمهم"، أي خواتيم الذهب، وفي هذا التأويل عُسْرٌ، ولكنه خير من التغليط". ومن أجود كتب المعاصرين في هذا الباب، كتاب "مشكلات الأحاديث النبوية" للشيخ السعدي(1376ه) رحمه الله. قلت: فانظر أيها القارئ كيف ينافح علماؤنا عن السنة النبوية، لا بالحمية فقط، ولكن بالعلم والنظر الحصيف، ودونك هذه الكتب وغيرها تقف على العجب العجاب من نور عقولهم رحمهم الله.