ممن نتعلم «فقه الحياة»، وكيف السبيل للوصول إلى هذا الفقه المنشود، الذي من خلاله يستطيع المسلم أن يعمل لدنياه كأنه يعيش أبدًا، وأن يعمل لآخرته كأنه يموت غدًا. هل نتعلم «فقه الحياة» ممن يتمسك بأدلة الشرع فحسب؟ أم نتعلمه ممن يتمسك بأدلة الشرع مع النظر كذلك إلى الواقع؟. هذه الأسئلة وما يتفرع عنها من قضايا، وما يتعلق بها من مسائل وإشكالات، هي موضوع «المائدة الفقهية» الدسمة التي يقدمها العلامة الدكتور يوسف القرضاوي رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين يوميا على قناة «أنا» الفضائية (التردد 12226 أفقي نايل سات) طوال شهر رمضان، وذلك من خلال برنامج «فقه الحياة»، والتي ستعمل «المساء »على نشرها بشراكة مع قناة «أنا» «ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم بصفته ربًا للأسرة يختلف عما قاله بصفته رئيسًا للدولة وإمامًا للمسلمين، وأيضًا يختلف ذلك عما قاله بصفته قاضيًا» هكذا فرق العلامة الدكتور يوسف القرضاوي بين الشخصيات المختلفة للنبي صلى الله عليه وسلم، باعتبار ذلك مدخلًا ضروريًا لمعرفة وفهم ما يندرج من السنة النبوية تحت إطار التشريع وما يخرج عن ذلك. العلامة القرضاوي رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين شدد كذلك على أنه لا يجوز قبول أي حديث إذا تعارض متنه مع نص قرآني قطعي، معتبرًا أن القرآن يعد المعلم الرئيسي لفهم السنة النبوية. جاء ذلك خلال حلقة الأمس من برنامج «فقه الحياة» الذي يذاع يوميا طوال شهر رمضان على قناة «أنا» الفضائية ويقدمه أكرم كساب. وفند القرضاوي الدعاوى التي تطعن في السنة النبوية، بزعم اختلاط الصحيح بالمكذوب، موضحًا أنه ليس هناك نبي خدمت سنته كما خدمت سنة النبي الكريم، حيث قام عشرات الآلاف بنقلها وتوثيقها جيلا بعد جيل. واعتبر القرضاوي أن السنة لم تبتل فقط بمن وضعوا فيها ما ليس منها أو بمن طعنوا في حجيتها، لكنها ابتليت أيضا بمن أساء فهمها، مشددًا على أن تأويل الجاهلين يفقد السنة معناها، ولا يقل خطرا عن تحريف الغالين وانتحال المبطلين. - نود في البداية أن نعلم ما مفهوم السنة؟ > بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا وإمامنا وأسوتنا، وحبيبنا، ومعلمنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه. وبعد... فالسنة هي المصدر التالي للقرآن الكريم في التشريع والدعوة والتربية، فهي بجوار القرآن جنبًا إلى جنب، مبينة له، كما قال الله تعالى (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)، ويعرف العلماء السنة: بأنها ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل، أو تقرير، أو صفة، أو سيرة، وهناك تعريف للسنة في الجانب الأصولي، يقصرها على الفعل والتقرير، إنما السنة عند المحدثين تشمل كذلك ما هو من الوصف؛ مثل القول إن النبي عليه الصلاة والسلام كان أشد حياءً من العذراء في خدرها، أو أنه كان إذا سُر استنار وجهه كأنه فلقة قمر. هذا الوصف الخَلقي أو الخُلقي، وأيضا السيرة، يدخل في السنة النبوية، مثل أنه صلى الله عليه وسلم ولد في شهر ربيع الأول، أو في يوم الاثنين، أو أن أول ما بُدئ به عليه الصلاة والسلام من الوحي، هو الرؤية الصادقة، فكان لا يرى رؤية إلا جاءت كفلق الصبح، كما روي عن عائشة، كذلك ما روي عن ولادته وإرضاعه، وشبابه، فكل هذا يدخل في السنة. - فضيلتكم مع الأصوليين، أم مع المحدثين؟ > ليس هناك تعارض بينهما، هؤلاء معنيون بهذا الجانب، وهؤلاء معنيون بذلك الجانب، كما أنه أحيانًا يراد بالسنة شيء آخر، وهو ما يقابل البدعة، أي سنة وبدعة، وهناك تعريف آخر عند الفقهاء وهو: أن السنة ما يقابل الفرض، فهذه التعريفات ليست متعارضة، وإنما هو اختلاف مصطلح عند كل فئة من الفئات. منزلة السنة - إذا كانت السنة عبارة عن قول، أو فعل أو تقرير، أو صفة، أو سيرة، فما منزلة السنة في الإسلام؟ > منزلة السنة في الإسلام، كما قلنا أنها المصدر التالي للقرآن الكريم، والله سبحانه وتعالى كما أمر بطاعة الله أمر بطاعة رسوله (قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) وقال: (وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا)، وقال: (وأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) وقال: (مَن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ)، فاعتبر طاعة الرسول من طاعة الله. - ما طبيعة الأحكام التي تأتي بها السنة؟ هل هي أحكام مؤكدة، أم مبينة؟ وهل السنة تأتي بأحكام جديدة؟ > هناك خلاف في هذا، هل السنة تأتي بحكم جديد، أو لا تأتي بحكم جديد، وجزء من الخلاف يتعلق بمعنى «حكم جديد»، فالبعض مثلاً يقول إن السنة جاءت بتحريم الذهب على الرجال، أو تحريم أواني الذهب والفضة، فهذا حكم جديد، والبعض يقول: لا هذا ليس حكمًا جديدًا، فالإسلام أمر بحياة الاعتدال، ونهى عن الترف، فاعتبروا أن أواني الذهب والفضة ومفارش الديباج والحرير من مظاهر الترف. - كذلك الجمع بين المرأة وعمتها؟ > هذا قياس على ما جاء في القرآن، (وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ)، الرسول أخذ من هذا القياس أنه كما أن الجمع بين الأختين يسبب قطيعة الرحم، كذلك الجمع بين المرأة وعمتها، والمرأة وخالتها، «إنكم إن فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم». فيمكن إن توسعنا في هذا النوع،؟ أن نقول لا السنة لم تأت بجديد، ويمكن أن نقول: لا، جاءت بمثل هذه الأحكام، وربما كان القول بأن السنة من شأنها أن تنشئ أحكامًا في بعض الأحيان، هو القول الأثبت. الغالين والمبطلين - ابن جرير، وتمام في فوائده وغيرهما، رووا حديثًا عن ابن عمر وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: «يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين»، وأود أن نستمع إلى نظرتكم في هذا الحديث من جهة السند ومن جهة المتن. > الإمام أحمد سئل عن هذا الحديث، فصححه، وابن القيم قواه في بعض كتبه، خصوصًا في رواية البيهقي، وهو معقول فعلاً، حيث إنه يحمل هذا العلم في كل جيل من الأجيال عدول هذا الجيل، أي الناس الثقاة الذين يحملون علم النبوة، وينفون عنه هذه الأصناف الثلاثة، تحريف الغالين، باعتبار أن الغلو كأنه تحريف للدين، وهذا ينفرنا من الغلو، وقد قال عليه الصلاة والسلام: «إياكم والغلو في الدين، فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين، هلك المتنطعون، هلك المتنطعون، هلك المتنطعون» رواه ابن مسعود في صحيح مسلم. كذلك يشير الحديث إلى «انتحال المبطلين» الذين يقولون على رسول الله ما لم يقله، وهذا عن الأحاديث المكذوبة، وهذا يتماشى مع الحديث الذي قال: «من كذب علي متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار»، ثم هناك خطر آخر وهو تأويل الجاهلين. - البعض يقول أحيانًا إذا كان القرآن تبيانًا لكل شيء، (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ) فما الحاجة إلى السنة؟ > القرآن الذي قال هذا، هو أيضا الذي قال: (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ)، وما معنى كل شيء؟ هو الأصول التي لا بد منها للعلم، للعقيدة، للعبادة، للأخلاق، للتشريع، للآداب، يعني أصول كل شيء، لكن الفروع والتفصيلات تبينها السنة، وهذا هو الواقع، فالرسول هو المبين. - هم يقولون كذلك إن القرآن محفوظ، وإن الله عز وجل تكفل بحفظه، لكن السنة غير محفوظة. > الإمام الشاطبي له بحث في الموافقات، بين فيه بالدليل أن حفظ القرآن يستلزم حفظ السنة، لأن السنة هي بيان القرآن، وحفظ المُبين يستلزم حفظ بيانه، وإلا بقي بلا بيان، وبقي مُشكِلاً غامضًا، فقال: تكلف الله تعالى بحفظ القرآن يتضمن ويستلزم أن يحفظ بيان هذا القرآن وهو السنة النبوية. تدوين السنة - لكن لماذا لم يتخذ النبي صلى الله عليه وسلم الاحتياطات اللازمة بالنسبة للسنة كما فعل في القرآن، بمعنى في القرآن الكريم اتخذ كُتابًا وأطلق على هؤلاء أنهم كُتاب الوحي، أما السنة فلم يجعل النبي صلى الله عليه وسلم لها كُتابا، بل بالعكس نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يكتب عنه شيء غير القرآن؟ > النبي عليه الصلاة والسلام تعامل مع كل مصدر من هذين المصدرين بما يستحقه من الحفظ، حيث اعتبر القرآن هو المصدر الأول وهو كتاب الأمة ودستورها، فاتخذ من الاحتياطات في حفظ القرآن ما لم يتخذه للسنة، ووفر كل الوسائل التي يجب أن تتوفر لحفظ القرآن، ففي هذا الوقت كانوا يكتبون في العظام، وفي اللحاف، وعلى الأشياء، وحرص النبي عليه الصلاة والسلام على أن يكتب القرآن ولا يخلطه بشيء، حتى لا يدخل الحديث النبوي في القرآن الكريم، ولذلك جاء في هذا الوقت «لا تكتبوا عني غير القرآن، ومن كتب شيئًا غير القرآن فليمحه»، وهذا الحديث رواه الإمام مسلم عن أبي سعيد الخدري، والإمام البخاري لم يروه، وقال إنه حديث مرسل. وهناك فرق بين القرآن والأحاديث، فالقرآن كله كلام الله، وكله تشريع، وأمر ونهي، إنما الرسول من كلامه ما لا دخل له في التشريع، لكن ومع أنه قال: «ومن كتب شيئًا غير القرآن فليمحه» فإنه سمح لأشياء أن تُكتب، حيث سمح لعبد الله بن عمرو أن يكتب، وقال اكتبوا لأبي شاة، رجل من اليمن، وكَتب كُتبًا في الصدقات، وهناك أشياء كثيرة ذكرها العلماء عن السنة قبل التدوين، وهناك كتاب لأخينا الدكتور عجاج الخطيب عن «السنة قبل التدوين».