قبل عقد من الزمن لم يكن لأحد أن يتخيل سيناريو إنفصال جنوب السودان عن شماله ، وتكوين دولة إفريقية مستقلة به. لكن الأمر الآن أضحى حقيقة ، فقد نال الجنوب إستقلاله بعد الإستفتاء التاريخي وبنسبة كاسحة تقارب 100% من الأصوات المعبر عنها , فما سبب هذا الإجماع لأهل الجنوب على خيار الإستقلال ؟ البعض تستهويه نظرية المؤامرة والأيادي الإسرائلية والغربية التي دفعت الجنوب للإنفصال ، لكن بالتأكيد فليست تلك الأيادي هي التي إقترعت في الإستفتاء بل شعب السودان الجنوبي ، إذن فهذا يدحص تلك الإفتراء ات التي يتبناها الإعلام العربي في مقاربته للوضع. بل الجرح أعمق بكثير مما يصور لنا والحيف الذي طال جنوب السودان والظلم الذي مورس في حقهم لم يعد بالإمكان تجاوزه أو إصلاحه . لقد مورس على الجنوب تهميش إقتصادي ثقافي ديني وعرقي طوال عقود من حكم الدولة المركزية منذ العهد العثماني مرورا بالحكم المصري البريطاني إلى الدولة السودانية الحالية وآن الأوان أن تعطى الفرصة للجنوبيين لتقرير مصيرهم، بعد صراع مع الشمال كلفهم مليونا قتيل وأكثر من أربعة ملايين نازح و 420 ألف لاجئ في البلدان المجاورة. صراع إستعمل فيه الشمال كافة أنواع القمع والحصار والتهميش فأعلنت الدولة تطبيق الشريعة الإسلامية واضعة الجنوبيين خارج الدائرة حيث أن أغلبهم إما مسيحيين أو وثنيين مما ترتب عن هذا الفعل من نمو مشاعر الغربة وتعميق الهوة بين الشمال والجنوب وكذا إعلان أن السودان دولة عربية ولغتها الرسمية هي اللغة العربية وفرضت سياسة التعريب القسري ضد المواطنين الأفارقة بالجنوب الذين يطالبون بهويتهم الإفريقية (كما حال باقي المناطق التي تعرب قسريا بالنوبة ودارفور) وقد كان العامل الإقتصادي بمثابت القشه التي قصمت ضهر الحمار حيث أن أغلب ثروات السودان تتركز بالجنوب لكن يتحكم الشمال بعائداتها لصالحه وترك الجنوب مهمشا يعتمد على المساعدات الإنسانية للمنظمات الدولية .
وكل هذا نتيجة لتبني الدولة السودانية للقومية العربية الشوفينية والتي تقوم على مبدأ تعريب الأعجمي وإبادة وعزل المناطق التي إستعصت على التعريب ، وهذا ما نهجته العديد من الدول ” العربية ” وأولها السودان الذي تمادى في شوفينيته ضد السكان الأصليين من نوبة ودارفورين وجنوبيين ، الذين ظلوا متشبتين بعاداتهم ولغتهم الإفريقية ، سياسة لا تختلف عن السياسة الصهيونية ضد الفلسطينيين . إن الدولة الوطنية تقوم على الإحترام المتبادل لجميع القوميات والإعتراف المتبادل فيما بينها،وكل محاولة للسيطرة وطمس حقوق قومية أو مجموعة بدواعي الوحدة والأمن فما هي إلا تأجيج لمشاعر الكراهية وبوادر للإنقسام . المفارقة العجيبة أن الصراع في السودان ليس بين قوميتان مختلفتان عرقيا بقدر ما هما مختلفان ثقافيا ، فمن يصدق أن الرئس السوداني الحالي عمر البشير أصوله من صحاري نجد والحجاز وليست إفريقية سودانية ، لكن غسيل الدماغ من طرف القوميين العرب للطبقات الحاكمة جعل هاته الأخيرة تعادي ذاتها وشعوبها وتاريخها ولغتها الأصلية ، فبعد السودان وشمال إفريقيا والشام يتجه العرب ليعريب دول إفريقيا السوداء ودجيبوتي والصومات وحتى مدغشقر ظهرت هنالك قبائل تدعي أنها من الجزيرة العربية ، وبالعودة للواقع السوداني يتجلى خطر هاته السياسة الشوفينية حيث رئيس إفريقي من أصول إفريقية يبيد شعبه الإفريقي المهدد لوحدته العربية الموهومة ، وهذا ما تكرر في العراق وسوريا في إبادتهم للأكراد وكذا في شمال إفريقيا حيث الرئيس الليبي ذي الأصول الأمازغية يبيد ما تبقى من الليبيين الناطقين بالأمازيغية بل وصل ببعض الأنظمة ذي الأصول الأمازيغية أن تدعي صراحة أنها من سلالة عربية عريقة لتظفي مشروعية على حكمها . لذا فما يحدث بالسودان الآن ليس إلا مقدمة لإنهيار الوهم القومي العربي وبداية لحركات إستقلالية للمناطق التي مازالت محافظة على تميزها الثقافي والحظاري والتي لم تتمكن منها آلة التعريب ، لأن الإنفصال هو الحل الوحيد لتفادي الذوبان والموت البطئ للثقافات الأصلية .
والآن سنعرج من جوبا لأجدير، أجدير هي عاصمة الجمهورية الريفية سنة 1921 ،التي أسستها القبائل الريفية تحت قيادة الأمير محمد عبد الكريم الخطابي ، لكن هاته الجمهورية لم يكتب لها عمرا طويلا لعدة عوامل منها تكالب عليها العديد من القوى الإستعمارية وإستعمال مختلف الأسلحة وبالأخص الغازات السامة والتي مازالت المنطقة تعاني من آثارها إلى الآن ، ولقد كان المخزن مشاركا ومشجعا وحتي مساعدا لتلك القوى للقضاء على هاته الجمهورية الوليدة ، لكن ظلت هاته الجمهورية حية في نفوس وقلوب أهل الريف قرابة قرن من الزمان ، بعد خروج الإسبان عوضه المخزن ليمد نفوذه على هات الرقعة الجريحة والتي مازالت جراحها لم تندمل نظرا لما عاشته في صراعها مع المستعمر ، لكن عوض أن يتجه المخزن لمساعدة هاته المنطقة على الشفاء ولملمت جراحها إختار أن يعمق هاته الجراح ويحاول الإجهاز على هذا الجسد المريض لكي يظمن أنه لن تقوم له قائمة ثانيا ، فزحف الجيش المخزني تحت قيادة ولي العهد آنذاك ( الحسن الثاني ) وبمساعدة عسكرية فرنسية على الريف وعاصمته أجدير وقد سجل التاريخ بشاعت ما قام به المخزن ورجاله من قتل وإغتصابات وإحراق للقرى بل وصل بهم الأمر حتى بإستعمال الأسلحة المحظورة وتسميم الآبار والعيون بغية إبادة ما تبقى على قيد الحياة .
فكانت النتيجة آلاف النساء المغتصبات وآلاف القتلى ومئات آلاف من المهجرين ، كل هذا لم لم يشفي غليل المخزن فضرب حصار إقتصادي لتجويع هاته المناطق ، فكان النتيجة أن نزح نصف سكان الريف عن أرضهم خصوصا صوب أوربا ، لكن كل هذا والجمهورية الريفية حية في نفوس الريفيين ، والعداء المتبادل بين أجدير والرباط قائما ، فإنفجر ملك المغرب الحسن الثاني متحديا الريفيين وناعتا إياهم بالأوباش في خطابه الشهير بيناير 1984 : ( أنتم تعرفونني جيدا … أيها الأوباش … اللي عارضني نخلي دار بوه … أنا مستعد أن أقتل الثلثين … ) ، بل تجاوز هذا بتذكير سكان الريف بالمجازر التي قام بها في حقهم وهو وليا للعهد : ( سكان الشمال يعرفونني وليا للعهد ، ومن الأحسن أن لا يعرفوا الحسن الثاني في هذا الباب ). ولقد نهج المخزن طوال فترة سيطرته على الريف سياسة الترهيب وتغيير البنية الديموغرافية والثقافية للمنطقة وكذا سياسة التعريب القسري بتهميش اللغة الريفية …كما قام بتقسيم الريف لعدة مناطق فألحقت الحسيمة بفاس والناظور بوجدة ، في محاولة منه لقتل الوعي الجماعي والتاريخ المشترك للريفيين . من خلال مقارنة النموذج السوداني في تعامله مع الجنوب والمغربي في تعامله مع الشمال ( الريف ) نجد نفس السياسة العنصرية والإقصائية ، وكما سخر النظام السوداني قبل عقد من الزمان من سيناريو إستقلال الجنوب والآن أضحى واقع نجد النظام المغربي يسخر من سيناريو إستقلال الشمال ( الريف ) ، لكن إن إستمر النظام في نهج سياسته الإقصائية ضد الريف والتعامل معه بالمنظور الأمني فما هي إلا مسألة وقت لتتحقق النبوؤة