ولي العهد الأمير الحسن يستقبل الرئيس الصيني بالدار البيضاء الذي يقوم بزيارة قصيرة للمغرب    المغرب يدعو إلى هامش أكبر من الاستقلالية المادية لمجلس حقوق الإنسان    تحطم طائرة تدريب يودي بحياة ضابطين بالقوات الجوية الملكية    متابعة موظفين وسماسرة ومسيري شركات في حالة سراح في قضية التلاعب في تعشير السيارات    هل يؤثر قرار اعتقال نتنياهو في مسار المفاوضات؟    عشر سنوات سجنا وغرامة 20 مليون سنتيما... عقوبات قصوى ضد كل من مس بتراث المغرب        رسميا: الشروع في اعتماد 'بطاقة الملاعب'    أبناء "ملايرية" مشهورين يتورطون في اغتصاب مواطنة فرنسية واختطاف صديقها في الدار البيضاء    الحكومة توقف رسوم الاستيراد المفروض على الأبقار والأغنام    الصحراء: الممكن من المستحيل في فتح قنصلية الصين..        المغرب التطواني يقاطع الإجتماعات التنظيمية مستنكرا حرمانه من مساندة جماهيره    أول دبلوم في طب القلب الرياضي بالمغرب.. خطوة استراتيجية لكرة القدم والرياضات ذات الأداء العالي    الحزب الحاكم في البرازيل يؤكد أن المخطط المغربي للحكم الذاتي في الصحراء يرتكز على مبادئ الحوار والقانون الدولي ومصالح السكان    تعيينات بمناصب عليا بمجلس الحكومة    مجلس الحكومة يصادق على مشروع مرسوم بوقف استيفاء رسم الاستيراد المفروض على الأبقار والأغنام الأليفة    "بتكوين" تقترب من 100 ألف دولار مواصلة قفزاتها بعد فوز ترامب    الرباط : ندوة حول « المرأة المغربية الصحراوية» و» الكتابة النسائية بالمغرب»    المنتدى الوطني للتراث الحساني ينظم الدورة الثالثة لمهرجان خيمة الثقافة الحسانية بالرباط    بعد غياب طويل.. سعاد صابر تعلن اعتزالها احترامًا لكرامتها ومسيرتها الفنية    القوات المسلحة الملكية تفتح تحقيقًا في تحطم طائرة ببنسليمان    استطلاع: 39% من الأطفال في المغرب يواجهون صعوبة التمدرس بالقرى    "الدستورية" تصرح بشغور مقاعد برلمانية    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    بإذن من الملك محمد السادس.. المجلس العلمي الأعلى يعقد دورته العادية ال 34    المغربيات حاضرات بقوة في جوائز الكاف 2024    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الجمعة    الاستئناف يرفع عقوبة رئيس ورزازات    المركز السينمائي المغربي يقصي الناظور مجدداً .. الفشل يلاحق ممثلي الإقليم    مؤشر الحوافز.. المغرب يواصل جذب الإنتاجات السينمائية العالمية بفضل نظام استرداد 30% من النفقات    طنجة.. توقيف شخصين بحوزتهما 116 كيلوغرام من مخدر الشيرا    ميركل: ترامب يميل للقادة السلطويين    لأول مرة.. روسيا تطلق صاروخا باليستيا عابر للقارات على أوكرانيا    زكية الدريوش: قطاع الصيد البحري يحقق نموًا قياسيًا ويواجه تحديات مناخية تتطلب تعزيز الشراكة بين القطاعين العام والخاص    وزارة الإقتصاد والمالية…زيادة في مداخيل الضريبة    ارتفاع أسعار الذهب مع تصاعد الطلب على أصول الملاذ الآمن        رودري: ميسي هو الأفضل في التاريخ    أنفوغرافيك | يتحسن ببطئ.. تموقع المغرب وفق مؤشرات الحوكمة الإفريقية 2024    ارتفاع أسعار النفط وسط قلق بشأن الإمدادات جراء التوترات الجيوسياسية    بعد تأهلهم ل"الكان" على حساب الجزائر.. مدرب الشبان يشيد بالمستوى الجيد للاعبين    8.5 ملايين من المغاربة لا يستفيدون من التأمين الإجباري الأساسي عن المرض    مدرب ريال سوسيداد يقرر إراحة أكرد    انطلاق الدورة الثانية للمعرض الدولي "رحلات تصويرية" بالدار البيضاء    الشرطة الإسبانية تفكك عصابة خطيرة تجند القاصرين لتنفيذ عمليات اغتيال مأجورة    من شنغهاي إلى الدار البيضاء.. إنجاز طبي مغربي تاريخي    تشكل مادة "الأكريلاميد" يهدد الناس بالأمراض السرطانية    اليسار الأميركي يفشل في تعطيل صفقة بيع أسلحة لإسرائيل بقيمة 20 مليار دولار    شي جين بينغ ولولا دا سيلفا يعلنان تعزيز العلاقات بين الصين والبرازيل    جائزة "صُنع في قطر" تشعل تنافس 5 أفلام بمهرجان "أجيال السينمائي"    تفاصيل قضية تلوث معلبات التونة بالزئبق..    دراسة: المواظبة على استهلاك الفستق تحافظ على البصر    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مذكرات زائر تركي إلى أكبر سجن مفتوح في العالم


تمكن التركي طوران قشلاقجي من زيارة قطاع غزة، عندما فتح الفلسطينيون الحدود على جانبي رفح. وقد مثّلت زيارة قشلاقجي للقطاع تجربة فريدة استلّ قلمه ليعبِّر عن معايشاته المؤثرة خلالها في التقرير التالي، الذي ينشره المركز الفلسطيني للإعلام مترجماً إلى العربية. أربعة أيام في أكبر سجن مفتوح في العالم لقد فرض الكيان الصهيوني منذ عامين حصاراً خانقا على قطاع غزة، غير أنّ غزة لم تستسلم. هذه المنطقة تحوّلت إلى أكبر سجن مفتوح في العالم، تحيط بها الجدران الحديديّة، إلاّ أنّ هذه الجدران لم تستطع أن تصمد أمام إرادة الفلسطينيين الذين يطلبون الحرّية. لقد تهاوى ذلك الجدار تماماً. إنّ غضب الكيان الصهيوني لم يفلح هنا، هنا هو المكان الذي يعيش فيه أطفال يرومون الحرّية. هذا المكان انتصر بالشّجاعة والصبر على الغضب والعذاب والحصار. هذا المكان هو الذي ذاق فيه الأطفال الشهادة بينما ما تزال رائحة الحليب تنبعث من أفواههم، هذه المدينة لم تفارقها أبدا أنشودة الحرّية، هذه المدينة التي كانت تمرح فيها خيول صلاح الدّين مغنّية أنشودة الحرّية. إنّ الجدران الحديدية التي تحيط بها ليست صوتاً للعجز بل من داخلها تنبعث أصداء النّصر عبر القرون. فمن ينتصر في النهاية، الحصار الظّالم الذي فرضه الكيان الصهيوني منذ عامين أم مدينة الأجداد الشّجعان؟. هؤولاء المظلومون الذين يتمسّكون بالحياة كما لو أنهم لم يموتوا أبداً، ويحبّون الموت كما لو أنهم سيموتون في كل لحظة؛ دمّروا الجدران الحديدية المحيطة بهم ودمّروا الحصار الذي فرضه عليهم الكيان الصهيوني. كانت هناك موجات بشريّة من عشرات الآلاف تتدفّق من مدينة رفح المصريّة وقصبة العريش، كانوا يشترون كلّ ما يجدونه أمامهم. عندما رأينا هذا المشهد المهيب ضاعت منّا الكلمات، ولم نستطع التّعبير عمّا بداخلنا. لقد رأينا بأمّ أعيننا، نحن مجموعة هيئة الإغاثة والمساعدات الإنسانية، في المدخل الموجود على حدود مدينة غزّة حجم الظّلم الذي يتعرّض له هذا الشّعب. إثر اليوم الذي تمّ فيه تدمير الجدار الحديدي الموجود بين غزة ومصر رأينا موجات بشريّة متكوّنة من عشرات الآلاف يدوسون على أنقاض الجدار ويعبرون إلى الطّرف الآخر، وعبرنا نحن مثلما عبر الناس. دمّر الفلسطنيون ثلثي الجدار الحديدي، وتنفّسوا الصّعداء تنفّساً عميقاً، فما شعروا به في تلك اللحظات هو الشيء الذي يقال له الحرّية. يبلغ طول (قطاع) غزة خمسة وأربعين كيلومتراً، وعرضها عشرة كيلومترات، ويسكنها مليون ونصف المليون من السكّان، وهي بذلك تعتبر من أكثر المناطق في العالم من حيث الكثافة السكانية. وقد عبّر جون دوغارد المتخصص في حقوق الإنسان بالأمم المتحدة عن الحصار الذي يطبقه كل من الكيان الصهيوني والولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي على غزة منذ شهر نيسان (أبريل) من سنة 2006 بالقول إنه عقاب جماعي بأتمّ معنى الكلمة، فلقد تحوّلت غزّة إلى سجن كبير بسبب الحصار المضروب عليها برّا وجوّا وبحرا. وظلّ العالم الغربي صامتاً إزاء المأساة التي يعيشها أهل هذه المنطقة، ولكن لابأس فالعالم ليس الغرب فقط. على درب صلاح الدين عندما وطأت أقدامنا أرض فلسطين قادمين من معبر رفح انتابنا شعور غريب. هذه المنطقة الجغرافية أشاهدها منذ سنوات في التلفزيون، وقرأت حولها في الكتب وفي المجلاّت. هذه المنطقة تجذبني إليها بصورة غريبة. الطريق الذي يربط بين رفح وغزة يأسرني إليه أسراً. سألت السائق عن اسم الشارع فقال لي شارع صلاح الدين . من هنا مرّ طريق الفاتح العظيم صلاح الدين الأيّوبي ليفتح القدس. بعد هذه الكلمات اغرورقت عيناي بالدموع وهي تتأمّل هذا الطريق الذي لا يظهر آخره. وفجاة أحسست أنّ سيارة الأجرة التي نركبها تتمايل يمنة ويسرة، وتمرّ عن يميننا وعن شمالنا جيوش هائلة من الخيول. عربات تجرّها الخيول يدوِّي معها التكبير، أركض بين الخيول لأعرف ما يحدث، ولكن لا أستطيع اللحاق بها. وعلى مسافة قريبة إلى الأمام رأيتهم يقفون للصلاة، فأسرعت الخطى لأعرف إلى أين تتجه تلك الخيول، وأولئك الركبان. لكن هيهات؛ أشدّاء أقوياء لا يمكن اللّحاق بهم. وأمسكت بيد أحدهم وسألته: إلى أين يا أصدقائي؟ ، من أنتم؟ ، من هذا الفارس الذي يتقدّم القوم؟ . وفجأة عمّ السّكون أطراف المكان، والتفت إليّ أحدهم وقال لي: نحن فاتحو القدس، وهذا القائد الذي يتقدّمنا هو صلاح الدين الأيوبي . وفي تلك اللّحظات شعرت بأنّ هذا القائد يلتفت إليّ، فتحتويني نظرات عينه، وخُيّل إليّ أني أعرفه من خلال عينيه، وفي هذه المرّة أمسكني أحدهم من ذراعي قائلا: انظر طوران (كاتب التقرير)، هنا صلّى صلاح الدّين الأيوبي! الجامع الذي أنشئ هنا سمّي باسمه كذلك . نعم، هذه الرؤى التي غرقت فيها أثناء طريقي في رفح وخان يونس ودير البلح استيقظت منها عند مدخل مدينة غزّة. أكبر أزمة إنسانية في العالم عندما كنت أتجوّّل في أزقّة غزّة كنت أحسّ كأنّما أنا في إحدى محافضات الأناضول، أشعر أنني لست غريباً في هذه الأماكن. الشوارع هي نفسها والناس هم أنفسهم، والثقافة هي نفسها، وباختصار كانت الرّوح هي نفسها، غير أنّ ما رأيته هنا وما عايشته يفتت القلب ويعتصره اعتصارًا. إنّ الحصار المطبق على قطاع غزّة منذ عامين أفقر 80 في المائة من السكان. أصبح الفقر شبيهاً بما هو موجود في أفقر دول العالم مثل موزنبيق وراوندا. بسبب الحصار؛ بقي مائة وأربعون ألف شخص بلا عمل، وتمّ إغلاق ثلاثة آلاف وتسع مائة ما بين مصنع وورشة. ويكسب أهالي غزّة قوتهم بصفة عامّة من صيد السّمك ومن الفلاحة. غير أنّ صيّادي السمك في غزّة لا يُبحرون عميقاً وسط البحر لأنهم يخشون أن يصبحوا عرضة لهجمات السفن الحربية الإسرائيلية الموجودة على مسافة كيلومترين ونصف من سواحل غزة. ولهذا السبب تعرّض عدد كبير من الصّيادين لخسائر فادحة، وتأثّرت معيشتهم تأثّرا جسيمًا. لقد تأثّرت حياة أكثر من خمسة آلاف من صيّادي الأسماك بسبب هذا الوضع، ولم يبق لهم حلّ سوى الصيد على ضفاف الساحل. يملك أهالي غزة بساتين تحتوي شجر البرتقال واللّيمون والفراولة، ويقول أهالي غزّة إنهم خسروا خلال عامين من الحصار ملايين الدولارات، ويقول الفلسطينيون أيضاً إنّ الكيان الصهيوني عدوّ الخضرة، فقد عمد إلى تجريف آلاف الدّونمات من حقول البرتقال والليمون في قطاع غزّة بواسطة الجرّافات والدبابات ودمّرها تدميراً كاملاً، والأكثر إيلاماً أنّ مئات الأشخاص فقدوا حياتهم نتيجة لهذا الإجراء غير الإنساني. يعيش في قطاع غزة أكبر عدد من اللاجئين في العالم، ويبلغ عددهم مليون ونصف المليون نسمة. ويعيش أكثر من 80 في المائة من هؤلاء السكان على المساعدات التي تقدمها لهم وكالة مساعدات اللاّجئين الفلسطينيين التابعة للأمم المتحدة (الأونروا). غير أنّ أهالي غزّة الذين حُكم عليهم بالجوع والمرض يتعرّضون اليوم على مرأى من العالم كله ومسمع لإبادة جماعيّة. فالغذاء والدواء لا يُسمَح بدخوله إلى المنطقة، فمتى يقول العالم كفى لهذه الأزمة الإنسانية التي تُعتبر أكبر أزمة إنسانية في التّاريخ المعاصر. في كل بيت حكاية أثناء زيارتنا لغزّة أعاد التّاريخ نفسه مرّة أخرى، تاريخ المعاناة الإنسانية. كنّا نقرأ الصحف ونشهد بأنفسنا على هذه الأحداث. زرنا منزل محمد الدرّة وهو من أوائل الشهداء الذين سقطوا أثناء الانتفاضة الثانية، ذلك الطفل ذو الثانية عشر من العمر والذي كانت تطلق عليه طلقات الرصاص بجانب والده أمام شاشات الكاميرا في عام 2000. تلك المشاهد التي تقشعرّ لها الأبدان والتي نشرتها الصحف وبثتها قنوات التلفزيون لعدّة أيّام. ذلك الطفل الذي صعدت روحه إلى بارئها وهو في حضن والده، أصبح اليوم رمزاً لتلك الانتفاضة. حسناً؛ وهل منكم من يتذكر البنت هدى غالية؟ تلك البنت التي فقدت جميع أفراد أسرتها بينما كانوا يتجوّلون في رمال سواحل غزّة. تلك البنت التي أبكت العالم كلّه. انطلقت قذيفة من إحدى السفن الحربيّة الإسرائلية فقتلت تسعة أشخاص من عائلة هدى غالية، لكنّ آثار الهجوم لم تغب عن بيت هدى. فأختها آية مازالت طريحة الفراش، وأخوها أدهم معاق، وأختاها الأخريتان لطيفة وهادية لا تزالان تحملان في جسميهما ورأسيهما شظايا قنبلة صاروخية. وتتولى هيئة الإغاثة والمساعدات الإنسانية تقديم المساعدات لأسرة هدى. وباختصار؛ كل بيت نزوره في غزّة نجد فيه قصة من القصص الغريبة. ومن بين هذه القصص قصّة النّائب مريم فرحات. هذه المرأة تبلغ من العمر ستين عاماً، يطلق عليها الفلسطنيون اسم أم نضال، أم الانتفاضة . هذه المرأة فقدت ثلاثة من أبنائها شهداء، ولكنك لا تلاحظ عليها أيّة علامة يأس، بل بالعكس تنشر الأمل من حولها. تبدأ كلامها قائلة أنا أم لجميع الشهداء، لقد زالت جميع الحدود من العالم، فكلّنا أمة واحدة. هذا وطنكم فيه أحفاد محمد الفاتح وأحفاد السلطان عبد الحميد خان انتصروا مرّة أخرى لهذه الأرض. نحن نحبّ تركيا من أعماق قلوبنا. ربّما نكون قلّة بعددنا ولكننا بكم أنتم نصبح أكثر قوة . أم نضال تدعو جميع النساء والرجال في العالم إلى الوقوف ضد الحصار، وهي تبلغ سلامها إلى جميع النّساء في تركيا. بين يدي الشيخ ياسين بالرغم من أنّ جسمه كان مشلولاً؛ فقد كان الشيخ أحمد ياسين مثار خوف لقيادة الاحتلال التي أردته شهيداً في عام 2004. نحن الآن عند ضريح الشيخ ياسين. وبالقرب منه يوجد قبر أسد فلسطين الرّنتيسي الذي سقط شهيداً بعد ثلاثة أسابيع من استشهاد الشيخ أحمد ياسين. استشهد الشيخ ياسين بواسطة صاروخ إسرائيلي بينما كان عائدا من صلاة الفجر على كرسيه المتحرّك. ومهما سطّر التاريخ عن هذا البطل فهو قليل. فالبرّغم من إعاقته بيّن لجميع الأمة الإسلامية كيف ينبغي لهم أن يعيشوا. وفي الليلة الثالثة من جولتنا ذهبنا إلى المسجد الذي كان يصلي فيه الشيخ أحمد ياسين الصلوات الخمس بالرغم من إعاقته. صلّينا صلاة العشاء، وبعد أن خرجنا أطلعنا من كان معنا من الفلسطينيين على المكان الذي استُشهد فيه الشيخ أحمد ياسين، ثم توجّهنا إلى منزل ذلك الشهيد العظيم. بيت متواضع في المنطقة التي يسكن فيها اللاجئون الفلسطنيون. دخلنا إلى المنزل، وقد تحوّل الآن إلى متحف فوجدنا فيه الكرسي المتحرك والملابس التي لبسها لحظة استشهاده. لم نتمالك أعيننا، فسالت دموعنا؛ كيف يتعرّض إنسان معاق لهذا النوع من الاعتداء. أصيب الشيخ أحمد ياسين بصاروخين أحدهما في رأسه والآخر في بطنه. دخلت إلى الغرفة التي كان يقيم فيها الشيخ، رفعت يدي فلامست سقفها. الشعب الشجاع لم يضيّع آماله إنّ إضافة معنى لحياتنا والعيش من أجل هدف محدّد وإيجاد معنى لوجودنا حاجة إنسانية ملحة. بيد أنّ الإنسان ينسى أحياناً هذا الموضوع. ألم تُشتقّ كلمة الإنسان من معجم النسيان؟ غير أنه في بعض الأحيان تصادفنا بعض الأحداث تذكّرنا بهذه الغاية الوجودية. وها هي فلسطين دليل على ذلك، فكل شيء يعطي للإنسان معنى، فالشّعب الفلسطيني وقيادته يعون جيّداً ما يفعلون. مازال حماسهم متّقداً كما هو الأمر في بدايته. فلم يُرعبهم الاحتلال ولا حتى التعذيب والمجازر التي يتعرّضون إليها. وتستمرّ حياتهم في ظلّ المقاومة وكأن شيئا لم يحدث. ورغم أنّ الأساتذة الجامعيين وعمّال البلدية والموظفّين لم يتحصّلوا على رواتبهم منذ سنة؛ إلاّ أنهم يواصلون عملهم بصبر. فحسب رأي البعض؛ إنّ هذه الأزمات والصعوبات ستفلّ من عزيمة الفلسطينيين وقطع صلتهم بحركة حماس ، بيد أنّ العكس هو الذي حصل والتحموا بها أكثر، وتذكّروا أنّ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أيضاً استهدفه الحصار. وهم يعتقدون أنه بعد الحصار سوف تشرق أيام النصر. وهم يقولون إنّ الحصار هو آخر ورقة في يد المحتلين. ورغم هذه الظّروف القاسية؛ فإنّ الفلسطينيين يواصلون القراءة، فالتعليم التربوي مستمرّ بشكل مكثّف. والأغلبية العظمى للفلسطينيين تعرف القراءة والكتابة، وإذا ما سألتم أحداً عن مهنته فإنه إما يكون طبيباً أو مهندساً. وتحظى المدارس القرآنية بأهمية خاصة في فلسطين. وفي زيارة إلى إحدى المدارس القرآنية علمنا أنه خلال شهرين تخرج مائة حافظ للقرآن الكريم. وقال مدير المدرسة نحن نهدف من الآن فصاعداً إلى تخريج حفظة للقرآن الكريم كل شهر . وشرح المسؤول برامجهم في المدرسة بشكل مفصل. بالإضافة إلى ذلك؛ توجد كتب مكتوبة بخط برايل (للمكفوفين) في مكتبات الجامعات لفاقدي البصر. ومن أهم ما يوجد في هذه المكتبات القرآن الكريم الذي كُتب بدوره بخط برايل. كما توجد أجهزة حاسوب لفاقدي البصر. كذلك لم يتخلّ المواطنون الفلسطينيون عن أماكنهم وما يزالون يواصلون المقاومة. ويقول أحد الفلسطينيين إنّ له بستاناً من الفراولة على الحدود اليهودية، ورغم تعرّضه للتدمير عديد المرّات فإنّه يواصل زرعها من جديد بالفراولة نفسها. هنا خطر ببالي كلام للمفكر الأمريكي المشهور هنري دفيد طورو: إنّ الإنسان لا ينتهي عندما يهزم، ولكنه يُهزَم عندما يتوقف حيث هزم . نعم؛ فالفلسطينيون قد يكونون هُزموا ولكنهم لم يستسلموا. فأذهانهم مازالت تتذكّر الحماس مثل عهده الأوّل، فلم يستطع قرن من الاحتلال ولا المجازر وسياسات التدمير ولا الحصار أن تثني الفلسطينيين عن قضيّتهم. وما دام الأمل موجودًا على هذه الأرض فإنّ أحداً بإذن الله لا يستطيع هزيمة الفلسطينيين. في الحقيقة؛ تكمن المشكلة الحقيقية هنا في كيفية نظرة مسلمي العالم للقضية الفلسطينية، فأذهاننا أصبحت تحت السيطرة الغربية، بحيث أصبحت عاجزة عن فهم حجم المعاناة التي يعيشها الفلسطيينون. لقد أصبحنا عاجزين في هذا العالم الكاذب بعلومه وإعلامه ومنطقه العقلي. نعدّ قتلانا كل يوم بالعشرات من النّساء والأطفال والشيوخ، ونكتفي بالعدّ والإحصاء، وهذا دليل على ضعف الإيمان. ومن الضّروري قبل كل شيء التخلّص من الاغتراب الفكري والعودة بسرعة إلى الإيمان الحقيقي. مع هنية والزهار كنّا قد زرنا في آخر يوم لنا في غزة وزير الخارجية الفلسطينية الدكتور محمود الزهار. فقبل زيارتنا له ببعض الأيام كان بيت الدكتور الزهار يعج بالزائرين، يعزونه في ابنه الثاني الذي استشهد. وكان الزهار يقف بين الضيوف ويستقبلنا في الباب، وبعد أن عزّيناه متمنّين له الصبر والسلوان جلسنا بين الزائرين. وقد تأثرنا بالجانب المعنوي الموجود في البيت. ورغم ألم الزهار العميق فقد كان يقول بشكل واضح بعد أن تحدّث عن التطوّرات التي يعيشها الإسلام من آسيا إلى المغرب: بإذن الله، وفي القريب العاجل سنشهد طلوع الحضارة الإسلامية من جديد وسنشهد أيضاً غروب الحضارة الغربية . وتقابلنا مع رئيس الوزراء الفلسطيني إسماعيل هنية في آخر ليلة من زيارتنا. وكانت هذه مفاجأة بالنسبة إلينا، وكان حديثه ووقفته يعكسان لنا أنه قائد شعب عطوف جداً. وقد استقبلنا قائلاً مرحبا بأصدقائنا من الآستانة . وقد كان شأنه شأن بقية الفلسطينيين يبعث الأمل في من حوله. وقال إنهم سوف يواصلون مسيرتهم، ولن يستسلموا أبداً، كما أضاف أنهم سيتجاوزون هذا الحصار كما تجاوزوا كل المصاعب. ثم أضاف أنّ هذا الحصار كان فاشلاً عندما تم تدمير الجدران التي تفصل غزة مع رفح المصرية. كما عبّر عن شكره لما يقدّمه الشعب التركي من مساعدة لغزة. وقال في النهاية: أرفع سلامي من الأعماق باسم شعبي وحكومتي وباسمي الشخصي إلى الشعب التركي من أراضي غزّة، ومن ديار فلسطين المباركة ومن القدس الشريف . عدنا إلى تركيا ولكن قلوبنا بقيت معلّقة هناك.

انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.