من حظ القصة القصيرة جدا في بلادنا أنها حظيت بنقاد متميزين ومتحمسين، يعايشون التجربة الوليدة ويترصدون كل جديد فيها، وكأني بهم يشكلون الجناح الثاني لهذا الجنس الوليد، الذي لا يستطيع التحليق بدونه، ومما يثير الإعجاب لدى هذه الكوكبة من النقاد أنها تتميز بانفتاحها الواسع والمثمر على كل ما يكتبه المبدعون دون تمييز أو إقصاء، بمعنى أن اختياراتهم لا تحكمها مقاييس غير أدبية، كما كان عليها الحال إلى وقت قريب لدى نقاد يعرفهم الجميع، ومن حسن الحظ أن القصة القصيرة جدا لم تغريهم بالتعاطي معها لأسباب عدة أهمها أن هذا الجنس في اعتقادهم “هامشي” فلم ينل عندهم بعد الحظوة اللازمة، وخيرا فعلوا بابتعادهم عن قرة أعيننا: القصة القصيرة جدا، حتى لا يجهضوا هذا الحلم الوليد الذي يترعرع بعيدا عن قبح المؤسسة النقدية العتيقة.. ومن بين نقادنا الألمعيين الدكتور جميل حمداوي، الذي يعود إليه الكثير من الفضل في التعريف بجنس القصة القصيرة جدا والترويج له ومساندته وتوجيه خطواته في طريقه الصعب نحو إثبات الذات ضمن عائلة الأجناس الأدبية العتيدة.. وإذا كنت أعترف منذ البداية بأن مقالا من هذا النوع لا يمكنه بأي حال من الأحوال أن يوفي حمداوي حقه بحكم تعدد كتاباته وتشعبها، فإنني أطمح على الأقل إلى تسليط الضوء على أحد كتبه الذي قرأته مؤخرا، لعل ذلك يكون ردا لبعض الدين، الذي أشعر به ككاتب قصة قصيرة جدا في ذمتي، تجاه هذا الناقد المتميز… وسأحاول في هذا المقال أن أقف عند مصنف ضخم للكاتب وسمه ب” ” من أجل تقنية جديدة لنقد القصة القصيرة جدا “المقاربة الميكروسردية ” الذي يقع في 380 صفحة من الحجم الكبير، وهو يعد بحق تحفة حمداوي النقدية، وقد خصصه الكاتب للدفاع عن مشروعه الطموح المتجلي في تأسيس منهجية جديدة تلائم فن القصة القصيرة جدا بعيدا عن استنساخ المناهج العربية والغربية، أو استدعاء مناهج خاصة بأجناس أدبية أخرى لتطبيقها على القصة القصيرة جدا.. لقد رفع جميل حمداوي التحدي في كتابه هذا من خلال وضع اللمسات التفصيلية لمنهجيته التي يقترحها، ولم يكتف بذلك بل جاول تطبيقها على النصوص كذلك. افتتح الناقد كتابه هذا بمدخل حول القصة القصيرة جدا مركزا على تعريفها وتاريخها وو فنياتها، ثم توقف في التفاتة كريمة ودالة تعترف بمجهود زملائه النقاد العرب والمغاربة في فصول طويلة، فتناول بالعرض والتحليل والمناقشة كتب كل من: - أحمد جاسم الحسين. - يوسف حطيني. - جاسم خلف الياس - هيثم بنهام بردى - عبدالدائم السلامي. - عبدالعاطي الزياني. - سعاد مسكن. ليصل بعد ذلك إلى مربط الفرس في هذا المصنف النقدي الفارق، وأقصد بذلك “المقاربة الميكروسردية” فينبري الكاتب بكثير من الجهد والطموح لتشريح المنهجية المقترحة وتقديمها في شموليتها وتفاصيلها الدقيقة، إذ يخصص الفصل الأول من القسم الأول من الكتاب لأركان القصة القصيرة جدا، فيناقش المعيار الطبوغرافي الذي يعني به” كل ما يتعلق بتنظيم الصفحة تبييضا وتسويدا ن وكل ما تحتويه من مؤشرات أيقونية وبصرية وعلامات سيميائية وتشكيلية” ولتفصيل القول في هذا المعيار يهتم الناقد في المبحث الأول بمقاييس القصر والترقيم والتنوع الفضائي، فيما ينبري في المبحث الثاني لتحديد المعيار السردي ويجزئه إلى مقاييس التركيز والتنكير والتنكيت والتلغيز والاقتضاب والتكثيف والإضمار والحذف. أما المبحث الثالث فخصصه الناقد لمعيار القراءة والتقبل، والذي يتحقق عبر مجموعة من العمليات التفاعلية كالإدهاش والإبهار والإرباك والمفاجأة والحيرة الدلالية والتركيز على الوقع الجمالي والتحكم في المسافة الجمالية، مع مراعاة أفق التلقي، وتخييبه، وتأسيسه من جديد”. ويفصل الناقد الحديث في هذا المعيار من خلال مقاييس المفاجأة والإدهاش. أما المبحث الرابع الذي وسمه الناقد بالمعيار التركيبي، فتوقف فيه عند مقاييس الجملة البسيطة والفعلية والتراكيب والتسريع والتناغم الداخلي، وفي المبحث الخامس أفاض الناقد القول في المعيار المعماري من قبيل البداية القصصية والجسد القصصي والقفلة القصصية. كما تحدث في الفصل السادس عن المعيار البلاغي وتناوله من خلال مقاييس الصورة الومضة والمفارقة والسخرية. في الفصل الثاني من الكتاب توقف الكاتب عند شروط القصة القصيرة جدا وسماتها الخارجية، وتناول فيه المعيار المناصي من قبيل مقاييس العنونة والانفتاح التجنيسي، كما ركز على المعيار التفاعلي من خلال مقياس التناص، في حين تناول في المعيار الدلالي مقاييس الأنسنة والترميز والانزياح والفنطاستيك والإيحاء والغموض. وتناول الناقد معيار التخطيب من خلال مقاييس الأسلبة والتبئير السردي والالتفات، أما المعيار الدلالي فبحث فيه مقاييس التشخيص الذاتي والموضوعي والتشخيص الميتاسردي والجرأة. بعد هذا المجهود الكبير في تقديم منهجيته خصص الكاتب الفصل الثالث للمصطلحات النقدية الخاصة بالقصة القصيرة جدا، فيما انصب الفصل الرابع على عوائق القصة القصيرة جدا وهمومها ومشاكلها، فتناول العوائق أولا وحددها في الإسهاب في الأحداث وغياب التكثيف وغياب القصصية أو الحكائية والتكرار والتطويل وهيمنة البعد الشاعري والسقوط في الخواطر والإكثار من الوصف واستخدام الجمل الإسمية والكتابة في ضوء النفس القصصي والروائي والوقوع في الموعظة وهيمنة التنكيث وغير ذلك من العيوب، التي يرتكبها بعض كتاب القصة القصيرة جدا. أما هموم القصة القصيرة جدا فحددها الناقد في الاستسهال وعدم الوعي بالتجربة والأدلجة والتسييس. أما القسم الثاني من الكتاب فهيمن عليه المستوى التطبيقي، ففي فصله الأول تناول الناقد قصص جمال الدين الخضيري، وفي الفصل الثاني انصب بحثه التطبيقي على االبداية والعقدة والنهاية في القصة القصيرة جدا، فدرس أنواع البدايات وأنواع النهايات مثلا من خلال النصوص. في حين خصص الفصل الموالي لمميزات الكتابة النسائية في القصة القصيرة جدا على ضوء المقاربة الميكرو سردية وتناول فيه مجاميع كل من: - فاطمة بوزيان. - وفاء الحمري - السعدية باحدة - الزهرة رميج. - مليكة بويطة. وختم الناقد كتبه بخاتمة وسمها ب “القصة القصيرة جدا فن المستقبل” بما يشي بالتعاطف الكبير للناقد مع هذا الجنس القصصي الجميل، ومن حسنات هذا الكتاب الضخم أنه يزخر بكم كبير من النصوص يمثل حساسيات مختلفة لدى كتاب القصة القصيرة جدا. وإن كان التاريخ القريب سيدلي بقوله الفصل في هذه المنهجية المقترحة إما بتزكيتها أو رفضها، فإن هذا التاريخ لا ريب سيسجل للدكتور جميل حمداوي هذه المغامرة الجميلة والطموحة لتأسيس منهجية خاصة بالقصة القصيرة جدا، متماهيا – في مغامرته هاته- مع النفس الإبداعي المتجدد لمبدعينا، الذين لم يركنوا أبدا إلى ما هو متداول، بل سعوا دائما عبر تجريبهم وتجريبيتهم إلى اقتحام عوالم المجهول، والقصة القصيرة جدا في آخر المطاف ليست سوى تعبير قوي عن مغامرة تجريبية نتمنى أن تكون محمودة العواقب. No related posts. شارك هذا الموضوع مع أصدقائك Tweet