لعلي لست بحاجة لأن أنوه إلى أن المعسكر المذكور ليس حسن السمعة السياسية، لأنه ببساطة يضم الدول الموالية أو الداخلة في الفلك الأميركي والإسرائيلي. وتلك المعادية للمقاومة الفلسطينية والمتساهلة في مسألة الاستقلال الوطني والمخاصمة لإيران والمستهجنة لفكرة وحدة الأمة العربية. وأرجو أن تكون قد لاحظت أنني أتساءل ولا أقرر، حيث لا أريد أن أقول إن عودة الدور المصري في إطار ذلك المحور حاصلة حتما، وإنما فقط أطرحها باعتبارها احتمالا بات واردا. كما أنني لا أريد أن يفهم أن مصر في عهد محمد مرسي خرجت من المعسكر المذكور، لأنني أزعم أنها ظلت في إطاره ولم تغادره. ولعل البعض يذكر أنني كتبت أثناء حكم الرئيس المصري محمد مرسي منوها إلى أن السياسة الخارجية لمصر لا يزال يديرها الرئيس الأسبق حسني مبارك، حيث لم يتغير فيها شيء جوهري، على الأقل فيما يخص التعامل مع الولاياتالمتحدة الأميركية وإسرائيل، إذ إن الأداء في مواجهة هذين البلدين ظل كما كان عليه قبل الثورة، حتى الموقف إزاء قطاع غزة ظل في جوهره كما هو، وإن طرأت عليه تحسينات بسيطة أدت إلى كسر الحصار السياسي إلى حد ما. إلا أن معبر رفح لا يزال عنصر ضغط على الفلسطينيين. كما أن الأنفاق التي تعد شريان الحياة الاقتصادية للقطاع ظلت تدمر أولا بأول. وفي الوقت ذاته فإن الاتصالات الأمنية بين الطرفين المصري والإسرائيلي ظلت على حالها. صحيح أن محمد مرسي حاول تغيير الصورة التقليدية والموروثة للسياسة الخارجية من خلال الاهتمام بأفريقيا وزيارة الصين وروسيا والبرازيل والهند، كما فتح خطا للتواصل مع إيران، إلا أن تلك المحاولات لم تحدث تغييرا ملموسا في سياسة مصر الخارجية. وإنما كان فيها من توجيه الإشارات والتعبير عن النوايا أكثر مما فيها من التعبير عن استلهام روح الثورة المصرية ومقاصدها.
بوسع أي أحد أن يقول إن محمد مرسي أمضى سنة واحدة في منصبه، وهي فترة قصيرة ومحدودة نسبيا، وأنه كان يركز على إنقاذ ما يمكن إنقاذه في الداخل الأمر الذي لم يعطه فرصة كافية للاهتمام بالخارج. وقد يبرر آخرون موقفه بأنه كان مكبلا بارتباطات وتعهدات نظامي مبارك والسادات التي قدمها للأميركيين والإسرائيليين، الأمر الذى قيده وأضعف حركته. ولا أستبعد أن يضيف البعض إلى ما سبق أن حسابات الدكتور مرسي كانت مخطئة. كل ذلك وارد، ولكنه يوصلنا إلى ذات النتيجة التي ذكرتها، وهي أن مصر في عهده لم تغادر مربع الاعتدال. فكل ما فعله أنه جمَّد ذلك الدور ولم يقم بتنشيطه. يؤيد ذلك أن إسرائيل التي لم تكن سعيدة به بسبب موقفه من حماس وقطاع غزة وبعض تحركاته الأخرى، لم تكن منزعجة منه أيضا. حتى إن صحيفة هآرتس نشرت في اليوم التالي لعزله (يوم 4 يوليو/تموز 2013) تحليلا ذكر أن إسرائيل ستذكر له أربع إيجابيات هي: التزامه بمعاهدة كامب ديفد، إسهامه في التوصل إلى اتفاق لتجنيب إسرائيل صواريخ حماس، هدم الأنفاق، انخراطه في الاصطفاف إلى جانب السنة في مواجهة الشيعة. (2) يوم السبت الماضي (13 يوليو/تموز 2013)، نشرت صحيفة "وول ستريت جورنال" الأميركية تقريرا كان عنوانه "الدولة العميقة تعود إلى مصر مرة أخرى". تضمن التقرير الذي لم يكذبه أحد تفاصيل كثيرة حول اجتماعات عقدها ممثلون عن جبهة الإنقاذ وشخصيات أخرى معارضة مع بعض العسكريين، وحول دور رجال النظام السابق في دعم حركة "تمرد" ومساندة الدعوة إلى الخروج إلى الشوارع في مظاهرة 30 يونيو. وأعطى التقرير انطباعا مفاده أن حملة عزل الرئيس مرسي جمعت بين رموز المعارضة وبعض الجنرالات وممثلين عن حركة تمرد إضافة إلى عناصر مثلت الحزب الوطني. من المعلومات التي أوردها التقرير أن اجتماعات رموز المعارضة مع الجنرالات ظلت منتظمة منذ عدة أشهر، وكانت تتم في نادي ضباط البحرية بالقاهرة، وأن الجنرالات أبلغوهم بأن المعارضة إذا استطاعت تأمين عدد كاف من المتظاهرين في الشوارع فإن الجيش سيتدخل لعزل مرسي بشكل قسري. من تلك المعلومات أيضا أن أحد محامي أحمد عز رجل جمال مبارك السابق والقيادي في الحزب الوطني حضر بعض تلك الاجتماعات. ومنها كذلك أن نائبا سابقا عن الحزب الوطني في محافظة الشرقية كان أهم الداعمين لحملة تمرد في مدينة الزقازيق. أحذر من استسهال التعميم، لأن في مقدمة الذين خرجوا معارضين لمرسي يوم 30 يونيو/حزيران أناسا وطنيين كانوا خائفين على الثورة أو خائفين من الإخوان، لكن الذي لا شك فيه أيضا أن المشهد كله لم يكن بريئا لأن الأطراف التي تحدثت عنها الصحيفة الأميركية، خصوصا أركان النظام القديم وأعوانه وجدتها فرصة لتصفية حسابها مع الثورة ومع الإخوان. بموازاة ذلك يثير انتباهنا أن الدول الخليجية المنخرطة في معسكر الاعتدال، والتي كانت حليفة لمبارك ونظامه، سارعت إلى مد جسورها من النظام الجديد بعد ساعات قليلة من إعلان عزل محمد مرسي، في حين أن تلك الدول عمدت إلى مقاطعة القاهرة بعد ثورة 25 يناير وتحولت تلك المقاطعة إلى موقف معلن بعد انتخاب مرسي.وأذكر أن أحد حكام تلك الدول بعث برسالة إليه بعد انتخابه طالبه فيها بوضع حد للمليونيات التي تكرر احتشادها آنذاك في ميدان التحرير، وقال إنها تشجع الناس في بلاده على الخروج بدورهم إلى الشوارع ورفع أصوات الاحتجاج والغضب ضد نظامه. لقد تقاطرت تلك الوفود على القاهرة بعد عزل مرسي، معبرة عن تأييد النظام الجديد ودعمه. وخلال أيام قليلة قدمت إلى مصر نحو 12 مليار دولار، على الأقل في التصريحات التي صدرت. تحضرني في هذا السياق قصة سمعتها قبل ثلاثة أشهر من أحد المسؤولين في رئاسة الجمهورية، خلاصتها أن السيدة آن باترسون السفيرة الأميركية نقلت ذات مرة إلى الرئيس المصري رسالة تضمنت طلبات معينة موجهة من واشنطن، وهي تنقلها ذكرت أن من شأن الاستجابة لتلك الطلبات أن تشجع الدول الخليجية على توجيه بعض استثماراتها إلى مصر لحل أزمتها الاقتصادية، وكانت العبارة التي قيلت في هذا الصدد إن "مفاتيح خزائن الدول الخليجية بيد واشنطن". (3) كل ما سبق في كفة وحفاوة وتهليل إسرائيل لما جرى في مصر في كفة أخرى. ذلك أنني حين تتبعت أصداء الحدث هناك وقعت على ما يلي: - في 6 يوليو/تموز 2013 ذكرت الإذاعة العبرية أن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو اقترح على الأميركيين تنفيذ خطة "مارشال" اقتصادية جديدة لدعم العسكر في مصر، ولمنع تحقيق أية سياقات يمكن أن تعيد الإسلاميين إلى الحكم. - في 9 يوليو/تموز 2013، ذكرت صحيفة هآرتس على موقعها الإلكتروني نقلا عن موظف كبير في الإدارة الأميركية أن الحكومة الإسرائيلية توجهت من خلال عدة قنوات لمسؤولين كبار في واشنطن طالبة عدم المساس بالمعونات الأميركية للجيش المصري التي تقدر ب1.3 مليار دولار، لما قد يحله ذلك من تداعيات على أمن إسرائيل. وأضافت الصحيفة أن محادثات ماراثونية إسرائيلية أميركية، جرت نهاية الأسبوع السابق وتناولت ما حدث في مصر حيث كان هذا الموضوع مدار بحث في محادثة بين رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو ووزير الخارجية الأميركي جون كيري وفي محادثة أخرى بين وزير الأمن موشيه يعالون مع وزير الدفاع الأميركي تشاك هاغل، ومحادثة ثالثة بين مستشار الأمن القومي يعقوب عميدرور ونظيرته الأميركية سوزان رايس. -في اليوم ذاته (9 يوليو/تموز 2013) نشرت صحيفة إسرائيل اليوم مقالة للمفكر البارز بوعاز بسموت قال فيها "إن إسقاط مرسي يمثل نهاية للربيع العربي، وذلك يمثل تحولا إستراتيجيا يفوق في أهميته هزيمة مصر ونكستها في عام 1967". -في 7 يوليو/تموز 2013، نشر مركز بيغين- السادات للدراسات الإستراتيجية ورقة بحثية على موقعه الإلكتروني للبروفيسور هليل فريتش توصل فيها إلى خلاصة صاغها على النحو التالي: ما شهدته مصر بمثابة زلزال كبير. فقد عادت أرض النيل لديكتاتورية عسكرية على غرار ديكتاتورية مبارك، وانتهى الفصل الأخير من الثورة المصرية. -في 11 يوليو/تموز 2013، نشرت صحيفة هآرتس مقالة للمفكر الإسرائيلي أرييه شافيت قال فيها إن الأمر محسوم في إسرائيل ف"كلنا مع السيسي، كلنا مع الانقلاب العسكري، كلنا مع الجنرالات الحليقي اللحى، الذين تلقوا تعليمهم في الولاياتالمتحدة، ونحن نؤيد حقهم في إنهاء حكم زعيم منتخب وملتح". (4)
إضافة إلى ما سبق فإن كبار خبراء مركز أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي قدموا مجموعة من التوصيات إلى حكومتهم بشأن ما يجب أن تفعله لدعم الانقلاب. وقد ذكروا في تقديم تلك التوصيات أن هدف إسرائيل الرئيسي ليس فقط الحفاظ على علاقات سلام مع مصر في المرحلة المقبلة، بل تعميق تلك العلاقات، لأن المصلحة الإسرائيلية تتطلب تشكيل نظام علماني ليبرالي ذي فاعلية في مصر، لا تمنعه قيود أيديولوجية من مواجهة العناصر المتطرفة. توصيات أولئك الخبراء -ومعظمهم من الجنرالات المتقاعدين- أوردها المركز المذكور على موقعه في 11 يوليو/تموز 2013، ومن أهمها ما يلي: 1-تعزيز التعاون مع الجيش المصري ومواصلة السماح له بدفع المزيد من القوات في سيناء، وذلك لكي يتمكن من العمل ضد البؤر الجهادية ولكي يتصدى لعمليات تهريب السلاح إلى قطاع غزة. 2- يجب على إسرائيل أن تواصل تعزيز علاقتها وتنسيقها من قيادة الجيش المصري، وفي الوقت ذاته تحرص على بناء مركبات قوتها العسكرية بحيث لا تكون عرضة لمفاجآت في المستقبل. 3- إسرائيل مطالبة ببذل جهود كبيرة من أجل ضمان تواصل الدعم الدولي لقادة العسكر في مصر، وعليها تشجيع المستثمرين الأجانب على تدشين مشاريع البنى التحتية في مصر من أجل توفير فرص العمل على اعتبار أن تدهور الأوضاع الاقتصادية يمكن أن يهدد حكمهم. 4 - يجب تشجيع القوى العربية الإقليمية في الخليج والأردن التي عارضت حكم الإخوان على مواصلة تقديم المساعدات لمصر لضمان نجاح الحكم الجديد. وعلى إسرائيل عدم استبعاد إمكانية التنسيق مع تلك الدول والتشاور معها حول كيفية مساعدة حكم العسكر، علاوة على أن هذا التنسيق يمكن أن يتطور بشكل يسمح بإيجاد قاعدة للتعاون ضد إيران والمحور الذي تقوده. 5- على إسرائيل البحث عن قنوات اتصال مع الجهات المسؤولة عن الثورة المصرية في الوقت الراهن علها تجد في إسرائيل الطرف الذي بإمكانه أن يوظف إمكانياته وعلاقاته في خدمة الأهداف التي تتوخاها. لا أريد أن نتعجل في الحكم على الوضع المستجد، لكن الخلفيات التي مررنا بها تسوغ لنا أن نقلق على المستقبل، وأن نتساءل بصوت عالٍ: إلى أين نحن ذاهبون بثورة 25 يناير؟