لقد سقط الشهيد الطفل، بعد أن خرج في صباح ذلك اليوم المشئوم، يبحث عن أطفال آخرين في سنه ليقوم بلعبة " الدينيفري أو الراوليكا" أي لعية السجن والسجان أو لعبة "الدس" أي الاختفاء أو لعب أخرى تعرف بين أطفال الأحياء الشعبية في المنطقةذ . ببراءة الطفولة ، لم يكن محمد يعلم أن الموت يحوم في أزقة المدينة حاملا معه كل ما يمكنه من قبض الأرواح من مصفحات، و بنادق بأنواع مختلفة، هراوات لا ينجو منها عظم نزلت عليه ، ورجال شداد غلاظ يفعلون ما يأمرون... .يدير حركتهم العميد" الجرمون " القابع في قاعة من قاعات دار الشباب الوحيدة بالمدينة. لم تعرف أساطير الأولين حالة مثل هته، من دار تنتج الفكر والثقافة و تؤطر شباب الغد، تتحول إلى موقع لإقرار سفك الدماء . وقد تم احتلالها لكونها تقع في وسط المدينة و قريبة من الطرق التي تنسلل منها التضاهرات التي تقتحم شوارع الوسط. هذا ما يقال ولكن ربما تم احتلالها بخلفية اعتبار هذا الموقع، هو موقع لسلطة الثقافة والشباب التي شكلت عدوا للقائمين على أمر المدينة آنذاك وعلى رأسهم الباشا "الغازي الطاهر" وعميد الشرطة "الجرمون". لقد سقط الشهيد الطفل محمد بكاوي أو المدعو ولد "با كورا" وهو اسم لعائلة معروفة في المدينة، وذلك في اليوم الثاني للانتفاضة، وغير بعيد عن "الطحطاحا " المكان التاريخي للباعة المتجولين بائعي الخضر والفواكه والسمك.وبذلك أعلنت السلطة نقل المواجهة من حالتها السلمية إلى حالة سفك الدماء. لقد سقط أمام أعين الناس متظاهرين و مارة، وبخار الدم الساخن المتدفق من رأسه يبرز شراسة الزمن، يبرز حجم الموت الذي يملكه الحكام في البلد. فكل ما كان يقال من قبل أحد المتظاهرين لرفع معنويات الشباب بأن الرصاص أبيض وفارغ قد انتهى، و اتضح أنهم يستخدمون الرصاص الحي الذي يفجر الأجساد ويجعلها أشلاء متناثرة. ثم حملوه مرددين شعارات الانتفاضة ( يا شهيد ارتاح ارتاح **كلنا رمز الكفاح - سجنتوهم وقتلتوهم ** اولاد الشعب يخلفوهم). بل ازدادت التظاهرات حماسا، وكأنها بسقوط الشهيد أضافت سببا آخر لشرعيتها، ومبررا لنزوحها نحو رد الفعل الطبيعي العنيف ضد آلة الموت التي أوقفت دقات قلب الشهيد الطفل الذي لا يملك قوة لإسقاط عصفور. يا أمه، ماذا ينتظرك في هذه الساعة بالذات ؟ وما تفعلين ؟ هل كانت لك يوما فكرة عن قوة الموت الذي يحملها ممن يفترض أنهم يحمون كبدك من شر الزمان؟ ها هم الآن ينزعوا من لحمك هذا الأمل الذي لم ينهي بعد رؤية أولى لصورة عن معنى الحياة؟ كل الناس التي حضرت المشهد، عرفت كيف هي الموت، صورتها، وحشيتها، غدرها... لفوه بين ذراعهم وخطوا به الخطوات القليلة إلى أمه، حيث لم تبعد إلا مآة الأمتار عن مكان سقوط ابنها، وربما كانت تضن أن الشهيد يلعب مع صغار الحي مثله أمام المنزل. احتضنته بين ذراعيها، ضمته إلى صدرها، صرخت بما تملك من قوة، سمعتها أهالي الجيران من بعيد، ولم تكن إلا صرخة لفقدان الحبيب إلى الأبد... و أبوه لم يعد له شيء آخر يمنحه قوة الاستمرار في الحياة. و من الطبيعي أنه لم يعد يحتضن أي فكرة عن الموت غير التي مورست ضد كبده ضد طفله. ينحني الرأس تائها في البحث عن سبب لتفجير هذا الجسد النحيف، هذا الملك الذي ما زال لم يتمم بعد خروجه من أسنان الحليب، طفل لا يفوق العشرة سنوات من العمر. ربما كان سؤال طبيعة الموت بدون جواب، والآن يتحقق ويوشم أثرا في الكبد، ويجعل الرأس يوقف البحث عن صورة أخرى لطبيعة الموت وآثارها في الحياة. لم تعد صور الجثث الملقاة في شوارع فلسطين أو بيروت سنة 82- 83 تشكل سببا لسؤال معنى سقوطها. أصبح الخبر شائعا، خاصة وأن عائلة الشهيد معروفة في المدينة، و تأكد أن السلطة عازمة على تنفيذ أمر جاء فيه انه لا تمييز في الأهداف، شاب أو طفل أو امرأة أو كهل كلهم أوباش وكلهم يحتاجون إلى نفس مصير" ولد باكورا". ومع ذلك فلم تهدأ التظاهرات السلمية، بل ازدادت عنفا واحتجاجا واستمرت، تجوب أزقة الأحياء الشعبية وتتصادم مع العسكر في بوابات الدخول إلى وسط المدينة. المتظاهرين بالحجر الذي لا يسقط العصافير والعسكر بالرصاص الحي والهراوات الغليظة والتعذيب المنتظر في مخافر البوليس السرية والعلنية. توجه المواطنون، جيران وأقارب وغيرهم لتشيع جنازة الطفل، يترحمون على الشهيد، معلنين التضامن والتأثر مع عائلته. لكن موكب الجنازة محاطا بمن لم يأتوا لهذا الغرض، من قوات عسكرية وبوليس و عملاء يتجسسون على المشاركين في الجنازة. و أعينهم موجهة لكل شاب تبدوا فيه رائحة الانتماء إلى جيش الحجر. و الحذر بادي في عيون المشاركين في الجنازة، غير واثقين بما ستؤول إليه ألأوضاع.الشهيد أحمد يعقوبي كان اليعقوبي أحد المتأثرين بالحدث الجلل، لم يكن يعلم آنذاك أنه سيكون شهيدا ولكنه كان يعلم خطورة المشاركة في الجنازة. كان شغوفا لمعرفة ما يجري، لم يتواجد كثيرون من هم في مثل سنه، و حسب ما قال شقيقه محمد أنه كان يحمل نعليه في مرافق يديه استعداد للفرار من الموت إن بدت قريبة. تجمعت الناس حول جثة الشهيد المتوارية تحت التراب، وكل واحد منهم يحاول القيام بدوره في الدفن، يبحثون عن فرصة إلقاء حفنة من التراب على قبر الشهيد أو قطرات ماء لسقيه، يعبرون من خلالها عن تضامنهم وتأثرهم بفقدان طفل في سن لا تقوى يديه على شنق عصفور و بالأحرى إسقاط جهاز دولة. المقبرة محاطة بشاحنات قوات مسلحة بوليس سري وعلني، ترابط على محيط المقبرة الواقعة في حي سالم، وكأنها تتربص تحركات عدو في حجم ما تملكه من معدات عسكرية وبشرية. بعد دقائق معدودة من إنهاء عملية الدفن، وقراءة ما تيسر ترحما على الشهيد، صرخ أحد الحضور صراخا احتجاجيا. و هو يعرف في المدينة بأنه يصاب بفقدان التوازن العقلي أحيانا، و تعرفه كل دوائر الدولة من شوا ش ومقدمين و ضباط البوليس وعميد الشرطة إلى باشا المدينة. لم يتساءل حاملي الرصاص عن معنى تلك الصرخة ومن هو صاحبها، خاصة وهم يتواجدون خارج المقبرة، بحيث لا يمكنهم دخولها بالزي الذي يحملونه لكن يمكنهم إدخال الرصاص إليها، مادام الرصاص مرادف للموت. لم ينتظروا معرفة ما يجري حول قبر الشهيد، كل ما فهموه، هو أن الأمر الذين جاءوا من أجله حان وقت تنفيذه،، فلم يتأخروا ولو لثواني معدودة ، وضعوا الاصلع على الزنا ،صبوا الرصاص بشكل عشوائي وسط حشد الجنازة . كهول وشباب وأطفال يهرولون، يفرون من كل الجهاة، يبحثون عن السلامة بأجسادهم حتى لا يواريها التراب كما وارى جثة الشهيد. بدا و كأن الموت ترك أشغاله بداخل المقابر لينقض على المتضامنين والمتأثرين بالحدث الجلل. ويكون الشهيد الراقد تحت التراب، قد رأى كيف أن الموت الذي قبض روحه لم تكفيه جثة واحدة ، ومازال مستمر في قبض أرواح أخرى.. أطلقوا الرصاص في كل الاتجاهات، إلا في الهواء فكانت الأهداف مقصودة، والدليل على ذلك الإصابات العديدة في مختلف أنحاء الجسم. و يبدوا أن الرصاص كان يهوى اختراق أجساد الشباب، حيث لم يتم إصابة أي كهل. المصابون شباب يبدوا من سماتهم أنهم تجرءوا على المشاركة في تشييع جنازة الشهيد، وكأنهم يرون أن ذلك فريضة يجب أدائها في مختلف الأحوال. و هكذا لم تقف آلة الموت في حدود المقبرة، بل توجهت إلى الحي المجاور حي سالم، لتطارد هؤلاء الفارين من الموت. تقتحم المنازل، تشرد العائلات تفتش عن فريسة في كل أركان المنزل، لتملأ شاحناتها وتنقلهم إلى المخافر السرية والعلنية. وهناك يكون محترفي التعذيب قد وجدوا عملا يمكنهم من إرضاء أسيادهم وإشباع رغباتهم السادية. لكن جثة واحدة بقيت هامدة لا تقوى على الحركة، لم يكتب لها الحظ أن تنفلت من قبضة الموت.و بقيت راقدة أمام قبر الشهيد محمد بكاوي. دمائها الساخنة تدفئ المقابر وتسقي زهورها. إنها جثة الشهيد الشاب أحمد يعقوبي. كانت صلاة العصر قد مضت، وكان جثمان الشهيد ملقى على تراب المقبرة، و إلى جانبه جثث مصابة تئن في مواقع عديدة من المقبرة تنتظر أن تتمكن الموت من القبض على روحها لتلتحق بالشهيدين. سقطوا قرب الشهيد، شهداء أحياء، إصابات في الأقدام وفي البطن وفي الرأس وغيرها، وإن سلمت أجسادهم من قبضة الموت، فقد استمرت أوجاعهم وآلامهم من جراء تلك الإصابات تذكرهم بهذا اليوم الرهيب ، يوم 23 يناير 1984 تاريخ الرعب بمدينة أبركان... لقد طال الانتظار ولم يعد أحمد في وقته العادي، فبدأت الشكوك تحوم وسط العائلة و بالأخص الوالدة التي لم تكن معتادة على تأخر ابنها. فتفرق الأبناء في مختلف أنحاء المدينة للبحث عن أخيهم في مختلف الأماكن التي من المفترض أن يكون فيها، سئلوا كل أصدقائه ولا أحد يعلم مكانه. وبعد نفاذ الصبر توجهت أخته الكبرى شقية ووالده إلى مواقع المسؤولية في البلد، حيث كما صرح مجمد كان إخوته الكبار لا يستطيعون التوجه إلى تلك المواقع بحكم ما رأوه من رعب واعتقال يتعرض له كل شاب توجه إلى تلك المواقع ولو من أجل قضاء حاجيات إدارية لتك المواقع. لا أحد من المسئولين في السلطة، اعترف بمكان وجود أحمد و كذلك مسئولي مستشفى الدراق ومستوصفات المدينة. مضت خمسة أيام من البحث عن أحمد ليل نهار، ولم يوجد ولو خبر واحد يؤكد مكان وجوده، ، ذلك أن الغياب لهذه المدة ليس من خصال أحمد المليء بالحيوية ودفئ العلاقات الإنسانية مع عائلته و معارفه. أصبح الكل يرجح التواء الأصفاد حول يديه النحيفتين وفي أسوأ الأحوال مصاب برصاص الغدر، بحكم ما كانت تعرفه المدينة من رعب وإرهاب خلف مآت المعتقلين وعشرات الجرحى.إلى أن جاء يوم 28 يناير ليتم استدعاء أخته الكبرى إلى مركز الشرطة المحلية، ويطلب منها العميد الجرمون المسئول على تدهور الوضع الأمني بالمدينة منذ اعتلاءه عرش الكوميسارية. وبعد أن طلب منها بعض المعلومات الخاصة بالشهيد بملامحه وسنه وغيرها، تحقق بكون الجثة التي مازلت دمائها تطلي يديه هي فعلا جثة الشهيد أحمد اليعقوبي .جثة أخيها و أبلغها أنها راقدة في مستشفى الفارابي بوجدة. أنبأ الأخت بخبر النعي، ولم تعد في مخيلتها إلا صورة ذلك الشاب النحيف النشيط الممتلئ حيوية. تعالى صراخها بين جدران الكوميسارية، وسؤال واحد طال رأسها كيف يمكنها إخبار العائلة بخبر فقدان الحبيب، خاصة الوالد والوالدة الذين كانت الخمسة أيام التي مضت على غياب الشهيد تفقدهم النوم والراحة ولا شغل غير إيجاد الابن. كان خبر النعي صدمة لا تضمد جراحها بسهولة، عذاب الخمسة أيام لفدان الشهيد، جعلت الكل يحلم ولو بفرصة رؤية ملامح وجهه، بسماته الطفولية المشرقة حركاته المرحة الدؤوبة ...ولم يكن للأب إلا أن يتوجه إلى مركز الشرطة ليطلب من عميدها تسليمه جثة ابنه ليقوم بمراسيم تشييع الجنازة، وهو متأكد أن طلبه سيتحقق بدون مشاكل . لكنه فوجي بعجرفة الجرمون الذي رفض بالمطلق تسلميه الجثة، معتبرا أن ذلك ليس في صالح الأمن في المدينة ما دامت الأمور لم تهدأ بعد. كان الجرمون في تلك الفترة منشغلا بإدارة عملية الاعتقالات العشوائية للمواطنين والمشتبه بهم من من يدعيهم بالمشاغبين في قاموسه، ويتكلف شخصيا بتعذيبهم، ويشرف على إنجاز محاضرهم بل و التنسيق مع قضاة المحاكم والنيابة العامة من أجل تشديد عقوبات السجن والغرامة عليهم. ضن الجرمون أن مجرد رفضه تسليم الجثة لهذا المقاوم والد الشهيد، سيتوجه هذا الأخير منحني الرأس بدون طرح الموضوع للسؤال. إلا أنه فوجي بإصرار والد الشهيد من كونه لا يغادر المكان إلا بمنحه حقه في تشييع جنازة ابنه، صارخا بقوة اهتزت لها جدران مركز الشرطة. لم يكن الجرمون يعلم أن والد الشهيد له تجربة قديمة في المعانات مع نظام بعد الاستقلال، حيث قضى ثلاثة أشهرمن السجن في عهد الاستعمار وفي سنة 58 قضى سنة كاملة في السجن المدني بالقنيطرة. و كان لذلك أثار في وسط العائلة و بالأخص الزوجة أم الشهيد التي عانت كثيرا أثناء فترات اعتقال زوجها من خلال الترهيب اليومي ومداهمة المنزل وتفتيشه وترهيب الأبناء ليلا ونهارا. كان الشهيد يمتلأ أحلاما، حيوي في ممارسته وعلاقاته الاجتماعية. وسقط و عمره ثمانية عشر سنة (حيث ازداد الشهيد سنة 1966). و يشكل هذا العمر أهم لحظة في حياة الشباب، و هي لحظة بداية خوض معركة الحياة. انخرط الشهيد منذ صباه في العمل الجمعوي، بحكم وجوده في عائلة معروفة بتعاطيها للعمل الجمعوي من خلال الكشفية المغربية السلامية، التي عرفت في المدينة في السبعينات والثمانينات ببعدها التقدمي ونشاطها المكثف الجاد والهادف، مما جعله تأطيره المبكر يجعله منشغل بالبحث على اقتحام عالم آخر غير الذي وفرته أجهزة التضبيع والتضليل. يتجلى في نشاطه الدائم وتفوقه الدراسي حيث كان بتابع دراسته في الثالثة إعدادي في إحدى الإعداديات التاريخية بالمدينة وهي ابن رشد والتي عرفت بتاريخها الحيوي المناضل. وقد سمح بذلك بحضوره في الأنشطة الجمعوية التي كانت تقام بدار الشباب التي عرفت أوجا منذ 78 تجلى في تأسيس عشرات الجمعيات الثقافية والمسرحية، ووفود هائل لها وصل عدد الانخراط في إحداها وهي جمعية الاستمرار الثقافي مما يزيد عن 600 منخرط من مختلف الأجيال و المواقع الاجتماعية, وكذا جمعية نجوم الشرق التي استقطبت لها مثقفين عبر الوطن للقيام بمحاضرات وعروض تشغل المثقفين المغاربة ، ناهيك عن حضور الفعل القوي للتضامن مع الشعب الفلسطيني وكانت الكشفية جزء من هذا الفعل حيث استطاعت أن تنجز العديد من المسرحيات والفرق الموسيقية من الأطفال الذين كان لهم حضور بارز في اللقاءات الوطنية أو العربية. حظ الشهيد أن يتزامن عمره اقتحامه مرحلة الشباب بأحداث رعب و إرهاب عرفتها المدينة والمنطقة، حيث لم تمر سنة لم تشهد مقاومة التلاميذ للظروف المتدنية التي يتابعون فيها دراستهم من نقص تجهيزات وإصلاحات و استفزازات كانت آنذاك وكأنها ضمن مهمة الإدارة التي كانت تستقي الأوامر والتعليمات من وزارة الداخلية لا من وزارة التعليم وإلى جانبها عرفت ثانويتي أبي الخير والليمون أحداث خطيرة أودت إلى حملة اعتقالات في صفوف التلاميذ وانتهت في اعتداء النائب الإقليمي لوزارة التعليم على احد التلاميذ ويستمر لاحتجاج ليتم إغلاق المؤسس لمدة سبعة عشرة يوما. وفي نفس السنة كان الشهيد قد عرف ما تعرض له الطلبة بجامعة محمد الأول بوجدة إثر مجزرة تعرف بمجزرة 7ديسمبر قادها وأشرف عليها العامل البخاري نتج عنها تكسير عظام العديد من الطلبة والطالبات واضطرت الدولة أن ترسل أحمد عصمان لمعرفة ما يجري بالمنطقة بينما كانت التلفزة تكذب كل أخبار الصحافة التي أشارت إلى خطورة الوضع والذي أدى بأحد نواب المعرضة البرلمانية وهو عبد الواحد الراضي إلى طرح سؤال شفوي في البرلمان. ساهمت تلك الأحداث في تأهيل الشهيد للمشاركة في التضاهرة الضخمة التي أقيمت في المدينة احتجاجا على التزوير الذي عرفته صناديق الاقتراع لانتخابات لعشرة يونيو 1983 حيث تم سرقة صندوق لدائرة في حي المكتب حتى لا يتم حصول محمد فريد وهو عضو النقابة الوطنية للفلاحة على مقعد في المجلس البلدي المدينة ثم صندوق معروف أحمد الذي تم حرقه بوسائل عصرية ليتم إنجاح احد المعروفين بارتباطاته بجهاز الدولة . وحسب محمد شقيق الشهيد، أن الشهيد كان يتقدم الصفوف الأولى في المظاهرة، و كانت هذه المشاركة تعد أول انخراط له في الفعل السياسي المباشر واكتشاف عالمه. وعليه ، فليس غريبا أن يشارك الشهيد في المضاهرات الاحتجاجية وفي نفس الوقت التضامنية مع ما تعرضت لها مدن أخرى مراكش والشمال من طنجة و تطوان و الحسيمة و الناضور، والتي ووجهت بعنف شرس سيلقي بأعداد هائلة من المواطنين إلى المستشفى والبعض سيهرب بجرحه حيث كان الجرحى يخافون من تثبيت التهم لهم من خلال الإصابات ، وفعلا كانوا على حق حيث أدانت المحاكم كل من أصيب من سنة إلى ثلاث سنوات. عندما طلبت من محمد الحديث عن أخيه، كانت كلماته تنفلت بحسرة عن فقدان الشهيد، ولا يتحدث إلا عن العائلة وآثار الشهيد في نفسيتها وكأنه يبحث عن إخفاء ما تعرض له شخصيا من ضغط نفسي خطير مثله مثل إخوته الإحدى عشر، اضطره إلى مغادرة الدراسة بمستوى الثالثة ثانوي. وكانت كلماته لا تبتعد قليلا عن وصف حالة الوالد والوالدة إلى لتعود لتؤكد الصدمة القوية التي تعرضا لها بعد التوصل بخبر فقدان الشهيد إلى الأبد. و كان لتلك الصدمة أن تعجل بالتحاق الوالد بابنه الشهيد بعد مدة من مقاومة مرض السكر الذي ازداد خطورة بعد استشهاد الابن. أما الوالدة فقد جعلت منها آثار الصدمة أن تخضع لعملية جراحية بعد أكثر من شهر ونصف من سقوط الشهيد. أما الإخوة الإحدى عشر فقد اسود الحياة في أعينهم، انهارت كل أحلامهم في الحياة، وخضعوا لضغط نفسي خطير وكوابيس تتابعهم من خلال المراقبة المستمرة للعائلة ولم يفلح سوى عبد الرحيم في إتمام دراسته حيث نال إجازته في الحقوق أما عبد الرزاق فترك التعليم بمستوى باكالوريا ، أما محمد كما سبق الذكر لم يستطع الحصول عليها. لقد استمر العزاء لمدة سنة، رغم ما أثارته بيادق المخزن من تشويه سمعة العائلة و إرهابها بتشييع كون العائلة متمردة، والتي لم تفلح في تحقيق أهدافها، فالناس أصبحت تأتي من كل صوب وحدب لتعلن تأثرها، و أصبح منزل العائلة مراقبا لمدة طويلة، و من بين مظاهر الرعب والإرهاب ما تعرض له بن عمة الشهيد وصديقه منذ الطفولة يحياوي عبد الناصر والذي أصبح مطاردا من طرف البوليس وضل فارا منذ أن توصل بنبأ النعي وبعدها هاجر إلى هولندا ولم يعد لحد الساعة. لم تقف المأساة عند فقدان الحبيب، بل استمرت في الرفض المطلق لجلب جثته إلى المنزل لتلقى عليها آخر نظرة من قبل العائلة. وهكذا تم دفنه في إحدى مقابر بمدينة وجدة على بعد 60كلمتر من أبركان، وتمت الجنازة في موكب مكون من الأم والأب وعدد قليل من الأقارب ممن يتجاوزون الخمسين سنة، وعدد كبير من سيارات الأمن السري والعلني، وبعد الانتهاء من مراسيم الجنازة ، تابع البوليس مشيعيها من المقبرة إلى مخرج مدينة وجدة في اتجاه أبركان، أي واد إيسلي . بعد ذلك استمرت معانات العائلة في أشكال مختلفة، فالمراقبة المستمر لها، و للقادمين إليها من أجل العزاء. أضيفت لها عجرفة الباشا و الجرمون فبدل مواساة العائلة في فقدان ابنها قاموا باستدعاء والد الشهيد ليضيفاه معانات أخرى من خلال السب والشتم و الإهانة معتبرين إياه فاشل في تربية أبنائه، و كأنه لم تكفيهم مأساة فقدان الابن و آثارها على ما تبقى من العائلة، وذلك جعل من الوالد و الوالدة يعيشون حالة هلع دائمة تخوفا من أن يكون مصير ما تبقى من الأبناء هو مصير أخيهم أو من مصير المواطنين التي أصبحت السلطة تلقي بهم في السجون وحتى بدون تورطهم في أي حدث من الأحداث. و إذا كانت عائلة الشهيد أحمد يعقوبي حرصت على الحفاظ على فبره، من خلال الزيارات الدائمة له، فإن قبر الشهيد محمد بكاوي الذي دفن بمقبرة أبركان، كانت السلطة تمنع زيارته، وان الإرهاب الذي طال المدينة آنذاك جعل من والدته وحدها تعرف مكان قبر الشهيد لكن بعد أن وافتها المنية أصبح قبر الشهيد مجهول لا يعرف له أثر.