في التاسع من نيسان 2003، شاهد العالم كيف أن جنود المارينز الأميركيين، والمواطنين العراقيين، أسقطوا "التمثال المهيب" للرئيس المخلوع صدام حسين في ساحة الفردوس ببغداد. بعد ثلاث سنوات ونصف، بدت الديمقراطية الموعودة في العراق "نكتة قاسية"، فيما بدت الإدارة الأميركية في واشنطن التي أمرت بغزو العراق، جاهلة بشكل مطلق للكيفية التي تعالج بها هذه الفوضى.إنّ طريقة سقوط "الصنم" يقول عضو في مجلس الأمن القومي التابع للبيت الأبيض: "يعني أنّ كل ما حدث يختلف تماماً عن توقعات البيت الأبيض"!. وكان قبول بوش باستقالة وزير دفاعه "دونالد رامسفيلد" إشارة واضحة لتغيير المسار في العراق. لكن العديد من خبراء الأمن الوطني في الولاياتالمتحدة قالوا أن غونداليزا رايس، مستشارة بوش للأمن القومي في سنة غزو العراق، وكذلك أعضاء مجلس الأمن القومي، يشتركون في "تحمّل إثم" المشاكل التي شهدها العراق. ف"رايس لم تدرك بشكل جيد، وأعضاء المجلس لم يقيموا كما يجب، ما هي مصالح الولاياتالمتحدة، وما هي مصالح الأعداء". هذا ما قاله الجنرال المتقاعد "وليم أودم" الذي عمل مساعداً عسكرياً لزبغنيو بريجنسكي، ومستشاراً للأمن القومي زمن الرئيس جيمي كارتر، في نقده اللاذع للحرب، وأكد قوله: "عندما يُرتكب مثل ذلك الخطأ الكبير، فليس هناك أية طريقة لجعل الحرب تأتي بنتائج أحسن.. لقد انتهى كل شيء"!. وبدعمها المتحمس للغزو- أودم وآخرون يقولون - كانت رايس عاجزة عن لعب دور تقليدي كمستشار أمن قومي نزيه يمارس دور المنسق أو الوسيط بين أطراف الحكومة التي تعاني التعثر والظروف الصعبة. ولقد كان أمراً معقداً جداً، أنْ يهمل "رامسفيلد" مسؤولياته لما بعد الحرب، ويترك "رايس" تجرب إدارة جهود "بناء العراق" من مقرها في البيت الأبيض. "الذين تولوا مسؤوليات بناء العراق تلك، هم أعضاء مكتب سكرتير وزير الدفاع، الذي لم يبد شخصياً أي اهتمام في حل المشاكل، كما بدت على حقيقتها". هذا ما كشفه "فرانكلين ميللر" أحد المساعدين الرئيسين لرايس، والمسؤول عن جهود إعادة البناء في العراق... وأضاف قوله: "إنهم لم يجلبوا أية قضية على منضدة البحث، ولم يتجشموا عناء مهمة ما خارج مكاتبهم"!. وقال أعضاء قدامى في مجلس الأمن القومي: لقد وصلت معلومات متضاربة من قبل كل شخص كان له حضور في العراق، بضمنهم جنرالات الجيش الذين غالباً ما يزوّدون موظفي مجلس الأمن القومي بمعلومات تختلف عما كان يقوله الجنود على الأرض، ومسؤولو المستوى الأدنى من المدنيين والعسكريين. "إنّ التغطية الداخلية كانت كبيرة، حالها حال التغطية الخارجية" طبقاً لقول كبير أعضاء مجلس الأمن القومي، الذي أكد قوله: "لقد أهدرنا سنتين، في محاولة لتسريع الحال، مستخدمين الدخان والمرايا، لنوحي للآخرين أنّ الأمور ليس كما يقال عنها. وأن كل شيء OK، وعلى ما يرام"!!. ضرب الرؤوس لكن ذلك لم يكن كذلك، ف "ضرب الرؤوس" هي القصة التي رواها شخصية مخضرمة ذات إطلاع واسع بأقرب الروابط الداخلية بين الرئيس وكادره في البيت الأبيض، يقول هذا الخبير لصحيفة الواشنطن تايمز: إن رايس فشلت في أن تلملم جهود إدارتها لما بعد الحرب في العراق، وحتى وريثها "ستيفن هادلي" لم يعرف كيف يبحر في هذا "الخضم" أو يتعرّف على الطريق التي تخرج إدارة بوش من العراق. ونقلاً عن هادلي، فإن أحد كبار أعضاء مجلس الأمن القومي الأميركي، أصبح لعبة بيد وزراة الدفاع. وكان بوش قد كلف هادلي ورايس ومستشارين آخرين بمهمة وضع حل لمعضلة العراق، على الرغم من تكليف الكونغرس لمجموعة بيكر وزير الخارجية الأسبق بتحقيق هذا الهدف. إن مراجعة شاملة لدور مجلس الأمن القومي الأميركي في حرب العراق، ولنتائج مقابلات أجريت مع عدد كبير من أعضاء المجلس، وكبار المسؤولين الأميركيين في الخارجية والبنتاغون، ولتفاصيل كشفها خبراء الأمن الخارجي أثبتت فشل البيت الأبيض في إدارة جهود ما بعد الحرب في العراق بشكل فاعل. إنّ هذه المراجعةَ التي أجرتها وكالة أخبار أمريكية، مستندة إلى إعادة حساب تفصيلية ومشاوراتِ مع العديد من المقربين لمجلس الأمن القومي، وكذلك بالإطلاع على أشرطة التسجيل اليومي والأسبوعي لمؤتمرات الاتصال عن بعد، التي تدار من غرفة العمليات في البيت الأبيض. كشفت أيضا أن "رايس" و "هادلي" انحدرا ليكونا مسوؤلين عما جرى، أما "رامسفيلد" فقد أخفق حتى في الرد على طلب مقابلته. إن عدة كتب جديدة مهمة تناولت هذا الإخفاق الأميركي التام، ومنها كتابا "Fiasco المهزلة" لمراسل الواشنطن بوست "توماس ركس" و "State of Denial حالة النكران" لمؤلفة بوب وودورد، كشفا الكثير من العثرات في تخطيط إدارة بوش قبل الحرب، وتصرفاتها لما بعد عملية الغزو. لكن المؤرخين سَيُناقشونَ ولسَنَواتِ مثل هذه المغامرة التي أُلبستْ ثوب "الأهميةِ الفريدة" مِن قِبل مَنْ دافعوا عنها وتحملوا مهمة تنفيذها بما عرف عنهم من حماقة وقصر نظر. حتى الآن، أخفقَت إدارة بوش في أنْ تتم ولو هدفا واحدا من الأهداف التي أعلنت عنها سنة 2003 ،لإعادة بناء البنية التحتية في العراق، أو دفع كلفتها بزيادة الموارد النفطية، مثلما فشلت في فرض الديقراطية الدستورية، وتنظيم شؤون القضاء، واحترام القانون. الوسيط النزيهلمعرفة تكوين المشاكل في العراق، فإن معرفة القليل عن تاريخ "المنصب" الذي احتلته "رايس" في كانون الثاني 2001، يساعدنا في ذلك. استحدث الكونغرس هيئة "مجلس الأمن القومي الأميركي" سنة 1947 ليعمل كمنتدى ذي أهمية يساعد رئيس البيت الأبيض في اتخاذ قراراته الخاصة بالجيش والسياسة الخارجية. للمجلس أربعة أعضاء دائمين؛ الرئيس، نائب الرئيس، وزير الدفاع، ووزير الخارجية. أما تشكيلة سكرتيري مجلس الوزراء، والمساعدين الرئاسيين والعسكريين، فهم يحضرون اجتماعات المجلس. إن وصف وظيفة مستشار الأمن القومي، قد شُكلت بمرور الوقت، بموجب مرسوم رئاسي بدلاً من القانون، وبينما تختلف النظرة إلى "مجلس الأمن القومي" بشكل مختلف من إدارة إلى إدارة رئاسية في أميركا، كان في العموم يُنظر إليه على أنه "بديل أساسي للرئيس" غالباً ما تنتج قراراته كنتيجة للمنافسة النقاشية بين سكرتيرات مجلس الوزراء ذوات الحظوة في الاتصال بالرئيس نفسه. وعبارة (الوسيط النزيه) ثبتت بشكل روتيني في مواصفات المنصب، وكذلك ثبتت عبارة (ضرب الرؤوس كلها). ولذا بدت رايس، وهي تأخذ الموقع من البداية، عازمة على "ضرب الرؤوس"، طبقاً لقول "روبرت بيرتو" ضابط السلك الدبلوماسي المتقاعد، الذي خدمَ ضمن مجموعة موظفي مجلس الأمن القومي زمن الرئيس رونالد ريغن، وعمل في معهد السلام الأميركي. وقال عن رايس "إنها فقط تسهل الطريق للرئيس"!. وكل من هو قريب من كرسي الرئيس في البيت الأبيض، يلاحظ أنّ أيّ "فراغ سلطة" كان يُملأ من قبل رامسفيلد أو نائب الرئيس ديك تشيني، بشكل خاص بعد ضربات الحادي عشر من سبتمبر –أيلول، ولوقت طويل، وبوجود وزير الخارجية كولن باول، جرى تهميش هذا المجلس، إلى أن صار كما يصفه أحد أعضائه السابقين "كلباً يفعل ما يريده منه الآخرون"!. ويستخدم لخدمة بيرواقراطيي وزارة الدفاع، باعتبارهم ربحوا الحرب في أفغانستان، وأيضاً "لأنهم مدعومون من قبل ديك تشيني". وبشأن العراق، فإن محور تشيني- رامسفيلد، كان أكثر قوة من أي وقت مضى. هذان الصديقان القديمان كانا مقتنعين، أن الحاجة ملحة لإزالة صدام، وعلى العكس، كانت وجهات النظر الأخرى لا ترحب بمثل هذه الرؤية. وحتى في الاجتماعات الأكثر حميمية مع الرئيس في المكتب البيضوي، كان كل منهما مطمئناً للسرية- القول لعضو سابق في مجلس الأمن القومي- ولم يكن هناك إلا القليل من الصراحة، ووجهات النظر المتضاربة أو المتصادمة، حتى تلك الآراء التي كانت تتحدث بها رايس!. ويضيف هذا العضو الذي يكشف بعض أسرار المجلس لمحرري الواشنطن بوست قائلاً: "إن المناقشات داخل المجلس كانت تمرُّ دائماً بسلام وبشكل متفائل جدا جداً!، و تماماً بشكل متناقض مع المعلومات الواردة من أجهزة المخابرات والاستخبارات العسكرية، وفي معظم الأحيان المجلس يلعب دور الهتّاف". في ديسمبر-كانون الأول 2002، اتخذ الرئيس بوش قراراً حاسماً، لإعطاء وزارة الدفاع، بدلاً من "الدولة" مسؤولية إعادة البناء لما بعد الحرب في العراق. لقد دفع بوش رامسفيلد بشدة نحو هذه المسؤولية، هذا ما يؤكده "دوغلاس فيث"، وهو أحد كبار المساعدين في هيئة أركان وزارة الدفاع لشؤون صناعة قرار الحرب، الذي يقول: إن بوش عمل ذلك، لأنه لم يكن يريد رؤية تكرار المشاكل التي أثيرت في البلقان، حيث كانت إعادة البنية التحتية المدنية وعمليات الأمن تحت أمرة قيادة منفصلة عن بعضها. يقول "فيث": الناس كانوا مسؤولين عن إعادة البناء في البلقان، ونحن عموما لم نكن نخرج القوات العسكرية منها وإلا سينهار البلد، لهذا تحوّلت قواتنا إلى رهائن للعجز الذي كان حاصلاً في تقدم جهود إعادة بناء البنية التحتية. في كانون الثاني 2003، وقع الرئيس الأميركي بوش أمراً رئاسياً أمنياً وطنياً برقم" NSPD24" صاغه "فيث" الذي سبق ذكر موقعه الرسمي و"هادلي" نائب رايس. هذا الأمر أعطى سلطة إدارة العراق أمنياً لما بعد الحرب، وشؤون الاستقرار فيه، وقضايا إعادة البناء، للبنتاغون واستحدث مكتباً باسم "إعادة البناء والمساعدات الإنسانية"، وبموجب ذلك دعا "فيث" الجنرال المتقاعد صديق رامسفيلد "جي غارنر"، وطلب منه أن يكون رئيساً لمكتب "إعادة البناء والمساعدات الإنسانية ORHA" والبدء بإدارة خطة ما بعد الحرب في العراق. يقول "غارنر" أنه أخبر بأنه ربما لا يحتاج فعلياً الذهاب إلى بغداد، لأن الرئيس بوش أراد أنْ يسمّي مبعوثاً معترفاً به وطنياً. وأوضح "غارنر" ل "U.S. NEWS" أنه ذهب في عمل مؤقت، وهو من نمط الأعمال المعروفة في الإدارة الأميركية. ولهذا لم يكن أمامه إلا خمسة أسابيع كي ينسق خطط ما بعد الحرب مع مختلف وكالات الحكومة الأميركية، التي وصفها بأنها تعمل باتجاهات متناقضة، ولا تدري إحداها بما تفعله الأخرى. وفي شباط من السنة نفسها، كشفت كلية الحرب التابعة للجيش الأميركي عن دراسة أعدها "كونارد كرين" و "ودبليو أندرو تيرك" توضّح الحاجة المستعجلة لتخطيط جدّي بين الوكالات الأميركية، والالتزام متعدد السنوات في العراق، الخطة الحقيقية لبناء الدولة. يقول "كونارد كرين": أفهم أنّ هناك حقائق متنافسة في العراق، وأنّ ال CIA تمتلك الكثير من السيناريوهات "الوردية" التي لا علاقة لها بعملنا. لكن الناس في الجيش لابد أن يلتزموا بهذه الدراسة التي وضعناها بجدية. العديد من المخطِّطين أخذوا الأمر بجدية فعلاً. بدأ الهجوم على العراق في آذار- مارس 2003، ومع وصول فوج المشاة الثالث، أولى القوات الأميركية إلى بغداد، بعد فترة وجيزة على إسقاط تمثال صدام في ساحة الفردوس، وجدت القوات الأميركية نفسها في معارك مع المتمردين وبشكل يومي تقريباً. يقول "كوري سكيك" موظف سابق في "مجلس الأمن القومي الأميركي: كل منا كان معه عسكريون، وهؤلاء كانوا يؤكدون لنا قائلين: " الطريق الذي نحن ذاهبون فيه، هو غير الطريق الذي أخبرونا عنه". ويؤكد "كوري" الذي عمل من قبل في البنتاغون، ويدرس الآن في "النقطة الغربية West Point": "من أسفل الدرجات إلى أعلاها، كنا نسمع أشخاصاً يخبروننا بما سيحدث حين يكون العراق في أيدينا، ويتساءلون : " كيف ستحقق الخطة العسكرية، التي تؤكد على السرعة وعلى تنفيذ إستراتيجية طفر المدن السيطرة كاملة على العراق؟". وفي اجتماعات كانون الأول 2002 وكانون الثاني 2003، كشفت مصادر في مجلس الأمن القومي الأميركي، أن بوش سأل الجنرال "تومي فرانكس" قائد القيادة المركزية، الذي صاغ خطة غزو العراق، بشأن الكيفية التي ستدير بها الولاياتالمتحدة الأميركية الوضع الأمني في العراق بعد الحرب. أجابه فرانكس: "إن الجيش سيترك عمدة أو محافظاً في كل مدينة ليديرها"، أخبر فرانكس بوش بذلك مع أنه لا يعرف بالضبط ما الذي عناه في قوله!. البطة العرجاء! في الثامن عشر من نيسان- أبريل 2003، احتج مئات الألوف من المواطنين ضد احتلال أميركا لبغداد، وتظاهروا مطالبين بدولة إسلامية. وانتشرت أعمال النهب والسلب وعمليات حرق البنايات على نطاق واسع، ولهذا لم يسمح الجنرال "فرانكس" ل "جي غارنر" بدخول بغداد حتى الحادي والعشرين من نيسان. في ذلك الوقت، كانت المدينة قد عُرّيت تماماً. وفي 24 نيسان، أمضى "غارنر" يوماً كاملاً في بغداد. وبينما كان الجنرال المتقاعد جالساً لوحده في غرفة متربة داخل قصر من قصور صدام التي نهبت، رنّ الهاتف. كان "رامسفيلد" وزير الدفاع السابق على الهاتف، وأخبر "غارنر" بفظاظة أنّ "بول بريمر" قد سمّي مبعوثاً أميركياً إلى العراق. عندها تساءل غارنر قائلاً: "ما الذي يعنيه ذلك؟... أهو يومي الأول والأخير في بغداد؟ مع كامل فريق العمل، أكنت "البطة العرجاء" مطلع ذلك اليوم؟!". ولشهرين مقبلين كان على فريق "غارنر" المكون من 350 شخصاً، أن يشرع في تنشيط وزارات الحكومة، ويقوم بطباعة العملة النقدية الجديدة وإصدارها، و إصلاح شبكات الطاقة الكهربائية، و إعادة إمدادات المياه، و إصدار قوانين جديدة، إصلاح الطرق والجسور وترميمها، و إعادة الدوام في المدارس. وزارة الخارجية الأميركية رسمت خططاً متقنة ورائعة. اعترف "فيث" أحد كبار المساعدين في هيئة الأركان بوزارة الدفاع قائلاً: "لم تكن لدينا خطط محددة مدروسة للعمل بها لسنوات". وأضاف : "لم نكن نملك خططاً تنسجم مع الأوامر العسكرية. ولم نكن قد أكلمنا ممارسات الانتشار". يصرُّ "فيث" على أنّ جهود الولاياتالمتحدة لما بعد الحرب كانت دائما خاصة "ولغرض محدد بعينه". وليس كما يقول "فيث" لما سيحدث بعد أن ينتهي القتال. أحيانا كانت الأمور تسير بشكل حسن. ولكن بعض الأوقات تأتي النتائج سيئة للغاية!. في 28 نيسان كانت الفلوجة –المدينة الرئيسة للسنة، وإحدى أكثر المناطق سلمية في العراق- تحترق بعد أنْ وجهت القوات الأميركية نيرانها إلى حشد من المدنيين غير المسلحين، يتظاهرون ضد حظر التجوال وضد الغزو الأميركي للعراق؛ 16 عراقياً قتلوا. وفي 7 مايس، وبعد مرور أسبوع واحد على إعلان بوش "إكمال المهمة" من على حاملة الطائرات لنكولن، قام مسؤولون عسكريون مرموقون بتزويد دونالد رامسفيلد وزير الدفاع السابق بتقييم "مبشِّر" عن الحالة في العراق، وفي ضوء ذلك راح رامسفيلد يرسم الخطط لمستوى عمل قواته بحلول سبتمبر-أيلوك 2003، طبقاً لما ذكره تقرير مركز دراسات الحرب البحرية. وكان تقرير من الجهة نفسها يذكر "في شهر حزيران" أن وسط العراق يعيش تمرّداً غير مركزي وواطئ المستوى!. في الثاني عشر من مايس حكم "بول بريمر" كمشرف عام على العراق، أما كادر فريق "جي غارنر" فقد فككوا وذابوا في فريق سلطة التحالف الذي يقوده بريمر. وواجه قرار بريمر – منتصف مايس- بطرد كبار المنتمين الى حزب البعث في زمن صدام وطرد 30 ألفاً من البعثيين من مختلف الوزارات، نقداً واسع النطاق، واعتبر أسوأ قرار اتخذ في فترة ما بعد الحرب. لكن القضاء على واقع "التبعيث أو البعثثة" في رأي بريمر كان قراراً صحيحاً. يقول بريمر معترفا في إحدى المقابلات: "الخطأ الذي ارتكبته، أننا وضعنا تنفيذ مهمة "اجتثاث البعث" في أيدي الهيئة المدنية المحلية الحاكمة "مجلس الحكم" بدلاً من "الهيئة القضائية"، التي كان من الممكن أن تكون عادلة وموضوعية في قراراتها. فعندما وصل الذين تولوا المهمة إلى السياسيين، طبقوا التعليمات بشكل أوسع مما نوينا، وكان ذلك خطأ فادحاً". وفي 23 مايس، حلَّ بريمر الجيش العراقي المكون مما يقرب من نصف مليون عراقي، وفكك المخابرات العراقية، تاركاً هذا العدد الهائل من الناس وعوائلهم غاضبين وعاطلين عن العمل، ولهذا خرجوا إلى الشارع بأسلحتهم. وكان "بريمر" قد أخبر وكالات الأنباء والصحف الأميركية، أنه لو كان قد أعاد تنصيب جيش صدام، الذي كان الأداة الرئيسة في قمع العراقيين، لكان قد دفع البلد إلى حرب أهلية في الحال. لكن مسؤولين كباراً في الجيش الأمريكي ومنهم الجنرال "بيتر بيس" الذي أصبح فيما بعد رئيس هيئة الأركان، كشف لاحقاً أن أعضاء هيئة الأركان لم يُخبروا بقرار" بريمر" وأنّ "رايس" والمسؤولين في مجلس الأمن القومي هم أيضا لم يُبلغوا بشيء. وبسبب العنف المتصاعد في العراق، وتزايد عدد القتلى الأميركيين، أمر بوش "رايس" بأن تصبح أكثر تدخلاً في جهود ما بعد الحرب. وكان مسؤولاً مطلعاً على خفايا البيت الأبيض قد غادر منصبه في وقت مبكر- قبل خمسة عشر شهراً- قد سئل مرات عديدة للعودة الى منصبه الذي ظل فارغاً، ويكشف هذا الحال أن الكثير من سوء التقدير أصبح أمراً ظاهراً بشأن قضايا العراق. وعلق عضو سابق في مجلس الأمن القومي على ذلك بقوله: المهم أنّ "غوندي" وهو الاسم الذي تُدلّع به رايس، أضحت مسؤولة بشكل أكبر عن إدارة العمليات في العراق. وفي 18 حزيران- يقول موظف سابق في مجلس الأمن القومي الأميركي- التقت "رايس" بالعاملين في المجلس، لتعبّر لهم عن مخاوفها من أن يجلب قرار الرئيس الأميركي بحل الجيش العراقي عواقب وخيمة. وسألت موظفيها: "أكانت القوات الأميركية كافية في العراق لمعالجة العنف المتصاعد؟! وعلقت على سؤالها بالقول: "إننا كما لو كنا لا نمر بفترة استقرار. كما لو كنا نعيش فترة العمليات القتالية. كما لو كنا نحاول فرض ما نحن نرغب به لا ما يجب أن يكون". أخبرت رايس "ميلير" كبير المديرين في مجلسها القومي، والمسؤول عن سياسية الدفاع والسيطرة العسكرية، أنها تريد منه أن يستأنف عمل مجموعة التسيير التنفيذية، وهي مجموعة وكالات كان "ميلير" يشرف عليها في صيف سنة 2002، في وقت كانت فيه خطط الحرب قد بدأت فعلاً في التداول لدى البيت الأبيض والبنتاغون ومجلس الأمن القومي. يومها طلبت رايس من ميلير قائلة: "أخرج لنا ما يجب أن نعمله، واحسب لنا كم من الوقت نحتاج لتنفيذ ذلك، وكم ستكلفنا". هذا ما باح به أحد أعضاء مجلس الأمن القومي. وقال: كان "ميلير" يندفع -كل صباح في الساعة السادسة والنصف تماماً- في مكتبه في بناية المكتب التنفيذي القديم بجانب البيت الأبيض، فيخلع سترته، ثم يشمّر كمّي قميصه، ويلتقط سماعة الهاتف، ويبدأ اتصالاته وأسئلته: كم تنتج شبكات الكهرباء في العراق ليلاً؟ ماذا بشأن الماء؟ كم عدد الأشخاص العراقيين الذين ماتوا أمس؟ وهكذا دواليك من الأسئلة التي تتعلق بالشأن العراقي الداخلي. وفي مقابلة شبكة أخبار أميركا "U.S News" أعلن "ميلير" أنّ موظفي مجلس الأمن القومي منشغلون تلك الأيام بجهود ما بعد الحرب في العراق، لكنه تواضع في تبيان دروه، ونسب كل شيء إلى منتسبيه. واشتكى بعض العاملين في البيت الأبيض من تصغير دورهم. لكن رايس أوضحت لهم أنها فقط تريد العمل. يقول ميلير: "الدكتورة رايس دعت إلى التئام كادرها المتقدم في اجتماع خاص، بسبب وجود أشياء لم يكن العمل بها مناسباً". ولهذا –القول لميلير- صرنا نعمل بطريقة جنونية، كأننا نعيش وسط النيران، ذلك ما لم يفعله غيرنا. وفي 20 حزيران – طبقاً لمصادر في مجلس الأمن القومي- قال عقيد الجيش "أنتوني هيريمن" النائب المساعد لمدير وزارة الدفاع لشؤون العلميات المشتركة لموظفي مجلس الأمن القومي إن أعضاء هيئة الأركان يعتقدون أن مستوى قوات القتال في العراق كانت كافية، وأنّ الخطط تقتضي أن تُكلف الشرطة العسكرية وأفواج المدفعية بمهمام المشاة. ما أدركه الموظفون ساعتها أن هناك أشياء ليست كما يجب أنْ تكون. وقال أحد أعضاء المجلس: "إنهم كانوا يعتقدون أننا نستطيع أن نأخذ الناس المدربين على أمور معينة للقيام بأعمال مختلفة، كأنْ نحوّل جنود المدفعية والشرطة العسكرية إلى مشاة. هل سيستطيعون مواجهة الحال في عراق ما بعد الحرب؟ بالتأكيد لا ". وبينما كان بعض العاملين في هيئة الأركان بوزارة الدفاع يتحدثون عن التدنّي في مستوى القوات، جاءت معلومات إلى "ميلير" والى موظفي مجلس الأمن القومي، تشير إلى أنّ أشياء بدأت تحدث في العراق وتخرج عن السيطرة. ويقول موظف في المجلس: "في حالات كثيرة، كنا نُبلّغ بما يقوله الجنرالات، و"اعتقدنا" أننا كنا نزود كوندي – أي رايس- بالمعايير الصحيحة، لكنّ ما حدث، هو أنّ الجنرالات أنفسهم كانوا يضخمون الحقائق كثيراً". عمليات مراقبة سلامة العقل! وإذا كان ثمة شخص يحصل فعلاً على معلومات يصعب الحصول عليها في مجلس الأمن القومي، فهو بالتأكيد "ميلير" الذي أمضى 31 سنة في الوظائف الحكومية، وبضمنها سنتان في وزارة الخارجية و22 سنة عمل في جوقات السكرتارية بوزارة الدفاع. "ميلير" طبقاً لما يعرفه عنه زملاؤه، حصل ولخمسة مرات على وسام وزراة الدفاع العالي – النوع المدني، وأيضا ميدالية الخدمة البارزة في المؤسسات الحكومية. كان لفريق العراق التابع ل "ميلير" اتصالات مميزة بالبنتاغون، مما جعل موظفي مجلس الأمن القومي يقومون ب "غزوات سرية" في "الإنترنيت الآمن" للجيش، الذي يسمّى "SIPPRNET" للحصول على إصابات العسركيين وهجمات المتمردين، ولهذا أخذوا ينجزون جداول خاصة بهم عن كل هذه المعلومات. وأيضاً نبشوا المصادر في قيادة "فرانكس" المركزية، واستغلوا المصادر المتعاطفة في "Bremer's CPA" أو الزملاء السابقين في البنتاغون، لتركهم ينظرون في شاشات الحواسيب، والإطلاع على معلومات جديدة كانت تجيء من العراق، ودعوا سفارات صديقة لما يسمى "عمليات مراقبة سلامة العقل". وكان مصدر موثوق واحد، هو نائب وزير الدفاع "ريتشارد آرميتاج" قد شارك موظفي مجلس الأمن القومي قلقهم. وآرميتاج الذي يعدّ مسؤولاً مخضرماً في وزارة الدفاع، وخدم في ثلاث جولات قتال في فييتنام، استعمل مجساته على كل مستويات الجيش، والإعلام للحصول على معلومات صحيحة، وكان يُطلع موظفي مجلس الأمن القومي على كل ذلك. وتكشف مصادر في مجلس الأمن القومي أن معظم العاملين في مكتب نائب الرئيس "ديك تشيني" كانوا متحالفين مع المجلس، ومع أنّ "ديك" لم يعمل شيئا يذكر في التحضير لجهود ما بعد الحرب، فإنه مارس دوراً كبيراً في التحضير لعملية الغزو. ونقلاً عن اثنين من موظفي ديك تشيني، فإنّ الأخير كان على علم بأنّ كادر مجلس الأمن القومي كان يوصل المعلومات العسكرية الدقيقة المتسربة عن الدفاع وعن مكتب "تشيني" إلى رايس، كانت معلومات الأعداد دقيقة، لكن ما يخص "الاتجاهات" كان غامضاً وغير دقيق. في كل أسبوع كان هناك عدد كبير من الاجتماعات التي تخص العراق، وعموما كان موظفو مجلس الأمن القومي يشاركون فيها. أما رايس فقد انتقلت بشكل تدريجي إلى دور أكبر، فقد تصوّرت نفسها تلعب دور المنسِّق بين جميع الأطراف. وكانت هذه هي "أولوية الرئيس نفسه". طبقاً لما يقوله عضو في مجلس الأمن القومي، أما المجلس نفسه فكان دوره أشبه بدور "كلب الحراسة" أو في أحسن الأحوال "حارس حدود" غير مبالٍ، كنا نصرخ في بعضنا –يقول عضو المجلس- لنتأكد أن كل شيء قد تم على ما يرام!. ويضيف : التنفيذ كان من مسؤولية ميلير، ولا أستطيع أن أتذكر عدد المرات التي كانت تذهب فيها الدكتورة رايس إلى فرانك قائلة: "فرانك! أريد أن تعالج لي هذه المشكلة". يحدث هذا بينما كان هناك العديد من ذوي الخبرة – وبمستوى ميلير- ممن يستطيعون أن يقوموا بما يقوم هو به. كان رامسفيلد يُصدر – وبلغة تنافسية فيها كُره قوي- تعليماته التي لم تكن فيها الحقائق واضحة. يقول "فيث"، نائبه السابق في الدفاع، ساخراً من طريقة حديث رئيسه رامسفيلد: "هنا الكون.. وهذه هي خارطته، وعلاماته الواضحة" وأضاف: ذات مرة أراد رامسفيلد أن يبالغ في النقاش حول الفرضيات التي قيلت في الكون. و حاول أن يطلعنا على كامل وجهة نظره في الحياة، وكل الذي فهمناه منه قوله: "مهما كان عندك من الفرضيات المهمة، فيجب أن تعيد فحصها بشكل ثابت وتحت ضوء شديد من الحقائق الصعبة". كان تقريباً يثرثر بلا فائدة تذكر!. ماذا كان يعني ذلك بالنسبة لعمل وكالات مجلس الأمن القومي؟. لا يعني شيئاً تقريبا حسب رأي أعضاء المجلس، ففي كل اجتماع كانوا يعودون إلى المبادئ نفسها، أو أنهم يتحدثون عن قضايا سابقة مفادها أن إعادة البناء لم يتم منه شيء حتى الآن في العراق. "حصلنا على ما نريد"!في بغداد، اعتقد الرئيس الجديد للقيادة الجيش المركزية الجنرال جون أبي زيد، أنه كان ضرورياً الإمساك بأطفال مسلحين في الشارع. وكان حله، أن إيجاد هيئة دفاع مدني عراقية، كانت من المهمات الأساسية – كما يقول موظف سابق في مجلس الأمن القومي- لكن هذا الأمر برغم أهميته لم يكن مموّلاً في برنامج ما، ولا نحن نمتلك خططاً كافية لتنفيذه. واكتشفت "رايس" أن القوات الأميركية كانت قد أخبرت بالنزول إلى الشارع وتجنيد شباب يافعين للعمل في الدفاع المدني، وكانوا في الحقيقة مبتهجين بعملهم وكانوا يعلنون عن رغبتهم في مكافحة المتمردين أيضاً. لكنهم تفككوا بعد ذلك، وولّوا هاربين. في الحقيقة – يقول عضو سابق في مجلس الأمن القومي- لم يكونوا محميين بشكل كاف. وفي اجتماع للمجلس ضغط بوش ليحصل على أحد يجيبه على تساؤله حول هذا الموضوع، وأنا شخصياً رأيت الرئيس يسأل رامسفيلد، وباول، وأبي زيد في الاجتماعات التي تعقد مرتين في الشهر: "هل هناك ما يمكن عمله بهذا الصدد؟". لا أحد أجاب عن السؤال. فقط كنا نقول:"لا سيدي". هذا ما حصلنا عليه. وفي 2 تشرين الأول –ا كتوبر فإنّ "ديفيد كي" مفتش الأممالمتحدة، المسؤول عن تعقّب أسلحة الدمار الشامل لصدام، أرسل تقريراً سبب لنا صدمة كبيرة، فبعد بحث شامل لأربعة أشهر، قال: "لم نعثر على سلاح من هذا النوع" وبعد يوم واحد. أظهر استطلاع أجرته صحيفة النيويورك تايمز بالاشتراك مع شبكة CBS أنّ الدعم الشعبي لسياسة بوش بشأن العراق انخفضت إلى أدنى مستوياتها. في 6 أكتوبر- تشرين الأول، أسّست رايس "مجموعة استقرار" داخل مجلس الأمن القومي. مهمتها كما وصفت تأمين خطوط سير القطار. وفي كل أسبوع، كان "ميلير" والآخرون العاملون معه. و"هادلي" وعدد من العاملين في ISG ، يوجزون رايس بأمور تتعلق بالجيش، قوات الأمن العراقية، عمليات الاستقرار، وجهود إعادة البناء. وكان عضو مجلس الأمن القومي "سكيك" يُعلمها بما تفعله جميع إدارات القوات المشاركة في التحالف. أما "غيري إدسون" المدير التنفيذي للاقتصاد العالمي، فقد كان يوجز المجموعة حول قضايا الاقتصاد العراقي. و "فرانسيس فراكوز تاونسند" مستشار الرئيس بوش للأمن الداخلي، فقد كان يقدم الإيضاحات بشأن جهود مكافحة الإرهاب. ومدّت رايس يدها إلى رئيس كبير السن هو "روبرت بلاكول" الذي عمل مؤخراً سفيرا في الهند، ليعمل في مجلس الأمن القومي، وقد راح بشكل سريع يركز على السياسة العراقية وقضايا الحكم. وبدأت مجاميع ال "ISG" الثانوية الهجوم على جميع مستويات الأزمات. مجموعة "ميلير" تسلمت ملفات الأمن والاستقرار ومهمات البناء، المجاري، المياه، الكهرباء، وجمع النفايات. يقول ميلير: عندما كنا نحقق بعض المكاسب في نواح معينة، كان العراقيون يقولون إن المستبقل سيكون أحسن. هذه الرسالة باتت تعرف باسم "الإنسان على سطح القمر" لأن العراقيين كانوا يقولون "إذا كانت الحكومة الأميركية ترسل إنساناً إلى القمر وتنزله على سطحه، ألا تستطيع أن توفر لنا بعض وسائل الراحة الأساسية كالكهرباء مثلا؟!. أدرك موظفو رايس أن العراقيين كانوا على حق. إن المهمة الأولى التي كانت في متناول أيدينا هي أن العراقيين كان لديهم رز وفاصولياء بشكل كاف، لشهر رمضان بأكمله. يقول ميلير: إن فكرة انشغال موظفي البيت الأبيض بمسألة الرز والفاصولياء تكاد تكون مضحكة، ماعدا تصوّر النتائج فيما لو لم تكن تلك المادتان الأساسيتان قد توفرتا وفي رمضان بالذات. يضيف ميلير ساخراً: ولم يكن ذلك ليحدث بدون صدور تعليمات من الجهات العليا!. القضية الأخرى هي الكهرباء. فبعد أن سيطرت الولاياتالمتحدة على العراق، كان متوسط الطاقة الكهربائية 3900 ميغا واط. وأوضح بريمر لرايس أن الطاقة في اكتوبر2003 سوف تزيد على 6000 ميغا واط يومياً. لكن هذا لم يتم إطلاقاً. أما هدف ميلير فكان جعل الطاقة أعلى ولو بالإجبار. عندما استنفد مهندسو الفيالق العسكرية الأموال المخصصة لتحديث وسائل توليد الطاقة، وجد موظفو مجلس الأمن القومي، والمكتب الأميركي للإدارة والميزانية بعض المال لصرفه على التحديث. لكنْ عندما رفض العمال الظهور العلني لنصب المولدات، طالب موظفو المجلس مساعدي بريمر لإيجاد وسيلة لإسكان العاملين في موقع آمن. ثم رتّب "ميلير" المسؤول عن إعادة البناء نقل مبلغ 250 مليون دولار لتمويل إعادة البناء، لمساعدة جهود جنرال في بغداد يسمّى "بيتر شارلي" الذي كان يدفع ل 18000 مواطن من مدينة الصدر كي يساعدوا في إعادة بناء مدينتهم. يقول ميلير: إنها لم تكن مهمة موظفي مجلس الأمن القومي. إنها كانت مهمة السفارة الأميركية وال "DOD". في صيف سنة 2003 وخريفها، كان التحدي الآخر الكبير لمجلس الأمن القومي و ل "بلاكويل" بشكل خاص، كيفية مساعدة العراقيين للانتقال إلى الديمقراطية الفاعلة، بإجراء الانتخابات. "رايس" و "بلاكويل" كانوا زملاء قدامى ، كان هو رئيسها ومستشارها وكلاهما خدم عضواً في مجلس الأمن القومي زمن بوش الأب، وخاصة بقضايا أوروبا الشرقية وروسيا. كان "بلاكويل" نضيراً مشرقاً، لكنه خشن الطباع، ويواجه صعوبة في التعامل مع النساء. "رايس" من جانبها وثقت به، وعرفت أنّه كان على الدوام له مقاييسه الصحيحة في العمل. كان "بلاكويل" أيضاً صديقاً قديماً ل "بريمر". تختلف التقييمات ما حدث لاحقاُ بشكل دقيق. ولكن يكفي القول أن الخلاف كان على أوجه بين أولئك الذين عُيّنوا أعضاء في مجلس الأمن القومي، ليحاولوا إيقاف سير العراق نحو الهاوية. طلبت "رايس" من صديقها "بلاكويل" متابعة إستراتيجية "السنة الساخطين" وإعادة تطويعهم، أو في الأقل قمع بعض ثورات العنف في صفوفهم. وفي الوقت نفسه ببغداد كانت هناك مساعدة شابة مقربة إلى بريمر اسمها "ميغن أوسيليفن" عقدت روابط علاقات عميقة مع زعماء حزب سياسي شيعي، يعرف باسم "SCIRI" المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق. وفي حزيران 2004، بعد أن سلم "بريمر" السيادة إلى العراقيين، ونقل سلطة الائتلاف المؤقتة إلى السفارة الجديدة في بغداد، عرض "بلاكويل" على "أوسيليفن" العودة إلى عملها في مجلس الأمن القومي، لكن مدة خدمة "بلاكويل" في المجلس كانت قصيرة، إذ سرعان ما استبدل ب "أوسيليفن" نفسها!. وفي بغداد عملت هذا الشابة المساعدة في مجلس الأمن القومي على تأسيس روابط قوية جداً مع الزعامات الشيعية، بضمنهم عادل عبد المهدي، العضو في المجلس الأعلى للثورة الإسلامية، والذي صنف كسياسي معتدل في الحكومة العراقية. مرّت بالجمعية الوطنية، لحظات توتر شديدة. وفي اجتماع مع "رايس" طبقاً لمصادر متعددة في مجلس الأمن القومي، دعت "اوسيليفن" إدارة بوش بقوة لتشجيع المرشحين الشيعة في انتخابات الجمعية الوطنية "البرلمان"، التي جرت في كانون الثاني 2005. وبانزعاج ظاهر من هذه المسألة، بعثت "رايس" محاضرة طويلة حول الديمقراطية الدستورية، أوضحت فيها لماذا سيكون من غير المناسب لواشنطن أن تتدخّل لصالح أحد الأحزاب السياسية في العراق. وفي النهاية – القول لأحد أعضاء مجلس الأمن القومي- عندما أدركت "أوسيليفن" أنّ "رايس" لن تتزحزح عن رأيها، غيّرت هي مسارها تماماً. لكن هذه الحادثة – كما قال عدد من أعضاء مجلس الأمن القومي- أظهرت كيف أن الأشياء التي تثير الجدل والخصومة في الرأي، حتى الصغيرة نسبياً كانت تؤدي إلى تماسك موظفي البيت الأبيض. من وجهة نظر البعض أن "أوسيليفن" كانت بشكل أساسي مهتمة بتشجيع الشيعة لتشكيل تحالف معتدل مع السنة. آخرون شكوا من أنها كانت تتبنّى وجهة نظر أعضاء المجلس الأعلى للثورة الإسلامية. بينما أصرّ عدد آخر من أعضاء مجلس الأمن القومي فكرة أن واشنطن يجب أن تتجنّب التورّط في خلافات المشهد السياسي العراقي المميت. كان الجدل في المجلس يعكس تقريباً بعض الاختلافات في المستويات العليا للإدارة الأميركية. فعلى سبيل المثال، كان مكتب "تشيني" نائب الرئيس مع عدم التدخل بشكل شبه مطلق. من جانب آخر كانت "رايس" تعتقد أنه قد أصبح مفهوماً بأنّ الدعم يجب أن يكون كاملاً لفكرة "التحالف المعتدل بين السنة والشيعة". وفي النهاية، فإن مثل هذه الفجوات، كما ثبت بشكل كبير لم تردم. "رجاء.. أنجزه"! في ربيع سنة 2004 وصيفها، كانت عقول "رايس" وموظفيها في مجلس الأمن القومي شبه "منفَّطة"، ف "كوندي" –أي رايس- كانت قلقلة، إذ بدون أن يكون هناك وقود ومولدات كهرباء، فإن الأمور لا يمكن أنْ تستمر في العراق، وسيكون من الصعب العمل –بدون مكيفات هواء- في مناخ تصل درجة حرارته إلى (110) في صيف بغداد القائظ. وخافت أيضا من أنّ المتمرّدين قد يحاولون عزل الحكومة في بغداد، أو إسقاطها بمهاجمة أنابيب النفط. وأخيراً، فشلت الحكومة في اتخاذ إجراءات صحيحة لتعزيز إنتاج النفط وتصفيته، وكان ذلك – في الدرجة الأولى- بسبب فوضى سلطة الائتلاف المؤقتة، وبسبب حماقة الوزراء العراقيين، وعجز الاستثمارات الأجنبية، وأيضاً بسبب تطوّر هجمات المتمردين وقسوتها. كانت "رايس" محبطة كما لم تكن في السابق. وحسب وصف أحد أعضاء مجلس الأمن القومي، فإنها لا تستطيع إلا أنْ تراها متعبة"، وعندما كنا ندخل إلى مكتبها، كانت فقط تلوّح بيدها لتقول "من لطفك أنجز ذلك لي". إن أحد أهم الأدوات التي توفرت للقوات الأميركية في العراق، هو برنامج "CERP" أي برنامج التمويلات المباشرة للقادة العسكريين. كانت أموال هذا البرنامج تعطى بشكل مباشر إلى القادة الميدانيين والقوات التكتيكية، ليتمكنوا من الصرف السريع على العراقيين لقاء خدمات يقدمونها لهم، أو لإعادة بناء البنية التحتية. وفي آذار 2004، وجه الجنرال "ريكاردو سانشيز" قائد قوات التحالف الأرضية، طلباً ل "بريمر" ليصرف المزيد من أموال هذا البرنامج "CERP"، لكنّ بريمر رفض الطلب. فلجأ "سانشيز" إلى خرق التسلسل الإداري، واتصل بنائب وزير الدفاع "بول ولفووتز" الذي ناشد "بريمر". لكنّ الأخير رفض ثانية. ومباشرة بعد ذلك، كان "ميلير" التابع لمجلس الأمن القومي في العراق، فعلم بهذه المشكلة، وأخبر "رايس" التي أجبرت "بريمر" في النهاية على صرف الأموال المطلوبة. لهذا بدأ جميع موظفي مجلس الأمن القومي يطلقون على بريمر "نائب الملك الأخير". كنا نظن أنه الحاكم المطلق في العراق، وكلنا نعيش في المستوى الذي يليه – يقول أحد أعضاء المجلس- بعد أن كان يقول لمن حوله "لا تفعل أي شيء تطلبه منك واشنطن، ويجب أنْ لا تفعل شيئاً إلى أنْ آمرك بفعله"!!. لقد أعلم "بريمر" وكالات الأخبار الأميركية، أنّه كان يخبر الرئيس بكل شيء عن طريق "رامسفيلد"، وبدءاً من أكتوبر 2003، كان في الواقع يتحدث يومياً إلى "رايس" وصرّح ذات مرة قائلاً: "لقد اعترضت على موظفي الخط الثالث في البيت الأبيض لأنهم كانوا يضعون تخميناتهم الخاصة على القرارات التي نتخذها. ومن وجهة نظري، إذا كان أحدهم يريد العمل هنا ليرى الأشياء كيف تجري على الأرض، فأنا لدي المزيد من السترات الواقية والخوذات وأسرة النوم". إن سلطة "بريمر" والإدارة الدقيقة التفصيلية لرامسفيلد، جعلتا من المستحيل على "رايس" وفريقها في مجلس الأمن القومي، الاستفادة من الصراع المتعاكس بين "ديفيد" و "غاليوث" ضد بيروقراطية البنتاغون وسلطة التحالف المؤقتة. يقول مسؤول سابق في وزارة الدفاع الأميركية: "أعتقد أنهم كانوا دائماً يريدون أن يفعلوا الشيء الصحيح في العراق. لكنهم لم يستخدموا كامل قدراتهم لفعل ذلك، ولو كانوا قد فعلوا، لكان الأمر يختلف تماماً عما هو عليه الآن". وبحلول صيف سنة 2004، كان أحد أهم القضايا الصعبة للعاملين في مجلس الأمن القومي الأميركي، الوصول إلى تقييمات حقيقية للجهود الأميركية المبذولة لتدريب قوات الجيش والشرطة العراقية، فبدون ذلك لا يمكن للولايات المتحدة أنْ تفكر جدياً في إستراتيجية الخروج من العراق. هذا العمل لتدريب القوات أوكل إلى واحد من نجوم الجيش اللامعين الجنرال "ديفيد بيترايوس" الذي نال استحساناً كبيرا بسبب قيادته للوحدة 101 المحمولة جواً خلال عملية اجتياح العراق والاحتلال اللاحق لمدينة الموصل في أوائل 2004. في ذلك الوقت، زادت موثوقية "بيترايوس" لدى القيادة الأميركية بسبب إصلاحاته الناجحة في إعادة تأهيل مدارس الموصل، واستئناف خطوط الهاتف، وتدفق الماء الصالح للشرب، وعودة الكهرباء، وعموماً عمل على جعل الحياة أسهل وأكثر أمناً للعراقيين في هذه المدينة الشمالية. لكنّ قلق واشنطن كان ينصب على أن هذه الإصلاحات مجرد أمور مؤقتة، ولكن بعد أنْ جرى تكريم الوحدة 101، وتركت مدينة الموصل، سرعان ما انفجر العنف ثانية فيها. كان "بيترايوس" دائماً يتحدث عن عمله الفعال في تلك المدينة. هذا ما كشفه عضو سابق في مجلس الأمن القومي الذي أردف قائلاً: لكنْ طوال سنة 2004 كانت سلطة التحالف المؤقتة، ومن ثم السفارة الأميركية ينقلان الأخبار إلى واشنطن بأن الموصل تعيش فوضى عارمة. لقد كشف "بيترايوس" أنه أوصل إلى واشنطن تقييمات حقيقية، متجاوزاً سلسلة المراجع. وأضاف: "لقد عملنا بشكل جيد في الموصل لمعظم وقتنا. وبالرغم من أننا واجهنا وقتاً صعباً في قضايا عديدة، خاصة في تشرين الأول- نوفمبر 2003، خلال رمضان". ثم انتقلت الوحدة 101 المحمولة جواً إلى مقرها في الولاياتالمتحدة، وغادر "بيترايوس" العراق في منتصف شباط. وحلت وحدة عسكرية جديدة مكان الوحدة المحمولة 101، التي يقول ضابط من ضباطها: "لم تكن تلك الوحدة الجديدة تمتلك نصف ما كنا نمتلكه من إمكانات. وبحلول شهر تشرين الأول- نوفمبر، كانت هناك وحدة ثالثة، ولم يكن لهذه الوحدة الجديدة أيضاً تحليلات هيكل استخباري متين، كنا قد عملنا ذلك في وقت مبكّر. وفي صيف 2004، صارت الموصل أرضاً خصبة للمتمردين ثانية". صرامة التدريبات في حزيران 2004، كان "بيترايوس" قد كُلِّفَ بتدريب قوات الأمن العراقية، وكانت بالطبع مسؤولية حاسمة، بسبب ارتباطها مباشرة بإستراتيجية الخروج من العراق. ومرة ثانية جاءت الأخبار إلى "رايس" من مساعدها "بلاكويل" بعد عودته من رحلة إلى العراق في أيلول- سبتمبر، وأخبرها أنّ "بيترايوس" يخرّج المزيد من قوات الأمن العراقية المدرّبة، وقال "بيترايوس" نفسه أنه حقق "عملاً ضخماً" ولكن بحلول كانون الأول-ديسمبر أصبح تقييمات "بلاكويل" متشائمة وكئيبة. وفي الشهر الأول من سنة 2005، أصدرت وزراة الخارجية الأميركية تقريراً كشفت فيه فشل القوات العراقية في أدائها؛ "يعترف مسؤولو البنتاغون أنهم لا يمتلكون أية فكرة عن عدد المدرّبين حقاً من أصل أكثر من 300 ألف من القوات العراقية التي يُزعم أنها لقيت تدريبات كافية". يقول "بيترايوس" أنه كان دائماً صريحاً في تقييماته لاستعداد القوات العراقية وجاهزيتها. ويؤكد قائلاً "لقد بذلنا كل ما في وسعنا، لتطوير تلك القوات وبصرامة، ولم ندّخر طاقة أو جهداً لتحسين مستواهم باستمرار". وفي كانون الثاني من سنة 2005، عيّنت "رايس" بمنصب وزير خارجية الولاياتالمتحدة. وبعد ذلك بأيام، ذهب إلى صناديق الاقتراح ما يُقّدر بثمانية ملايين عراقي لانتخاب أعضاء الجمعية الوطنية الانتقالية. وفاز الائتلاف الشيعي الإسلامي بأكثرية مقاعد البرلمان متبوعاً بالتحالف الكردي. وفي واشنطن سأل الرئيس بوش "هادلي" وهو نائب "رايس"، ليصبح مستشار الأمن القومي. وحالما تسلّم المسؤولية، أعطى رسالة واضحة جدا مفادها أنّ مجلس الأمن القومي لا ينفذ عمليات. وفوراً سحب "هادلي" موظفي المجلس الذين كانوا يؤدون دور "كلاب الحراسة" في العراق، وأغلق أبواب الجهود الأخرى في إعادة البناء، والنفط، والبنى التحتية، والماء. في ذلك الوقت، كان "ميلير" وعدد من زملائه يشتغلون في قضايا عراقية تخص مجلس الأمن القومي العراقي التي تركت للقطاع الخاص. وأواخر كانون الأول- نوفمبر، كشف مجلس الأمن القومي عن تقرير يتحدث عن "إستراتيجية وطنية جديدة للنصر في العراق". وفي الصيف الماضي، انتُقد هذا التقرير بقوة من قبل مكتب المسؤولية الحكومي، وهو جهة غير حزبية ويعدّ الذراع الرقابي للكونغرس. وقال أحد مسؤولي هذا المكتب "جوزيف كريستوف" الذي أعد تقييماً بهذا الخصوص: "لقد قلنا أنّ تقرير مجلس الأمن القومي يفتقر إلى النواحي المهمة" وأضاف: "إنه لم يقل لنا كم من الأموال والأرواح سيكلفنا هذا النصر، ولم يخبرنا بمن سيقوده". إن الإجابة على هذه الأسئلة بقيت تتعرّض للمراوغة إلى يومنا هذا. ربما سيجيبون عنها في واحدة من الدراسات الثلاث بشأن العراق – الجاري العمل بها الآن – أو ربما لا. "وما يحبط ويدعو للاكتئاب" يقول عضو في مجلس الأمن القومي الأميركي، ويضيف: "لا أدري لماذا نحتل بلداً صغيراً ونتعامل معه بهذه الطريقة الفاشلة، لنضع عنقنا داخل الأنشوطة"؟!. عن حركة القوميين العرب