أسوأ ما في الأمر أن يصبح تدمير حياة الفلسطينيين في غزة خبرا عاديا, وأن يعد استمرار الحصار حدثا مقبولا, وأن نقف متفرجين أمام كل ذلك. (1) يسألني فهد الرشود من الرياض: ما هو مستقبل أهلنا في غزة؟ وأتلقي رسالة من لجنة أهالي المرضي في غزة تتساءل عما إذا كان هناك حكم بالإعدام علي1200 مريض يحال بينهم وبين العلاج في الخارج. ويصبحون مخيرين بين الموت علي فراش المرض أو الموت برصاص حرس الحدود. يتزامن ذلك مع المظاهرة السلمية التي احتشد فيها الفلسطينيون أمام معبر رفح مطالبين بفتحه. كما يتزامن مع المذكرة التي قدمها رئيس وزراء لبنان الأسبق الدكتور سليم الحص باسم اللجنة العربية لفتح معبر رفح وفك الحصار, إلي السفير المصري في بيروت, والمظاهر التي قام بها بعض النشطاء المصريين أمام مقر وزارة الخارجية بالقاهرة, مطالبة بفتح المعبر ورفع الحصار. وأخيرا, الباخرتين اللتين حملتا بعضا من النشطاء الأوروبيين واتجهت إلي غزة لمحاولة كسر حصارها. وسط هذه الأجواء نشرت الصحف المصرية تصريحات للمتحدث باسم الخارجية المصرية تحدث فيها عن التزام القاهرة باتفاقية المعابر في عام2005. كما نشرت الصحف الإسرائيلية هاآرتس( في8/12) الخطوط الرئيسية لمشروع التسوية النهائية الذي قدمه أولمرت إلي الرئيس محمود عباس و بدد الأمل الذي علقه البعض علي إمكان التوصل إلي اتفاق مع الحكومة الإسرائيلية, حتي وإن كان اتفاق رف, يحسن المنظر دون أن يقدم أو يؤخر. هذه المؤشرات التقت علي أمرين, أولهما أنها استدعت موضوع فتح معبر رفح ليصبح أحد العناوين الرئيسية للأسبوع الماضي, وثانيهما أنها استبعدت, في ظل موازين القوة الحالية, إمكان التوصل إلي حل سلمي مع الإسرائيليين. وهو ما يدعونا إلي الكف عن المراهنة علي حسن نيات الآخرين( إن وجدت), ويطرح علينا السؤال الذي يهرب الكثيرون من الإجابة عنه وهو: ماذا علينا أن نفعل في هذه الحالة؟ (2) منذ أكثر من شهر يقف الناشط الفلسطيني الدكتور خليل النيس علي باب معبر رفح وقد اصطحب معه من اسكتلندا سيارة محملة بطن ونصف الطن من الأدوية والمساعدات الطبية, أراد توصيلها من خلال دول أوروبا إلي أن وصل إلي العريش في نهاية المطاف, لكن دخوله إلي القطاع, الذي يفترض ألا يستغرق عدة دقائق يجتاز خلالها معبر رفح, أصبح مشكلة لا حل لها, خلال شهر كامل علي الأقل. حالة الدكتور خليل ليست فريدة في بابها بطبيعة الحال, بعدما أصبح إغلاق معبر رفح الوحيد الذي يربط فلسطين بالعالم الخارجي هو الأصل, وهو الإغلاق ذاته الذي يسري علي المعابر الأربعة الأخري, التي تتحكم إسرائيل فيها, وتستخدمها في إحكام الحصار وخنق الفلسطينيين وإذلالهم. لم يعدم الغزاوية حيلة لتحدي الحصار, إذ إلي جانب ثورتهم ضد المعابر ومحاولتهم كسر القيود التي كبلت حياتهم, فإنهم لجأوا إلي حفر الانفاق لمحاولة تمرير بعض الأغذية والأدوية التي تسد الرمق وتخفف بعضا من الوجع. وفي تقرير نشرته الشرق الأوسط( في8/12) ذكرت أنهم حفروا نحو900 نفق عبر الحدود من رفح إلي غزة, لتوصيل بعض البضائع, إلا أن الإسرائيليين ومعهم الأمريكيون أصروا علي إغلاقها وتدميرها, بحجة أنها تستخدم في نقل السلاح إلي غزة, في حين أن الذين أقاموها وبدأوها كانوا مهربي المخدرات بالدرجة الأولي, وبعدهم دخل التجار علي الخط وتوسعوا في العملية, الأمر الذي رفع من أجور حفاري الأنفاق حتي وصل الأجر الشهري للواحد منهم إلي2500 دولار. وخلال العام الأخير احتلت عملية تدمير الأنفاق مكانة خاصة في مشروع الحصار, حتي قيل إن الأمريكيين ساعدوا علي توفير أجهزة متقدمة جدا للكشف عن الأنفاق وتتبع مسارها, كما أنهم وفروا للجهات المعنية أنواعا معينة من الغازات التي تطلق في النفق فتصيب مستخدميه بالاختناق. وإذا أضفنا إلي هذه الخلفية أن ثمة قرارا لوزراء الخارجية العرب بكسر الحصار في شهر سبتمبر2006, الذي أعقبه صدور قرار مماثل من جانب وزراء خارجية الدول الإسلامية في الشهر التالي مباشرة, وتذكرنا أن مثل هذه القرارات تبخرت فور صدورها, فسوف ندرك أن جهود إحكام الحصار والتضييق منه تواصلت وتقدمت, في حين أن جهود رفعه وفتح معبر رفح لم تتقدم خطوة واحدة إلي الأمام. وتلك خلاصة كاشفة, لأنها تشير بوضوح إلي أن القدرة العربية في هذه القضية في مستوي الصفر, الأمر الذي يستدعي السؤال التالي: إذا كانت هناك حدود القدرة العربية في قضيتهم المركزية, فما بالك بها فيما دون ذلك من قضايا؟! (3) لا مفر من الاعتراف بأن إسرائيل نجحت في فرض ترسانة من الاتفاقات التي كان هدفها الأساسي التحكم في قطاع غزة, وتحويله إلي سجن كبير تملك مفاتيحه, وإن استخدمت في ذلك واجهات أخري. وهذه الاتفاقات أربع, هي: اتفاقية المعابر الإسرائيلية ـ الفلسطينية الموقعة في15 نوفمبر2005, اتفاق إسرائيلي ـ أوروبي فلسطيني لمراقبة المعبر, الاتفاق المصري ـ الإسرائيلي الموقع في أول أغسطس عام2005 المعروف باسم اتفاق فيلادلفي, واتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل الموقعة في29 مارس1979. للباحث القانوني محمد سيف الدولة بحث مهم في هذا الموضوع تحدث فيه عن ضرورة تحدي البنية التحتية للحصار. وكيف أن خنق معبر رفح بوجه أخص أسهمت فيه أربعة اتفاقات وثلاثون دولة. وقد ذكر بأن معبر رفح يخضع من الناحية الشكلية للسلطات الفلسطينية والمصرية, وأن هناك معبرا آخر بين غزة ومصر يخضع لسلطات الاحتلال, هو معبر كرم أبو سالم( كيريم شالوم). من الناحية الشكلية أيضا فإن تنظيم الحركة بالمعبر تشترك فيه عدة أطراف هي إسرائيل والسلطة الفلسطينية والولايات المتحدة ومصر, والاتحاد الأوروبي بدوله السبع والعشرين. وهذه الأطراف هي الموقعة علي الاتفاقات الأربعة سابقة الذكر. لكن من الناحية العملية فإن التحكم في المعبر يتم من خلال عدد من أجهزة التصوير( الكاميرات) وأجهزة الفحص للأشخاص والسيارات التي فرضتها إسرائيل للمراقبة. وهذه الأجهزة تتحكم في فتح وإغلاق المعبر, لأن وجودها شرط أساسي لاستخدامه طبقا لنصوص تلك الاتفاقات. ولذلك فإن إسرائيل عندما تريد إغلاقه فإنها إما أن تمنع المراقبين الأوروبيين من الذهاب إلي عملهم, والذرائع لديها كثيرة, علي رأسها الحجج الأمنية. وإما أن تسطو علي الأجهزة وتأخذها إلي مواقعها بعيدا عن المعبر, الأمر الذي يؤدي إلي إغلاقه تلقائيا. ذلك أنه لا عبور دون مراقبين, ولا عبور دون أجهزة تصوير ومراقبة, وهذه هي خلاصة اللعبة التي تتم منذ أكثر من عامين. (4) الحجج التي أوردها المتحدث باسم الخارجية المصرية, السفير حسام زكي, لا تخلو من وجاهة لأول وهلة, لكن هناك أكثر من رد عليها. ذلك أن هذه الاتفاقات لا تتحرك في فراغ قانوني, بمعني أنها تظل محكومة بمرجعية القانون الدولي العام والقانون الدولي الإنساني. والكلام ليس من عندي, ولكنه رأي لا يختلف عليه فقهاء القانون, وقد أثبته مفصلا الدكتور صلاح عامر أستاذ القانون الدولي العام بجامعة القاهرة, الذي أعد مذكرة قانونية بطلب من الحكومة الفلسطينية حول النتائج المترتبة علي إغلاق إسرائيل المعابر. وفي هذه المذكرة تحدث بوضوح عن أن حق الاتصال بين الدول هو من الحقوق المعترف بها والمقررة قانونا, الأمر الذي لا يجيز لأي دولة أن تفرض حصارا يعزل أي دولة عن العالم المحيط بها, ويمنع وصول مقومات الحياة إليها. في رأيه أيضا أنه في حالة التعارض بين أي اتفاقات موقعة وبين القانون الدولي الإنساني فالأولوية للقانون الأخير, لأنه في غير حالة الحروب المعلنة فينبغي ألا يسمح بالتضحية بحياة البشر لأي سبب كان. تحدث الدكتور صلاح عامر أيضا عن أن اتفاقية المعابر التي يكثر الاستشهاد بها تحمل إسرائيل بالتزامات أخلت بها, منها مثلا النص علي أن تعمل المعابر بشكل متواصل, وأن تسمح إسرائيل بتصدير جميع المنتجات الزراعية بالقطاع, وأن تضمن انسياب حركة مرور الأشخاص والبضائع والمنتجات عبر المعابر التي تصل الأراضي الفلسطينية بمصر( معبر رفح) وبإسرائيل والأردن. منها أيضا النص علي تشغيل ميناء غزة مع تعهد إسرائيل بعدم التدخل في عمله. ولأن إسرائيل لم تف بشيء من تلك الالتزامات جريا علي عادتها في أن تأخذ ولا تعطي( تاريخها حافل في رفض الشرعية الدولية التي نتذرع بها, من رفض قرارات مجلس الأمن الداعية إلي بطلان إجراءات تهويد القدس إلي قرار محكمة العدل الدولية ببطلان بناء الجدار, وإخلالها بما تم الاتفاق عليه في أنابوليس لوقف الاستيطان). لذلك, فإن من حق السلطة الفلسطينية وحكومتها إما أن تنهي هذه الاتفاقات من جانب واحد وأن توقف العمل بها, استنادا إلي المادة(60) من اتفاقية فيينا بشأن قانون المعاهدات. كما أن لها الحق في أن تطالب إسرائيل بالتعويضات المالية عما لحق بالفلسطينيين من أضرار محققة من جراء مخالفاتها الجسيمة للاتفاقات المعقودة. النقطة الثانية التي أثارها المتحدث الرسمي, التي لا تخلو من وجاهة أيضا, هي أنه يتعذر فتح معبر رفح وتشغيله في غياب السلطة الفلسطينية الشرعية. لكن ذلك أيضا مردود عليه بأن ذلك العامل له أهمية, لكنه ينبغي ألا يكون سببا لاستمرار محاصرة القطاع ومنع وصول الاحتياجات الحياتية إليه, لأن الاعتبارات الإنسانية هنا ينبغي أن تسمو فوق أي اعتبار سياسي. من ناحية ثانية فإن في فلسطين شرعيتين وليس شرعية واحدة, ذلك أن السلطة القائمة في غزة لها شرعيتها المستمدة من فوزها في الانتخابات النيابية, كما أن السلطة الموجودة في رام الله لها شرعيتها المستمدة بدورها من الانتخابات الرئاسية. وفي حدود علمي فإن سلطة غزة قبلت بإدارة فلسطينية مشتركة بين الطرفين. وهو حل وسط يمكن القبول به بشكل مؤقت حتي يتم الوفاق بينهما. لقد استغربت قول المتحدث باسم الخارجية أن مصر تضغط علي إسرائيل لكي تزود القطاع باحتياجاته الإنسانية, لأننا الأولي بذلك, إن لم يكن لما تمثله مصر فعلي الأقل احتراما لقواعد القانون الدولي الإنساني. ثم ينبغي ألا ننسي أن صبر المحاصرين ليس بلا حدود, وأننا ينبغي أن نتوقي أسباب الانفجار قبل أن نضطر للتعامل معه بعد وقوعه.