بقلم : التجاني بولعوالي / باحث مغربي مقيم بهولندا في واقع الأمر، جاء خريف هذا العام محملا بالكثير من المفاجآت، ليس للفلاح المغربي فحسب، وإنما للجميع؛ للفلاح المسكين الذي استبشر خيرا بغزارة الأمطار التي شهدتها العديد من المناطق المغربية، فارتوت الأرض اليابسة، وامتلأت السدود الجافة، فلا شيء أمامه إلا أن يتهيأ لخدمة الأرض وتنقيتها وحرثها، حتى تستفيد البذور من رطوبتها... وهو كله أمل وتفاؤل بأن السنة الفلاحية القادمة، سوف تكون بلا شك سنة غلة وخير وفرح، تعوضه عما عانه في السنين المنصرمة من جفاف وشظف وعوز. وكان خريف هذا العام أيضا مفاجئا للمواطن العادي الفقير، الذي يملك مسكنا هشا، أو يقطن قرب الأودية والأنهار والأحواض، فكان مطر هذا الخريف وبالا عليه، رغم أن فيه خيرا كثيرا للبلاد والعباد، لكن فوائد قوم عند قوم مصائب! حيث أتت المياه على الأخضر واليابس، فهدمت المنازل، وجرفت السيارات والأجهزة والممتلكات، وجرت المواشي والبشر..! فأصبحت قرى وأحياء معزولة عن العالم، كما هو الحال بالنسبة لبلدة الدريوش، التي داهمها الفيضان ليلة 25 من شهر أكتوبر 2008، وصار الكثير من الناس بلا مأوى ولا مأكل ولا ملبس، أجل فقدوا كل ما يملكون بين عشية وضحاها، بل وفي رمشة عين! لذلك يمكن اعتبار خريف هذا العام امتحانا حقيقيا وحاسما للدولة المغربية، التي تروج بأنها وضعت قطارها على سكة التنمية الحقيقية، وأن المغرب شهد في العشرية الأخيرة تقدما كبيرا على مختلف المستويات، سواء السياسية منها، أم التعليمية، أم الاقتصادية، أم غير ذلك، غير أنه جاء خريف هذا العام ليميط اللثام عن الحقيقة؛ فيتساءل الجميع: أين هو التقدم أمام مطر يجرف كل شيء، ليس في القرى النائية فحسب، كالدريوش مثلا وغيرها، وإنما كذلك في المدن ذات الصيت العالمي، كطنجة مثلا؟ ألا يستغرب المرء عندما يرى أن هذا يحدث بعد ساعات معدودة أو حتى بعد بضعة أيام من تهاطل الأمطار، وهو يدري أن ثمة مناطق من العالم ينزل فيها المطر باستمرار، غير أن الأمور تظل عادية، لا منازل تهدم، ولا سيارات تجرف، ولا بشر يموت! ترى فما هو السر وراء ذلك؟ باختصار تام؛ السر وراء ذلك يتحدد في كلمة واحدة، هي كلمة التطور بمعناها الحقيقي. ثم أين هي التنمية التي تتحدث عنها الدولة المغربية في كل مناسبة وفي كل ناد؟ ونحن نرى فئات عظيمة من الشعب المغربي لا يربطها بالوطن إلا الإسم، تعيش في مناطق يحكمها قانون الغاب، يصبح فيها المواطن العادي دمية، سواء في يد رجل السلطة المعين من العاصمة، غير أنه لا يحترم المواثيق والقوانين التي عاهد على أن ينفذها بصدق وأمانة، ولم يأخذ بعين الاعتبار القسم الذي قدمه لربه ووطنه وملكه، فانطلق إلى عمله لا يهمه إلا جمع المال، ما دام أنه يدرك أن بعد مدة معينة سوف يغادر إلى مكان أو منصب آخر! أم في يد المنتخب الجماعي أو النائب البرلماني، الذي لم يختره الشعب، وإنما نصب نفسه بالمال والرشوة والمحسوبية، فماذا ينتظر ممن لا يتقن إلا لغة المال وشراء الذمم، في زمن ما أحوج فيه المغرب إلى من يتقن لغة التنمية وتأهيل المجتمع المدني. إن ما حدث في خريف هذا العام، ينبغي أن يحدث كل لحظة، حتى تدرك الدولة أن أمامها تحديات كثيرة، يتحتم أن تفكر مليا في كيفية تجاوزها وتخطي أعبائها، فمشروع التنمية الذي تتبناه الدولة، مشروع مصيري بالنسبة إلى كل مكونات المجتمع المغربي، لذلك يجب أن تؤخذ فيه بعين الاعتبار الكثير من الأبعاد؛ كأن يكون شموليا وعادلا، لا يخص المدن الكبرى فحسب، وإنما أيضا البوادي والقرى النائية، وأن يكون واقعيا وتطبيقيا، لا يرتبط بما هو نظري فقط، وإنما ينزل على الواقع ويطبق بشكل دقيق ومتواصل. لقد جاء زلزال الحسيمة الذي وقع في ليلة 23- 24 فبراير 2004، بالخير العميم، رغم أنه خلف الكثير من الضحايا والخسائر، غير أنه من جهة أخرى عرى حقيقة التنمية في تلك المناطق، مما أوقع الدولة المغربية في حيص بيص! فما كان عليها إلا أن تشمر عن سواعدها، وترد الاعتبار لتلك الجهة، فكانت النتيجة أن تحققت هنالك بعض المكاسب، كإنقاذ الضحايا ومساعدتهم، وإنشاء بعض البنى التحتية، وفتح بعض المرافق العمومية، وأكثر من ذلك الاهتمام المستمر بتلك المنطقة من قبل الملك نفسه، ومن شأن هذا الحضور الملكي الرمزي أن يجعل المسئولين هنالك تحت مجهر المراقبة، فينفذوا كل ما هم مطالبين به، سواء من الجهاز الرسمي، أم من الشعب، بحذافيره، هكذا استفادت منطقة الحسيمة بسبب ما كان عليها وبالا، وربما أنها ما كان لها أن تستفيد من ذلك، لو لم يزرها ذلك الوبال/الزلزال! (وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم، وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم، والله يعلم وأنتم لا تعلمون)، كما يقول الله تعالى في سورة البقرة، الآية 216. ألا يمكن لهذا أن ينطبق كذلك على بلدة الدريوش، وكذا على ما يجاورها من بلدات كثيرة، كميضار وبن الطيب وتفرسيت ودار الكبداني وقاسيطه وعين زوره، وغيرها من الجماعات والقرى التي تتوزع على دائرتي الريف والدريوش، المنتميتين ترابيا إلى إقيلم الناظور، وهي مناطق مأهولة بالسكان، حيث أن جماعة الدريوش وحدها يبلغ تعداد سكانها حوالي 30 ألف نسمة، وهي تقع شمال شرق المغرب، تبعد عن مدينة الناظور بحوالي 50 كلم، وعن العاصمة الرباط بحوالي 500 كلم، وقد عانت منذ استقلال المغرب من التهميش والعزلة والإقصاء، في حين كانت إبان الاستعمار الإسباني مركزا رئيسا للقوات الإسبانية، تتمتع بمختلف المرافق العمومية والبنيات التحتية، لكن بمجرد ما استقل المغرب، تراجعت الكثير من الأنشطة التجارية والفلاحية التي كانت تشهدها، فعانت من تهميش مزمن، بالمقارنة مع الجماعات والقرى المجاورة لها، التي كانت تحظى بمختلف المرافق والأنشطة والمشاريع، في حين كان أي مشروع يخصص لجماعة الدريوش في العاصمة، ويسجل رسميا على أنه أقيم بها، يمرر إلى الجماعات الأخرى، كما حدث في الثمانينيات لمشاريع: الكهرباء والإعدادية والثانوية، وغيرها من المصالح الضريبية والفلاحية! وذلك مقابل حفنة من الدراهم والامتيازات التي كانت تمنح لبعض المسئولين الجماعيين والإقليميين، وقد أثر هذا التهميش بعمق في التركيبة السكانية لجماعة الدريوش، حيث اختار العديد من سكانها الأصليين مغادرتها إلى الخارج، أو إلى بعض المدن المغربية كتطوان وطنجة ووجدة ومكناس وغيرها. لكن رغم ذلك كانت الدريوش تتحدى الموت البطيء الذي يزحف إليها، ولا تبالي بالإقصاء والعزلة، وتكبر مع مرور الأيام، حتى صارت مدينة قائمة بذاتها، تتوفر فيها أغلب خصائص المدينة، ولو في صورتها المصغرة، إلا أن أحدا من المسئولين المحليين أو الإقليميين أو الحكوميين لم ينتبه إلى ذلك، وهم يدركون أن ثمة مدينة ما قد بزغت إلى الوجود، لكنها مدينة ضائعة، بلا راع واع أو مسئول حقيقي! وقد كشف فيضان واد كرت، الذي ضرب المدينة ليلة 25 أكتوبر 2008، عن الكثير من الحقائق، التي يتحدد أهمها كالآتي: * إن معظم ضحايا الفيضان كانوا من السكان الذين يقطنون على ضفتي الوادي، مما يعني أن ثمة بناء عشوائيا، لم تراع فيه سلامة المواطن وأمنه، فمن المسئول يا ترى عن ذلك البناء؟ علما بأن تلك المنازل تم بناؤها بلا ترخيص من العمالة، وإنما عن طريق إرشاء الجهات المسئولة عن ذلك، كالجماعة والقيادة والمهندسين المعنيين بالبناء، وهذا أمر معروف يعلمه الداني والقاصي من ساكنة الدريوش قاطبة! * لقد شهد شمال المغرب وشرقه تحولا نوعيا، بمجرد ما تربع الملك محمد السادس على عرش المملكة المغربية، فتوالت الزيارات الملكية إلى المنطقة، التي ترتبت عنها نتائج محمودة؛ فبنيت الطرقات، وأقيمت الأوراش، وشيدت المستشفيات، وفتحت المدارس، وغير ذلك من المكاسب الحيوية، التي غيرت وجه تلك المدن والأقاليم من سيء إلى أحسن، فصارت في زمن قياسي تنافس المدن المغربية العتيدة! غير أنه فيما يتعلق بإقليمالناظور، لاحظ الجميع أن الزيارات الملكية اقتصرت على الجماعات والمدن الواقعة على شريط ساحل البحر الأبيض المتوسط، في حين غابت الجماعات والقرى التي تقع داخل إقليمالناظور، كالدريوش مثلا التي كان ينتظر أبناؤها كل صيف مقدم ملكم، الذي يحبونه ويقدرونه، حتى ينعموا بلقائه ورؤيته، فينالون ولو نزرا قليلا من توجيهاته الحكيمة وأفكاره التنموية، غير أنه للأسف الشديد، غابت منطقتهم عن الأجندة الملكية، أو بالأحرى غيبها المسئولون عن هذه الجماعة وغيرها، خوفا من افتضاح أمرهم، أمام الملك الذي سوف يسألهم، لا محالة، عن مصير المشاريع والأوراش المخصصة لهذه المنطقة! * ثم إن الكارثة التي حلت بالدريوش، أظهرت مدى غياب المصالح الخاصة بإنقاذ المواطنين وتقديم الإسعافات إليهم، كالمصالح الأمنية والطبية والإطفائية وغير ذلك، حيث كان على المتضررين انتظار قدوم بعض تلك المصالح من مدينة الناظور، أي بعد ساعات طويلة من حدوث الكارثة، هذا يعني أن جماعة الدريوش التي يبلغ سكانها حوالي 30 ألف نسمة، لا تتوفر على مصلحة الإنقاذ، ولا على مصلحة الإطفاء، ولا على الأمن الوطني، ولا على المستعجلات! خلاصة القول، إن فيضان واد كرت الذي حل بمدينة الدريوش ينبغي أن يشكل درسا حاسما للدولة المغربية، على أن مشروع التنمية الذي تبنته منذ بداية الألفية الثالثة، يعتريه خلل عميق يجعل منه مشروعا ناقصا ومرتجا، وسوف يظل كذلك ما لم تراع فيه أبعاد الشمولية والعدالة الاجتماعية والواقعية، لأن التنمية الحقيقية لن تتحقق إلا إذا اعترت سائر جسد الدولة المغربية، الذي إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى. www.tijaniboulaouali.nl