تواضع العلماء، موسوعية النهل المعرفي، النظر العلمي النافع، ومميزات أخرى، لصيقة بهرم علمي محلي وإقليمي (عربي وإسلامي): عبد الله العروي. عبد الله العروي رجل الفكر والتأريخ والرواية، ولو إنه يرفض أن يوصف بأنه مفكر، ولا حتى بالفيلسوف، من فرط تواضعه من جهة، ومن فرط ابتعاده عن الشكليات في ظاهرة توزيع الألقاب، وخاصة بين أتباع الإيديولوجية ذاتها، أو بين إيديولوجيات متباينة، لاعتبارات مصلحية أو إيديولوجية أو شيء من هذا القبيل، والملاحظ أنه مقابل الجهد الفكري التركيبي الذي بنته نصوص العروي، ومقابل اختياراته الحديثة المندفعة نحو المستقبل، والساعية لتخطي أوضاع التأخر وإعادة بناء الذات، مقابل كل ذلك، يواجه المفكر انكفاءً وتراجعاً في المستوى السياسي وفي المستويات الفكرية العامة، في الساحة العربية بشكل عام، وهذا مؤشر آخر من مؤشرات الرداءة التي تعج بها الساحة خلال العقود الأخيرة. على صعيد آخر، لا يمكن الزعم أن الحديث عن عبد الله العروي، يمكن أن تلخصه مقالة ولا حتى دراسة، من فرط ثقله العلمي في المنطقة، وليس في المغرب وحسب، ومن فرط أعماله التي جعلته يحتل مقام الريادة المعرفية طيلة عقود، إلى جانب أعلام أخرى، ومن فرط ما كُتب عنه، هنا وهناك، وبالتالي، هذه مجرد إشارات، تروم الانتصار للقليلة من ثقافة الاعتراف، لا أقل ولا أكثر؛ أما الحديث التفصيلي، أو شبه التفصيلي عن العروي، فهذا مقامه المؤتمرات والندوات، وبالتالي، هذه مقالة أولية، ضمن مقالات ودراسات قادمة في الطريق. ومن يرغب في التعرف الأولي على أعمال الرجل، فعليه بخيار من اثنين، إما قراءتها مباشرة، دون أي وساطة، وإما قراءة ما كتب عنه وهناك، وبالتحديد من الأسماء البحثية التي تتبعت مساره العلمي منذ عقود، وليس من الأقلام البحثية التي لديها حسابات إيديولوجية مع الرجل، فتتوقف عند أعماله، من باب الاختزال والتبخيس، إن لم يكن من باب الشيطنة وما يُشبه "التكفير المعرفي"، كما عاينا ذلك مراراً في عدة أعمال، وخاصة في بعض الأعمال التي تنخرط في مقارنة أعمال الرجل بأعمال أخرى. وضمن الأسماء المرجعية التي يعود لها الفضل في التعريف بأعمال العروي، نذكر على الخصوص، كمال عبد اللطيف، صاحب عدة مؤلفات في هذا السياق، لعل أهمها كتابه "درس العروي" الذي صدر في طبعتين على الأقل، والذي نستلهم منه بعض الإشارات في هذه المقالة الأولية كما سلف الذكر. بإقرار العروي ذاته، فإنه يمكن حصر أهم مجالات تأليفه في أربعة محاور: الإيديولوجيا، البحث التاريخي، التأصيل، التعريف، كما نقرأ في كتاب "هكذا تكلم العروي"، وإن كان يُقرّ أيضاً أن الاشتغال على نقد الإيديولوجيا يُجسد 90 في المائة مما كتب عن أعماله، ولكن، إجمالاً، في مجال التأليف الفكري بالتحديد، عندما نذكر العروي، فإننا نستحضر بشكل تلقائي، مجموعة من المفاهيم والقضايا التي اشتغل عليها صاحب "الإيديولوجيا العربية المعاصرة"، ومنها، على سبيل المثال لا الحصر: التاريخ والتقليد، الخصوصية والأصالة، التأخر والتاريخانية، تحديث المجتمع العربي، وهو الذي قام بإعادة تركيب بعض إشكالات الفكر الفلسفي المغربي والمغاربي، عبر خوضه معركة معرفية، تفرعت على عدة محطات، منها معركة نقد نزعات التوفيق والانتقاء القديم منها والمستجد، ومن سوء حظ العروي، والتقييم هذه المرة لكمال عبد اللطيف، أن أعماله "لم تنل ما تستحق من الاهتمام، رغم قيمتها النظرية والتاريخية، وإذا كان الرجل قد ظل حريصاً على الحضور الفكري المتميز باختياراته الكبرى في الدفاع عن الحداثة والتاريخ في المجال السياسي، وسعيه لبلورة رؤية عقلانية في المجال الفكري، فإن منجزاته النظرية لم تقابل بالمتابعة والجدل الذي يُكافئ جدة وقوة هذه المنجزات". كتاب هكذا تكلم عبد الله العروي، هو الأصل، تجميع لمساهمات نشرت في أحد أعداد مجلة "النهضة" المغربية، وهو عدد احتفالي بأعمال العروي، ويندرج في باب تكريس ثقافة الاعتراف، وتميز بمشاركة الأسماء التالية: عبد الإله بلقزيز، أنطوان سيف، الفضل شلق، محمد نورالدين أفاية، محمد المصباحي، عبد المجيد القدوري، محمد سبيلا، نبيل فازيو، يونس رزين. في مضامين العدد 17 لمجلة "أفكار" (عدد يونيو 2017)، اعتبر الباحث يحيى بن الوليد أن "عمل "الإيديولوجيا العربية المعاصرة" تعييناً وهو العمل الذي كان في أساس انتشار اسم العروي وتداوله في العالم العربي على نطاق واسع، بالرغم مما اعتور ترجمته من "أخطاء" (بتعبير العروي نفسه) من الأعمال التي لا تكتفي ب"التعبير عن المرحلة" فقط؛ إضافة إلى أنها ليست من النوع الذي يظهر في سياق ويرحل برحيل السياق نفسه أو حتى قبل رحيله. وهو ما ينطبق، من وجهة نظرنا، على أغلب أعمال العروي، فنحن أمام مشروع فكري تزداد أهميته بالنظر للخرائب المتزايدة في العالم العربي كله، تاريخاً ومجتمعاً وسياسة. يضعنا مشروع العروي مباشرة أمام تجربة في الفكر لا تخاصم العالم باسم ذات منقوصة قسراً أو عدواناً أو بفعل عوامل موضوعية، فالتوجه التاريخي والحداثي لفكره جعله يتجاوز الثنائيات المهيمنة على فضاء الفكر العربي المعاصر، وذلك باختياره وحسمه في الاختيار، رغم وعيه بحدود اختياراته، ووعيه بالذات بتاريخيتها، لذلك، وفي سياق دفاعه عن الحداثة والفكر التاريخي، ينطلق العروي من ظاهرة التأخر التاريخي الشامل في المجتمعات العربية، داعياً إلى إنجاز مشروع في النقد الإيديولوجي بهدف إظهار فساد المنزع الثقافي السلفي، والنزعات الانتقائية التي تستند إلى مواد توفيقية دون مبالاة بمقتضيات الشروط التاريخية، التي تتطلب في الحالة العربية كثيراً من الجرأة والحسم. مما يُحسبُ للعروي أيضاً، شجاعة الإقرار ب"لزوم القطيعة"، وهي الدعوة/ الدعوى التي أسالت الكثير من مداد النقد في الساحة الثقافية العربية والإسلامية، وبيان ذلك، أن الرجل يفترض أن النزعة الانتقائية التوفيقية لا تسعف بتملك الذات في صيرورتها الجديدة، فهذه النزعة تخلط أوراق الأزمنة والعصور، وتجمع المتناقضات وتبني المفارقات دون أن تعي أن القطيعة اختيار تاريخي، وإنها ترتبط بعالم جديد، وتستند إلى أصول ومقدمات جديدة، وهو الأمر الذي ترتب عنه معطيات من بينها التفكير في إعادة بناء الذات، بالصورة التي تستجيب لروح المتغيرات الجارية، وتعمل على دمجها بروح يقظة ووعي تاريخي. إذا تركنا جانباً العروي المؤرخ والعروي الروائي، وتوقفنا فقط عند العروي المفكر، يمكن أن نتوقف عند عملين بارزين في هذا الصدد: "الإيديولوجية العربية المعاصرة" (1970)، و"مفهوم العقل، مقالة في المفارقات" (1996). صدر الأول بالفرنسية في غضون سنة 1967، سنة النكسة سيئة الذكر، قبل صدور ترجمته للعربية لاحقاً، ابتداءً من سنة 1970، (قبل صدور ترجمته الشخصية للعمل في غضون العام 1996) والثاني، صدر في إطار مشروع "المفاهيم" الذي اشتغل عليه العروي، وقد تضمن هذا العمل المرجعي للعروي، دعوة صريحة إلى إحداث قطيعة فعلية مع نوع من التعامل التكراري مع التراث، لأنه ينظر إلى التراث كما يقول من "منظور مكتسبات الفلسفة الغربية الحديثة"، ونتبيّن هنا في هذه الدعوة، نوعاً من محاورة العروي النقدية، وبصورة غير مباشرة لظاهرة الحركات الإسلامية، الدعوية والسياسية والقتالية، بما يُفيد أن أسئلة الحاضر تستدعي مزيداً من الدفاع عن الحداثة والتحديث، ومزيداً من الدفاع عن العقلانية والتاريخ، ذلك أن النجاح في هذا المسعى، يُشكل الوسيلة المساعدة على تخطي عنبة التأخر وولوج باب الحداثة المفتوح على مُمكنات الفعل التاريخي، خاصة أنه تجاوز نمطية الدعوة التغريبية كما تبلورت في الأدبيات السياسية العربية في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، ليتجه صوب مجال التأصيل الفكري. ومع كتابه "مفهوم العقل"، سوف تتضح معالم العدة المعرفية الرصينة لعبد الله العروي، بل نذهب إلى أن هذا العمل بالذات، من أهم أعمال العروي الفكرية. في ما يتعلق بأعمال العروي الأخيرة، فواضح أنها أكدت إصراره على مواصلة الدفاع عن مواقفه، سواء بمزيد من توضيحها أو بالبحث لها عن عناصر إسناد جديدة، تعزز قوتها ورجحانها النظريين، ونتبين ذلك في كتاب "السنة والإصلاح" (2008)، وكتاب "من ديوان السياسة" (2009)، أو في ترجمته إلى كتابي جان جاك روسو ومونتسكيو، وقد صدرا في مطلع العقد الثاني من الألفية الثالثة، إضافة إلى كتابه الأخير "سؤال المفاهيم" (545345)، مع دلالة إعلانه نية ترجمة أحد أعمال ابن خلدون، التي تشتغل على سؤال التصوف. [بخصوص كتابه "سنة الإصلاح"، فالعمل في الواقع، عبارة عن مراسلة وعن تساؤلات سيدة أجنبية سئلت العروي عن منظوره للإسلام، حيث يقدم العروي في جوابه للسيدة منظوره الشخصي للإسلام فاتحاً الأبواب لحرية التفكير معتمداً على منهجه التاريخاني] طرحت العديد من الأسئلة حول صاحب "الإيديولوجية العربية المعاصرة" لترجمة ثلاثة كتب مترجمة، وهي: "تأملات في تاريخ الرومان: أسباب النهوض والانحطاط" (2011) لمونتسكيو، و"دين الفطرة" (2012) لجان جاك روسو، و"شيخ الجماعة" (2013) لهنري دي مونترلان. (العمل الأول يُصنف في خانة التاريخ، والثاني في الفكر، بينما العمل الثاني يهم حقل الأدب)؛ بل وصل الأمر إلى ما يُشبه ممارسة الوصاية على العروي بخصوص مقاصد هذه الترجمة، بمقتضى أنها "لا تخضع لمنهج علمي خالص" [كذا]، دون الحديث عن موجهة التهكم ضد ترجمة "دين الفطرة"، كما صدرت عن بعض الباحثين الذين يراهنون على "أسلمة الفلسفة". لا مجال للتراجع في نظر العروي عن مطلب القطيعة، لأنه يُدرك بحكم تكوينه التاريخي حصول القطيعة المادية الملموسة التي يعكسها تطور مظاهر المجتمع وتطور مؤسساته. لكنه يقرأ في الانقطاعات المادية والمجتمعية الحاصلة صورة الفعل التاريخي المنقوص والمثغور، حيث لا يمكن حصول القطيعة الشاملة، والطفرة النوعية، والثورة الكبرى إلا بإسناد وعي فاعل وقادر على الحد من التراجعات والانكفاءات المحتملة الحصول، بفعل هشاشة مظاهر الحداثة ورهافتها، بتعبير كمال عبد اللطيف. أعلن العروي موقفه بوضوح، "وضع المستقبل صوب عينيه، وأدرك أن مغالبة التأخر والانتصار عليه، يتطلب الشجاعة الكافية في الإقرار بالاختيارات الأكثر تاريخية والأكثر مستقبلية. واندفع يؤسس لأسس ثقافة الحداثة دون تردد، لم يقبل مبدأ سجن الذات في أصالة متوهمة أو خصوصية متوحشة، مثلما رفض التخندق ضد الغرب وبصورة مطلقة، مقدماً صورة للمثقف الجذري في مجال الفكر العربي المعاصر".