يبدو أن قيادة حماس في غزة قررت أن تشن هجوماً إعلامياً في وسائل الإعلام الغربية "بلغة يفهمها الغرب"! مثال: كتب الدكتور محمود الزهار في صحيفة الواشنطن بوست الأمريكية في 17/4/2008تحت عنوان "لا سلام بدون حماس": "قبل خمسٍ وستين عاماً انتفض اليهود الشجعان في غيتو وارسو دفاعاً عن شعبهم، ونحن الغزيين، القابعين في أكبر سجن مفتوح في العالم، لا نستطيع أن نفعل أقل من هذا"!ويضيف الدكتور الزهار في فقرة أخرى في نفس المقالة أن "عملية السلام" لا يمكن أن تبدأ فعلاً إلا بعد الانسحاب "الإسرائيلي" الكلي والشامل إلى حدود ال67، وتفكيك المستوطنات، وسحب جنود الاحتلال، وإطلاق سراح الأسرى، وفك الحصار عن الحدود الدولية، وهو ما يمكن اعتباره "نقطة الانطلاق لمفاوضات عادلة وما قد يضع الأساس لعودة ملايين اللاجئين"!ويبدو أن الرسالة الأساسية للمقالة، المكتوبة إزاء خلفية زيارة الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر للمنطقة، هو ما جاء في الفقرة التالية: "الآن، أخيراً، لدينا الدواء المنشط لكارتر يقول ما يجب أن يستنتجه أي مفكر حر، غير مفسَد، وهو أن أي "خطة سلام"، أو "خريطة طريق"، أو "تراث"، يمكن أن تنجح إلا إذا كنا نجلس حول طاولة المفاوضات بدون أية شروط مسبقة"!!!!! وفي 12/5/2008 كتب الدكتور باسم نعيم، وزير الصحة في حكومة إسماعيل هنية، مقالاً في صحيفة الغارديان البريطانية يحمل عنواناً من المؤكد أنه سيلفت أنظار الغربيين هو "حماس تدين المحرقة"!!!ورسالة الدكتور نعيم، على ما يبدو، محاولة لإقناع الغربيين أننا لا نكره اليهود، وهي القناعة الخاطئة التي كان يفترض لولاها أن تقدم لنا وسائل الإعلام الغربية "الدعم والتأييد"، على حد ظنه في مستهل المقالة!!والمقالة تحاول أن تمحو "الضرر الإعلامي" الذي سببه برنامج في فضائية الأقصى عبر خلاله الأستاذ أمين دبور عن رأي سلبي ونقدي بما يسمى "المحرقة" اليهودية... لذا يتنصل الدكتور باسم نعيم من ذلك الموقف قائلاً أنه يعبر عن رأي دبور وحده، مضيفاً أن فضائية الأقصى كثيراً ما تنقل وجهات نظر لا تعبر بالضرورة عن حكومة إسماعيل هنية أو حركة حماس.وكان يمكن تفهم الأمر ربما لو تعلق الأمر بالقول أن الرأي الذي ينكر "المحرقة" يعبر فقط عن أصحابه، ولكن الفقرات اللاحقة في المقالة كانت تليق فقط بممثلي السلطة الفلسطينية، لا بممثلي المقاومة، ومنها: "ولكن يجب أن يكون واضحاً بأن لا حماس ولا الحكومة الفلسطينية في غزة تنكر المحرقة النازية. إن المحرقة لم تكن فقط جريمة ضد الإنسانية، بل واحدة من أبشع الجرائم في التاريخ الحديث. إننا ندينها كما ندين كل انتهاك للإنسانية، وكل أشكال التمييز على أساس الدين أو العرق أو الجنس أو القومية". ويضيف الدكتور نعيم في نفس المقالة: "وفي نفس الوقت الذي ندين فيه بدون تحفظ الجرائم التي ارتكبها النازيون ضد اليهود في أوروبا، فإننا نرفض بشكل قاطع استغلال المحرقة من قبل الصهاينة لتبرير جرائمهم، ولكسب الموافقة الدولية على حملة التطهير العرقي والإخضاع التي يشنون ضدنا"!!!وفي فقرة أخرى: "الفلسطينيون لا شأن لهم بالمحرقة، ولكن يجدون أنفسهم معاقبين بسبب جريمة غيرهم، بيد أننا نعرف جيداً ونرحب بحرارة بالدعم الصريح للحقوق الفلسطينية من قبل ناشطي حقوق الإنسان اليهود والإسرائيليين في فلسطين وحول العالم"!! وما سبق يدل بوضوح أن ثمة وهم على ما يبدو بأن مشكلة الإعلام الغربي، أو الرأي العام الغربي، هي أنه لا يفهم القضية الفلسطينية، أو أنه يظن أننا نحارب اليهود في فلسطين لمجرد أنهم ولدوا يهوداً، لا لأنهم احتلال استيطاني إحلالي! ويبدو أن هناك توهماً أخر، بناءً عليه، بأن كل ما علينا أن نفعله هو أن نثبت حسن نيتنا تجاه اليهود، عن طريق الاعتراف بهراء المِخرقة (بحرف الخاء، كشيء خارق لا يقبله العقل ولا العلم) حتى يسارع الإعلام الغربي لتقبلنا، وأن نسارع لإعلان الرغبة بالجلوس - بدون قيد أو شرط - للتفاوض مع "الإسرائيليين"، حتى يدرك الغربيون كم كانوا أغبياء، وحتى ينقلوا البندقية من كتف إلى كتف، ويبدأوا بتقديم الدعم والتأييد للقضية الفلسطينية! فإذا أضفنا إلى ذلك ترحيباً حاراً بتأييد نشطاء حقوق الإنسان اليهود و"الإسرائيليين" ل.............. "الحقوق الفلسطينية" (هذا المصطلح الغريب الذي يحول القضية الفلسطينية إلى حقوق جزئية قابلة للتبني ممن يرفض مفهوم التحرير أو الكفاح المسلح)، فإننا نكون قد ضربنا عصفورين بحجر، ونلنا بالإضافة إلى تأييد الغربيين ل"الحقوق الفلسطينية"، تأييد قسم من الجمهور "الإسرائيلي"، وهو ما يصب طبعاً في طاحونة إقناع المزيد من الغربيين بأننا لا نكره اليهود!! وهو كله جزء من الهلوسات الإعلامية والسياسية التي ما برح يعاني منها أنصار التسوية والتفريط في الساحة الفلسطينية، وبعض العرب الأمريكيين أو العرب الأوروبيين.وقد كان هذا النوع من التفكير هو نفسه بالضبط الذي حدا بمنظمة التحرير الفلسطينية أن تتبنى مفهوم "الدولة الديموقراطية العلمانية"، التي تضم العرب واليهود، كهدف للمشروع الوطني الفلسطيني، ونفس نوع التفكير الذي دفع المجلس الوطني الفلسطيني في السبعينات لتكليف محمود عباس بإقامة الصلات مع "اليسار الإسرائيلي". أما بقية القصة، فقد أصبحت جزءاً من التاريخ الفلسطيني المعاصر كما نعلم. وكل الرجاء أن لا تنتهي بعض قيادة حماس في غزة حيث بدأ محمود عباس تحت شعار كسب الرأي العام الغربي أو "الإسرائيلي"...النخب الحاكمة في الغرب، وبالمعية النخب المسيطرة على الإعلام الغربي، لا تدعم الحركة الصهيونية بسبب سوء فهم أو بسبب عدم قدرتنا على إيصال صوتنا كما يحاول أن يوهمنا سماسرة التغريب والمشاريع التسووية، بل لأن الكيان الصهيوني، منذ بدء نابليون أو بالمرستون يفكران بإنشائه، كان يعبر عن مصلحة إمبريالية. والغرب ليس مضلَّلاً، بل تتحد نخبه عضوياً بالحركة الصهيونية. والولايات المتحدة لا تدعم الكيان الصهيوني رغماً عن أنفها، بل لأن ثمة علاقة عضوية بين الإمبريالية والصهيونية، كما يعرف كل مبتدئ بالقضية الفلسطينية.والأهم، أن الأساس في مشروع التحرير هو تجييش وتعبئة الرأي العام العربي والإسلامي، قبل الغربي. فإن لم نتمكن من ذلك، فإن الرأي العام الغربي، لو افترضنا تأييده لنا، لن يفيدنا بشيء، وقد خرج الأوروبيون بالملايين ضد غزو العراق عام 2003، ولم يقلب ميزان الرأي العام الأمريكي ضد الحرب إلا ارتفاع الخسائر البشرية والمادية الأمريكية على يد أبطال المقاومة العراقية... وفلسطين إن لم يحررها العرب، لن يعوضنا عنها تأييد الغربيين ل"الحقوق الفلسطينية"!أما المِخرقة اليهودية، فعبارة عن أيديولوجيا لا حدث تاريخي، وهي أيديولوجيا تبرير النفوذ اليهودي حول العالم، وتبرير ضرورة تأسيس دولة لليهود في فلسطين كملجأ من "لا سامية" هذا العالم، وهي أحد أهم مصادر التأييد والتعاطف العالمي مع اليهود، ولا يمكن أن نقول نعترف بالمِخرقة ولكن نرفض طريقة توظيفها من قبل الحركة الصهيونية، لأن المِخرقة تم اختلاقها ليتم توظيفها سياسياً من قبل الحركة الصهيونية، فهذا مثل القول: نعترف بكتاب هرتزل "الدولة اليهودية" ولكن نرفض طريقة توظيفه من قبل الحركة الصهيونية! فالمِخرقة المزعومة ليست مجرد مجزرة تضاف إلى غيرها من المجازر، ولا مجرد رواية تاريخية، وليست مجرد فصل من فصول الحرب العالمية الثانية. المِخرقة، كما صاغها مبدعوها، هي أم المجازر، وحدثٌ لا مثيل له في تاريخ العالم، لأنها تعني أن اليهود ماتوا بطريقة تختلف عن غيرهم، في غرف غاز مر عبرها ملايين اليهود، فقضى منهم ستة ملايين في هذه الغرف بالذات، نتيجة قرار بإبادتهم من السلطات الهتلرية، وهذا جعل المِخرقة جريمة إبادة جماعية تختلف عن (فوق) أية إبادة جماعية بأنها تمت بطريقة فريدة، وبأعداد فريدة بالنسبة لمجموع عددهم، ونتيجة قرار فريد بإبادتهم بالذات لم يتعرض له غيرهم. وهذه القصة التي يمنع على أحد أن يناقشها أو يدققها هي التي تجعل المِخرقة مختلفة عن أي شيء غيرها. فإذا قبلنا بهذه الرواية كما هي، بكل ما تحتويه من فرادة وتميز يجعل اليهود ضحية الضحايا "من أجل خلاص العالم"، يصبح العالم كله مداناً لأنه سمح بوقوعها، ويصبح العالم بأسره مديناً لليهود، ويصبح التغاضي عن التجاوزات الصهيونية أمراً يسيراً بالمقارنة مع التغاضي المزعوم للعالم عما مر به اليهود في المِخرقة، وتصبح فلسطين ثمناً قليلاً يعطي لهم كملجأ من "لا سامية هذا العالم"!