أصدر الكاتب والمترجم المغربي فريد الزاهي، ترجمةً لكتاب الفيلسوف الفرنسيي دومونتيني، " المقالات" (LES ESSAIS de Montaigne)، حيث نقله إلى اللغة العربية بعد سنوات من الاشتغال. موقع القناة الثانية، حاور الكاتب ضمن فقرة "ثلاثة أسئلة"، للحديث عن أهمية المؤلّف بالنسبة له على المستويين الذاتي والمهني، وعن أهمية فكر الفيلسوف الفرنسي ومدى راهنيته. ما الذي يمثله لك صدور ترجمتك لكتاب "المقالات" لميشيل دي مونتيي، خصوصاً وأنك اعتبرته تتويجاً لمسارك في الترجمة؟ لقد وقع عليَّ الاختيار لترجمة المقالات لمشيل مونتيني من قبل المسؤولة عن منصة معنى. وبذلك فأنا أشاطر هذه السيدة هذا العمل، فهي التي كانت وراءه. وصدور الترجمة، التي استمر العمل فيها لما يقارب الثلاث سنوات هو استجابة منا معا لضرورة تاريخية تتمثل في جعل أحد المفكرين المؤسسين لعصر الأنوار يدخل الثقافة العربية من بابها الواسع. فأنت مثلا لا تجد مفكرا عربيا يكتب بلغة أجنبية، من قبيل عبد الكبير الخطيبي وإدوارد سعيد وغيرهما، لا يجعله من مرجعياته. أما في الفكر العربي المكتوب بلغة الضاد، فإن هذا المفكر شبه غائب أو إن حضوره باهت وشاحب، مع أن توهجه استمر في كتابات أغلب المفكرين اللاحقين عليه، من قبيل جان جاك روسو، ومونتسكيو، وفولتير ونيتشه... لماذا اعتبرت نقل هذا المؤلف إلى اللغة العربية بمثابة "الرهان" بالنسبة لك، وما هو هذا الرهان؟ إنه رهان ذاتي وثقافي لي كمترجم من ناحيتين: فقد تنطعتُ منذ سنوات لترجمة كتاب ظل الباحثون العرب في التصوف يحيلون إليه في أصله الفرنسي وصيغته الألمانية هو كتاب "الخيال الخلاق في تصوف ابن عربي" لهنري كوربان. ولقد ظهر الكتاب في 1958 ولم يصدر في ترجمته العربية إلا في 2009. وأنا أقول تنطعت، لأنه كتاب عسير متمنّع على الترجمة وزخْم. قبل هذه الترجمة المغامِرة، نقلت قبله للعربية كتاب "السحر والدين" لإدمون دوتي، وهو كتاب أنثربولوجي مرجعي في هذا الأمر، كان قد صدر في 1909 ! المترجم بهذا المعنى يشكل محركا للذاكرة اليقظة للثقافة العربية. فهو الذي يحس بنواقصها وأغوارها المظلمة. كما أنه هو الذي يساهم بشكل كبير في التنبيه للجديد الجديد وللقديم الجديد.
ومن ناحية أخرى، وكما كان كتاب كوربان رهانا لي، اعتبرت أن ترجمة "المقالات" رهان مزدوج، لصعوبته والتباساته وكثرة مراجعه الرومانية واليونانية، وعلاقته الوطيدة والتاريخية بالقرن السادس عشر، ولغته المواربة والمخاتلة والساخرة... كما لضخامته (ثلاثة مجلدات وأكثر من 1600 صفحة). وهو أمر لم أقم به قطُّ من قبل في حياتي. وفي الحقيقة، فما هو رهان للمترجم، هو بشكل ما رهان هام لثقافته. وقد عشت لحظات من هذا الرهان من قبل في ترجماتي لدريدا وأسلوبه المركب، والخطيبي وانطلاقاته الفكرية المتشابكة، وريجيس دوبري وتحليلاته الشبكية... أين تكمن أهمية الترجمة الجديدة لهذا المؤلف، على مستوى إغناء الخزانة العربية وما مدى راهنية أفكاره؟ ولم تأخر نقله إلى العربية علما أن تاريخ صدوره يعود للقرن 16؟ لقد حان الوقت لإنجاز هذا العمل، حتى لا أقول إننا متأخرون عن هذا الموعد بعشرات السنين. ولا أدل على ذلك من أن مفكرا من قبيل عبد الله العروي قد بادر إلى ترجمة مؤلفات لمونتسكيو وجان جاك روسو، كما ترجم عبد السلام الشدادي الكتابات السياسية لجان جاك روسو واعتبرها مدخلا لتحديث السياسة في العالم العربي، وأعادت المنظمة العربية للترجمة إصدار كتاب "روح الشرائع" لمونتسكيو، الذي ترجمه للعربية في خمسينيات القرن الماضي عادل زعيتر وأنطوان نخلة قازان. إنها وقفة للمترجم والمفكر العربي لإعادة ترتيب الأولويات في الترجمة، واستعادة فكر الأنوار الذي يبدو أننا أخطأنا الموعد معه أو عبرناه عبور الكرام في مسيرتنا الفكرية والثقافية الحديثة منذ "نهضتنا" الموؤودة. الأمر لا يتعلق بإغناء المكتبة العربية، كما يحلو القول، إلا إذا اعتبرنا ذلك مجازا. الأمر يتعلق أكثر، كما ألح على ذلك العروي والشدادي، بإخصاب الفكر. فبما أننا لم نحقق نهضتنا ولا عصر أنوارنا فإن مؤلفين من قبيل مونتيني ومونتسكيو وروسو، رغم تجاوز الفكر الفلسفي والسياسي لهم منذ زمن بعيد، مؤلفون لا زالت راهنيتهم قائمة. فالمترجم وهو يُصدر كتابا لأحد هؤلاء، كأنه يدعو لإعادة تأسيس الفكر السياسي والفلسفي والثقافي العربي على أسس جديدة، وسد الثغرات التي تركناها وراءنا وإعادة النظر في فكرنا وثقافتنا من جديد على أسس جديدة. فلا يمكن لفكر جديد أن ينبني فقط على القطيعة وإنما أيضا على إعادة قراءة السابقين وتحديث فكرهم. والاحتفاء الكبير الذي قابلني به الأصدقاء بصدور هذه الترجمة يعبر بشكل ما على تلك الفجوة التي تركها غياب مونتيني في لغة الضاد لأكثر من قرن من الزمان...