تقديم: يعد نورالدين كرماط من أهم كتاب القصة القصيرة جدا بالجهة الشرقية من المغرب، إلى جانب مجموعة من المبدعين المتميزين في هذا الجنس الأدبي نفسه، مثل:جمال الدين الخضيري، وجميل حمداوي، وميمون حرش، ونورالدين الفيلالي، ومحمد العتروس، وبديعة بنمراح، وجمال بوطيب، وعبد القهار الحجاري، وسمية بوغافرية، وأمينة برواضي، وخالد مزياني، وفاطمة بوزيان… ومن المعروف أن نور الدين كرماط ينتمي إلى مدينة جرادة المعروفة بمناجم الفحم الحجري، ولونها الأسود الداكن، والسليكوز الذي أثخن صدور العمال بالجراح الدامية، والآلام الباقية، والأمراض المستعصية. وعلى الرغم من التهميش الذي تعانيه المدينة، فقد عرفت جرادة حركة ثقافية مع مجموعة من المثقفين والمبدعين الشباب، مثل: خالد بودريف، وجلول قاسمي، ومحمد بنعلي، ونور الدين كرماط، وحليمة الإسماعيلي، ومحمد بودويك،وسامح درويش، والمدني عدادي… هذا، ويتميز نور الدين كرماط عن هؤلاء بالكتابة القصصية القصيرة جدا الطافحة بالواقعية السياسية، وانتقاد الواقع العربي المنخور بالتناقضات السياسية التي تعبر بكل صدق وصراحة عن انبطاح الإنسان العربي قهرا وعسفا وجورا.إذا، ماهي أنواع التشخيص في مجموعة نور الدين كرماط (لا وجود لقبلة يتيمة)؟ D التشخيص الدلالي: من المعروف أن القصة القصيرة جدا تشخص الذات والواقع من جهة، كما تشخص نفسها من جهة أخرى. ومن ثم، ينبني التشخيص في أضمومة (لاوجود لقبلة يتيمة1) لنور الدين كرماط على التشخيص الذاتي، والتشخيص الواقعي، والتشخيص الميتاسردي على النحو التالي: ̧ التشخيص الذاتي: يلاحظ أن الكاتب نورالدين كرماط يهتم بالواقع أكثر مما يهتم بذاته أو أحزانه ولواعجه. وبالتالي، لاتحضر الذات كثيرا في هذه المجموعة القصصية القصيرة جدا؛ لأنه كان واقعيا وسياسيا إلى درجة كبيرة، إلى أن تحولت أضمومته إلى خطاب سياسي وإعلامي وصحفي مباشر من جهة، وخطاب رمزي مليء بالإيحاءات المرجعية والسياسية من جهة أخرى. ومن ثم، يعمد الكاتب إلى انتقاد الأوضاع السياسية العربية انتقادا ساخرا كاريكاتوريا، يستند في ذلك إلى لغة التعريض والتلويح والفضح والسخرية والتهكم والمفارقة. وعلى الرغم من الطابع الواقعي المهيمن على قصص مجموعته القصصية القصيرة جدا، فإن الذات المتكلمة حاضرة بشكل من الأشكال في هذه الأضمومة، ولكن حيزها الورقي والنصي ضئيل جدا، ويتشخص ذلك عبر حضور ضمير المتكلم ، وتوظيف المنولوج، والإشارة إلى صراع الذات مع نفسها انعكاسا. وهكذا، يستبطن الكاتب ذاته في مختلف تجلياتها الشعورية واللاشعورية، ويرصد تناقضاتها المختلفة في صراعها الجدلي مع الواقع الموضوعي، مع استكشاف صراعها الداخلي العنيف، لاسيما في قصته (سيجار) التي يبدو أنه قد تأثر فيها كثيرا بقصة (الفراق) لجمال الدين الخضيري صاحب مجموعة (فقاقيع)2:” هاتف من أعماق الروح يحرضني على قتله ، يصرخ في وجهي: اقتله اقتله.. ! أنت جبان.. جبان.. لماذا لم تقتله كسابقه ؟ أعجزت عن حرقه ؟ أود أن أصرخ كالمجنون.علني أتخلص من هذا الثقل الذي أدمى كتفي.هل قدر علي أن أظل في دوامة القتل و اللا قتل ؟ حتى الصراخ جافى لساني.تذكرت الأشلاء ممزقة هنا وهناك. حولوا عرسهم الوطني إلى مأتم كبير غاب فيه المعزون .من يعزي من؟ صوت عود الثقاب يخيفني.. يشتت صفو خاطري .. يتلبسني الهاتف من جديد أشنقه بحبل من نار. تخلص منه هو مصدر حزنك،نعم قم بصلبه. علق جثته فوق خيوط الكهرباء ،وسط الحي ليشهد الجميع موته على يديك.لم يفعلها أحد من قبلك،ستغدو بطلا في أعينهم جميعا ..من هم؟ لا أعلم . اشعلها ثورة .. أشعلها ثورة تمزق بها بكارة الخوف السرمدي الذي يسكنك مذ رأيت النور في هذه المدينة المنسية المريضة أوداجها بالسليكوز.” نجد الكاتب في هذه القصة يسرد أوجاع ذاته المترنحة في مدينة الأدواء المتألمة، الغارقة في الأحزان الفحمية السوداء، تلك المدينة المقصية المريضة بالسليكوز الدامي، صارخا بعنف في وجه الواقع المحبط، المسكون بالخوف السرمدي، متمنيا ثورة ربيعية جارفة ، تقض مضجع هذا الواقع المحبط الساكن. ̧ التشخيص الواقعي: يعتبر نور الدين كرماط كاتبا واقعيا في أضمومته القصصية القصيرة جدا، يحمل رؤية سياسية انتقادية هادفة وبناءة، تصوب سهام النقد الحاد واللاذع إلى الحاكم العربي من جهة، وإلى الواقع العربي من جهة أخرى. ومن ثم، يغلب الهم السياسي في هذه المجموعة على الهموم الأخرى، كالهم الاجتماعي، والهم الثقافي، والهم التاريخي، والهم الاقتصادي، والهم النفسي والذاتي. فتردي السياسية العربية ماهو إلا دلالة على تردي الواقع العربي في مختلف المجالات والمستويات . ومن هنا، يبرز نور الدين كرماط في مجموعته القصصية مجموعة من التناقضات الجدلية التي يعيشها الواقع العربي على جميع النواحي والأصعدة، ولاسيما السياسي منه، فيرصد المفارقة الموجودة بين القول والفعل، وبين النظرية والتطبيق، وبين الدين القولي والسلوك العملي:” انزعج كثيرا بعد اطلاعه على خبر الإعلان عن حضورالدكتور “الشبهة” إلى الملتقى الوطني لتعليب الوهم التنموي. الوزير ابن الكابران: نحن لم نسخن كراسينا بعد ،و المعارضة تحاربنا وتتهمنا بالارهاب… لا مهراجانات ..لا عري .. لا شذوذ..الالتزام ..اعفوا اللحى… بصوت غير مسموع يغمغم في أذن صديقه الوزير ابن حقيبة: سنطبق الشريعة على نار هادئة … السكرتير الملتحي :الدكتور ضيف الملتقى يرغب في مقابلتك. الوزير ابن الكابران متأففا: احذر من التصوير. المترجمة الفورية: المستر ماكيين كرومر يهنئكم على الكراسي الجديدة، و يشكركم على جودة خموركم المحلية. نظر إليه مرافقوه في اتهام. الوزير ابن الكابران: الخمور محللة بقانون و ( أنا مالي )! ! !” ومن جهة أخرى، ينتقد الكاتب المتنطعين في الدين ابتداعا واستحداثا وفتوى، ويدين المتشددين منهم تعصبا وتطرفا وإرهابا:” لم تفهموا شيئا أيها االظلاميون المخدرون . قطعت حنجرتي “بلا إله و الحياة مادة”،و في الأخير تكتبون: قال الله تعالى !،قال جل جلاله… ! ثم ألقى على وجوههم أربعين صفرا إلا واحدا. و أنت ألم أنهك عن نقل الفروض المنزلية من النت؟ لم أنقله يا أستاذ،إنما كتب نفسه بنفسه. قبحتك الطبيعة غشاش و كاذب أيضا !” علاوة على ذلك، يناقش الكاتب في قصصه القصيرة جدا جميع الموضوعات الحساسة التي تؤرق الإنسان العربي، لاسيما موضوع الانتخابات المزيفة، والشعارات السياسية الفارغة. ويتعرض أيضا لمشاكل الأمة العربية وقضاياها القومية المستعصية ، مثل: استعراض الحروب العربية الدونكيشوتية، والإشارة إلى المؤتمرات العربية العديدة وقراراتها الواهمة، والتركيز على علاقة الأنا بالآخر، وذكر ثورات الربيع العربي، وتبيان نوايا الاستعمار الغربي الجديد، والإحالة على الفوضى الخلاقة ومراميها القريبة والبعيدة، والتنديد بالأنظمة العربية المستبدة، ورصد أوضاع العراق وسوريا واليمن ومصر وتونس، علاوة على استعراض الصراع العربي الإسرائيلي من خلال مناقشة أوضاع الأسرى الفلسطينيين، والتنديد بالسياسة العنصرية الإجرامية التي تعتمد عليها إسرائيل في مواجهة الإنسان العربي:” صوت الجزيرة يجلجل مكتب الرئاسة . أهالي المحررين يهللون و يكبرون و (يتحمسون): لا إله إلا الله …الله أكبر … و لله الحمد.. كلنا حماس.. شمعون بيريز: غبي أنت يا نينو ! كيف تجرؤ على إطلاق هذا العدد من الفلسطسنين؟ نتنياهو :لا عليك، سأقتل و أسجن منهم … أََََََََََََََضعاف ..أضعاف هذا العدد. استأذن نتنياهو للذهاب إلى الحمام… خبر عاجل يزلزل قناة الجزيرة:”حركة حماس تشترط إطلاق مابقي من أسرى مقابل نتنياهو”. ويعني هذا أن التشخيص السياسي هو الغالب على مجموعة الكاتب إلى درجة التقريرية والمباشرة أحيانا، واستعمال الرموز والعلامات الموحية أحيانا أخرى. وهذا إن دل على شيء، فإنما يدل على مدى اهتمام الكاتب بالأحداث السياسية المختلفة، وتتبع أخبار الصحافة والإعلام حول كل ما تعانيه الأمة العربية، والتعبير عنها قصصيا وفنيا وجماليا. وهذا يحيل على واقعية الكاتب الصادقة ، والتزامه بقضايا الأمة. هذا، وينتقد الكاتب القيم الاجتماعية المنحطة في هذا العالم العربي المحبط، ذلك العالم الذي تغيب فيه القيم الأصيلة والأخلاق السامية النبيلة، حيث ينتشر فيه الزيف والفساد والجشع والرشوة والاستغلال، وتستفحل فيه القيم المادية الكمية، ويصبح فيه الإنسان، وخاصة المرأة، مادة سلعية سوقية تباع وتعرض بأرخص الأثمنة بدون خجل، ولا حياء آدمي:” تحدى مدير المنتدى إجماع لجنة المسابقة. و أعلن أمام اندهاش الجميع : ” هي الفائزة. نعم الفائزة “وسام سعد”، و ليس مرشحكم صاحب النص التافه ..” خلسة أرسل كلمات على البريد الخاص: ” انتظرك التاسعة مساء في الفندق القريب من مقر المنتدى لتسلم الجائزة…” في الموعد تماما سمع طرقا خشنا على الباب .هب صائحا : من ؟ محمد وسام سعد . ” وينضاف إلى ذلك أن الكاتب لايهتم بالقضايا السياسية فقط، بل يناقش مجموعة من القضايا الاجتماعية البارزة واللافتة للانتباه، مثل : صراع الزوجين مثلا:” اكتشف وهو يطوي عقده الخامس ،أنه مازال يحتاج إلى أمه لحل مشاكله الزوجية . زار قبرها، فبكى و يده على عينه المنتفخة .” وهكذا، يبدو أن مجموعة نورالدين كرماط ذات أطروحة سياسية انتقادية تدين الواقع السياسي العربي برمته، وتستشرف واقعا سياسيا ديمقراطيا على شاكلة الواقع الديمقراطي بالغرب، يتسم بالأخوة، والحرية، والعدالة، والمساواة الحقيقية المبنية على تطبيق حقوق الإنسان، وفصل السلط. وبالتالي، يتبين لنا بأن الكاتب على دراية تامة بأخبار السياسة في تفاصيلها الدقيقة والجزئية، قريبا من قضايا الأمة العربية شرقا وغربا. ̧ التشخيص الميتاسردي: لم يكتف الكاتب بالتشخيص الواقعي والاجتماعي والقومي والسياسي فحسب، بل كتب قصصا تندرج ضمن الميتاسردي أو الميتاحكائي، أو ضمن ما يسمى بالقصة تفكر في ذاتها أو القصة داخل القصة. وهكذا، نجد الكاتب في قصة (وشاية) يفضح آليات القصة القصيرة جدا، ويشير إلى دورها الخطير في إشعال الثورات العربية. وعلى الرغم من قصر القصة القصيرة جدا، فإنها تطرح أسئلة كبيرة وخطيرة، ولاسيما أنها كانت حاضرة للتعبير عن لحظات الربيع الثوري الذي يعرفه الواقع العربي من الشرق إلى الغرب:” قدّمت الرواية شكوى إلى قسم الاستعلامات لحماية الصخور القومية. ”أعرف من أشعل ثورات الربيع العربي. ” قفز رجال وحدة المعلومات من كراسيهم مذعورين، و أمسكوا بخناقها، وبصوت واحد: ” من ؟” ” إنها القصة القصيرة جدا.” وتتمظهر هذه الميتاسردية جليا في قصة (انتصار): ” صاحت شخوص قصته:” مبارك عليك الرتبة الأخيرة”….تراءت إلى قريحته: “أن يصب عليها زيتا ساخنا”. فهنا، يستحضر الكاتب شخوص قصصه التي شخصها وأنسنها ليدخل معها في علاقات بوليفونية ميتاحكائية ، بغية فضح أسرار اللعبة السردية فنيا وجماليا. هذا، وتنتفض الشخصيات الميتاسردية في قصص الكاتب، وخاصة في قصته ( نهاية ثورية)، حيث تتمرد البطلة ثائرة على مصيرها المنتظر الغامض، فيسقط قلم السارد سهوا، فيصيب قلبها الحساس؛ مما يدفع السارد إلى حملها بسرعة إلى المستشفى، لكن الموت سيكون هو مصيرها الحقيقي:” في وجهي انفجرت السيدة” هديل” بطلة روايتي؛ “شبيحة البطة” ” أما وجدت نهاية بعد تخرجني بها من جحيم الانتظار،أيها الروائي الفاشل” . سهوا سقط قلمي، و انغرس في قلبها ،حملتهاعلى وجه السرعة إلى أقرب مستشفى، لكنها ….. ماتت. ” ومن جهة أخرى، يشير الكاتب إلى قضية السرقة الأدبية والعلمية، وذلك تحت مسمى جديد ألا وهو التناص:”زيف قلبه المخلوع من هنا ورقتين . و دبج من هناك مقدمة في فقرتين،غرر بكتيب دون العشرين ، بيديه الطويلتين ، وضعه في الرف،بالقرب من قصة مزورة نسب أصولها لأنامله الرملية ، رفض الغر زواج المتعة الهجين، انتفضت شخوص القصة، رموه بالنقط و الفواصل ، وألقوا على رأسه علامات التعجب و الاستفهام .. هاج الجمهور.. دفن المشرف وجهه في خجله . صرخ المناقش الفطن:” قبح الله السرقة ..قبح الله السرقة … رفع المتهم يديه و صاح :” لا تلوموني بل لوموا التناص”. وهكذا، يتبين لنا بأن الكاتب قد حمل مجموعته القصصية القصيرة جدا رسالة سياسية واقعية انتقادية ، ولكنه في الوقت نفسه، اهتم بالتشخيص الذاتي من جهة، ووظف التشخيص الميتاسردي من جهة أخرى. D فنيات التشخيص وجمالياته: تتسم مجموعة نورالدين كرماط (لاوجود لقبلة يتيمة) باستعمال الحجم القصصي القصير جدا، حيث تتراوح قصصه بين جملة واحدة :” حينما قرر أخيرا ً المغامرة في البورصة… وجد أن جيوبه ثقبتها مواخير ماربيا. “، ونصف صفحة:” قبل موعد الزفاف بشهرين . أخبرته برغبتها في العمل . قالت:أريد العمل في (التيليبوتيك)… قال : كم ستجنين في هذين الشهرين ؟ قالت : ألفا و مائتي درهم. رغم كذبها الواضح. وعدها بأن يمنحها ألفي درهم ، على أن تمكث في بيت والديها مصونة من النظرات محفوظة من اللمسات. وضع المال فوق المنضدة ، ولما انطلقت الحافلة تذكره. نزل فقصد أقرب مصرف سحب المال.. دفأ يديها الخشنتين بالوريقات الزرقاء. وكز الشيطان أمها ،فوصفته بالبخيل ،و أخبرت سكان الحي :”لم يرأف جيبه الشتيم على العروس حتى بثمن الحمام.” ومن ثم، تعتمد قصصه غالبا على مقومات التحبيك السردي ، من بداية وعقدة وانفراج، مع تنويع البدايات والخواتم والأجساد السردية ، بالإضافة إلى تشغيل الجمل الفعلية على مستوى تركيب الجملة القصصية تتابعا وتراكبا وتعاقبا:” حمل اللص كل ما يلمع في كيسه . لما هم بالخروج . سمع صوتا نسويا يتهادى من غرفة النوم في دلع . نظر من ثقب الباب ،فاكتشف أن جوهرته تلمع أكثر بين يدي جاره صديق العمر.” ولا ننسى أن الكاتب يوظف خاصيات أسلوبية كثيرة، مثل: التكثيف والحذف والإضمار والاختزال من خلال تشغيل نقطتي الحذف الإبداعية (..)، لدفع المتلقي إلى تشغيل التخييل والتأويل والتصور:” أردوا وأد ثورة الجياع . صاح المذيع الأراكوز: رغيف العيش بخمسة قروش .. منة المجلس العسكري عليكم يا جحاد.. يا كفرة.. قالت آمنا :هكذا أوصى سيدنا الربيع العربي طيب الله ثراه ..” وأكثر من هذا، يهتم الكاتب بالتقطيع الأيقوني والبصري تأشيرا على بعض الكلمات البؤرية ، والتشديد على تلفظها السيميائي والخطابي، كما يبدو واضحا في هذه القصة التي شدد فيها الكاتب على كلمة (الإرهاب) لتصوير فظاعته، وتبيان نتائجه الدموية الفظيعة:” أوقف سيارته بسرعة مرعبة.ثم انطلق بعدها كريح تتهيأ للعصف . تلاحقه صاحبته،و الهلع يتطاير من مقلتيها .أشار إليها بالتراجع ،فلم تعره اهتماما. خلف ركام من تراب وجدته يفجر غ ا ز ا ته… ا لإ ر ها ب ية.” كما تتميز قصص الكاتب ببلاغة التشخيص والأنسنة والتجسيد، حينما يضفي الحياة على الجماد نبضا وإحساسا وشعورا، كما يبدو ذلك جليا في قصة (ديمقراطية):” لما احتجت سنابل المدينة الفتية . استولت على الشوارع و الساحات ، غضب الرعاة، فأخرجوا مناجلهم.” وتنماز قصصه أيضا ببلاغة السخرية اللاذعة الحادة، كما في هذه القصة التي يسخر فيها الكاتب من عالم الانتخابات المزيفة:” يصيح في بوقه وسط موج بشري مسلوخ بين عتبات السوق الأسبوعي: صوت صوت على حزب الندامة… صوتك مقابل حبة الفهامة الساخنة،أعدك بذكاء حاد في الحين. (هاك و را” ) أقسم و في الحين. تهافتت عليه الأخشاب المسندة ،فنفدت بضاعته. يلقي أحد البائعين حبة في كرشه : أخخخخ فيها مذاق الخر…….تفووووو هاه ،ألم أقل لك في حينه.” وتمتاز قصصه كذلك بخاصية التناقض والمفارقة الصارخة كما في هذه القصة:” صرخ في وجهها ، أنا رجل البيت و الآمر الناهي ،أتعلمين بأن مدير الشركة يخشاني ، فجأة رن جرس المنزل . قالت الخادمة:سيدي ، المدير يريدك ” فأحس بماء دافئ يبلل سرواله.” هذا، وقد يلتجىء الكاتب إلى استعمال الرمز السياسي والعبارات الموحية لتوصيل رسائله المباشرة وغير المباشرة :” أمر وليد المعلم راقصته أن تكتب على السبورة: ( يحب الطبيب العربي الربيع ) و هو واقف على النطع،و السيف في يده . سأل الأطفال .. أين الفاعل يا شطار؟ ثم أشار بسيفه إلى صورة البطة الباهتة على الحائط.. صرخوا بقوة مزلزلة :”الشعب.. الشعب.. الشعب.” زد على ذلك، يوظف الكاتب في قصصه القصيرة جدا التعالقات التناصية، والحوار التفاعلي، والمستنسخات الفكرية، مثل: إلزا، وإنشتاين… :” لمحت “إلزا” ظل القاتل المأجور في حديقتها … فعاش إنشتاين ست وسبعين سنة.” هذا، ويتأرجح الكاتب بين لغة تشخيصية واقعية تقريرية من ناحية، ولغة رمزية من ناحية أخرى. وفي الوقت نفسه، يشغل لغة تراثية بعبارات سردية موروثة تأصيلا وتأسيسا وتجريبا:” في و سط ساحة (جامع الفنا). قال الراوي هلو بن عقروب : …ولما انغرس سيخ عرس الزين المنفوش كالطاووس في عرف طاووسه المنفوش. لم يشف غليل ندم شيخ القبيلة، بصاق الزين في ساق وجه الطاووس ،فانغم نغم العريس بالذم لانعدام قطرات الدم.” وعليه، فالكاتب نورالدين كرماط يتراوح بين الذاتي والواقعي والميتاسردي على المستوى الدلالي. في حين، يشغل فنيا وجماليا بلاغة السخرية والمفارقة والتعريض الكاريكاتوري لانتقاد الأوضاع العربية المرتدية . تركيب: وخلاصة القول: يتميز نور الدين كرماط بانضمامه إلى زمرة كتاب القصة القصيرة جدا بالمغرب ، بعد نشر هذه الأضمومة السياسية الأولى ( لاوجود لقبلة يتيمة)، والتي تحمل في طياتها رؤية للعالم قوامها النقد الساخر الهادف والبناء لمختلف الأوضاع التي يعرفها الواقع العربي المتردي. كما يناقش فيها الكاتب مختلف القضايا الشائكة التي يعرفها الواقع العربي شرقا وغربا، وذلك سياسيا، واجتماعيا، واقتصاديا، وثقافيا، وتارخيا، وحضاريا، ودينيا. ومن ثم، يركز الكاتب في مجموعته القصصية القصيرة جدا على أنواع ثلاثة من التشخيص الدلالي: التشخيص الذاتي، والتشخيص الواقعي، والتشخيص الميتاسردي. ومن جهة أخرى، يستعمل الكاتب آليات فنية وجمالية متنوعة ومختلفة لتقوية عمله إبداعيا ، وتجويده كتابة ورؤية وكلاما، كاستخدام الكتابة التراثية، وتوظيف لغة الترميز والإيحاء، واستعمال الجمل الفعلية، والاعتماد على الحجم القصير جدا ، والاستعانة بالنفس القصصي السردي القصير جدا بحبكته القائمة على البداية والعقدة والانفراج، وتنويع البدايات والأجساد والخواتم، علاوة على استعمال السخرية، والمفارقة، والتناص، والترميز، والتشخيص… 1 – نور الدين كرماط: لاوجود لقبلة يتيمة، قصص قصيرة جدا، مطبعة رباط نيت، المغرب، الطبعة الأولى سنة 2013م. 2 – جمال الدين الخضيري: فقاقيع، قصص قصيرة جدا، التنوخي للطباعة والنشر والتوزيع، الرباط، المغرب، الطبعة الأولى سنة 2010م، ص:8.