السيد وزير الثقافة المنتهية ولايتُكَ. صَدِّقْنِي أنَّ رسالتَكَ أمْتَعَتِني، وأدخلتْ في نفسي كثيراً من البهجة والسُّرُور. ليس لأنك أصبحت ثورياً، انقلب على النظام وخرج ليصرخ إلى جانب الناس مطالباً بالعدالة والمساواة والحق في الشغل وفي الحياة. أو لأنَّك خرجتَ أخيراً من نومك، لحياة اليقظة والتَّنَبُّه. كانت رسالتُك مُمْتِعَةً لي، بشكل خاص، لأنَّك أتَحْتَ لي أن أفهم بشكل جيد سلوك كثير من المثقفين الذين ما زالوا يَتَخَفَّوْنَ وراء العلم والمعرفة، لا ليقرأوا ويُحَلِّلُوا ويبحثوا في الأسئلة التي تساعد الناس على فهم الواقع، أو على فَكِّ بعض شفرات المعرفة التي تفتح أفقاً أمام مزيد من الأسئلة، وأمام مزيد من القلق المُبِدِع الخلاَّق، بل لِيُخْفُوا وراء كل هذا الغُبار الذي يُحْدِثُونَه في الهواء، شهوتَهُم للسلطة والمُلْك، وللوصول إلى مواقع القرار التي لم تعد حاصِلَ تجربة أو خبرة، وقدرة على الإدارة والتسيير، أو تدبير الشأن العام للناس، وهو ما كُنْتَ خير مثال له، إبَّان توليك وزارة الثقافة، التي قَلَبْتَ رأسها على عقبيها، ونُبْتَ عن الدولة في قهر المثقفين، وفي الإجهاز على ما كان بقيَ من ضوء. فأنت، أيها الوزير المنتهية ولايتُكَ، جئتَ إلى الحكومة باسم حزبٍ، جُل مثقفيه الشرفاء، أو من كانوا منتسبين له بالعقيدة وبالرأي، وأنا واحدٌ منهم، تركوه ليكتفوا بالعقيدة التي خانها حزبُكَ، فيما أنتَ فهمتَ أنَّ الحزب هو حزبُ غنيمةٍ، وعرفْتَ بِدَهاءِ فلاسفة ما قبل الحداثة، أنَّ الطبيعة لا تقبل الفراغ، لتصير بَدِيلَ كل هؤلاء الذين تركوك، إلى جانب قلة مثلك، تعبثُ في هذا لفراغ الذي كان فرصتك الثمينة لتصير وزيراً للثقافة، أو لتصير، كما لا يختلف في ذلك اثنان، أسوأ وزير على الإطلاق، في حُكومَةٍ، عجزتْ حتى عن أن تضمن تضامُن حلفائها والْتِحامَهُم. الرسالة التي وجَّهْتَها لرئيس الوزراء القادم، ألم يكن حَرِياً بك أن تُوَجِّهَها لرئيس الوزراء الذي كنتَ أحد وزراء حكومته ؟ ألم تُفَكِّر في أن تكتب هذه الرسالة لنفسك، وتُوَجّْهَها لنفسك، لتكون لك بمثابة المرآة التي ترى فيه نفسك بما يكفي من جُرْأة ووضوح ؟ ألم تفكر في كتابة رسالة تكون نقداً ذاتياً لأدائك، أولاً كوزير، ولدورك كمثقف خان ما كَتَبَه، أو فَضَحَتْه شهوة السلطة والمُلك ؟ تعرف قبل غيرك، أن تاريخ الدولة العربية الإسلامية، أو ' تاريخ الأمم والملوك ' بتعبير ابن جرير الطبري، حافل بمثقفين انتصروا للسلطان على حساب الشعب، واستعملوا معرفتهم ليبرِّروا سطوة واستبداد السلاطين والملوك. كما تعرف أن هؤلاء اليوم، هم من الأمثلة التي نقرأ بها تاريخ الهزائم التي طالتنا، وكان بالأسف بعض الوُعَّاظ من المثقفين، ورسالتُك بالمناسبة فيها كثير من الوعظ، هم من عَجَّلُوا بهذه الهزائم، وكانوا من أسباب ما نحن فيه من قهر وظلم وجهل وحَيْف. أسألُك، وأنت الآن خارج الوزارة؛ لِمَ دخلتَ الوزارة وأنت تعرف أنّ كل ما اسْتَعْرَضْتَهُ في رسالتك من مشاكل مَسَّتْ كل مجالات الحياة اليومية للمغاربة، لم تكن طارئةً، أو حدثت بالصُّدْفَة، بل إنها كانت موجودة، حتى قبل أن تصير وزيراً ؟ وقد كانت حكومة التناوب التي ترأسها حزبُك، آنذاك، ساهمت في هذا الوضع، أو هي طرف فيه، بحكم الواقع ؟ فهل دخَلْتَ الوزارة بشروطك، باعتبارك مثقفاً، يكتب في مجالي الإبداع والفكر، أو فيلسوفاً، كما تُحِب أن تُسَمِّي نفسك، أو باعتبارك منتسباً لحزب يساريٍّ، له برنامجه، وله رؤيته التي هي حاصل فكر عقائدي سياسي، يعرفه الجميع ؟ ثم لماذا لم تَقُم بتقديم حصيلة ما أَنْجَزْتَهُ في وزارتك، لتكشف للرأي العام المغربي، أن ما تقوله حقّاً، وليس باطلاً أَلْبَسْتَه لباس الحق ؟ من كان بيتُه من زجاج، لا ينبغي أن يقذف الناس بالحجر. وقبل أن نتهم الآخرين بقذارة بيوتهم، علينا أن نكنس بيوتنا أوَّلاً. أعود معك إلى التعليم، دون أن أُغْرِقَ نفسي في حسابات وأرقام، مما حرصتَ على ذكره في رسالتك، وهي أرقام كانت قائمةً في عهد السيد عباس الفاسي، لأذكِّرَكَ أن أزمة التعليم، وما يعرفه من تراجُع، منذ أكثر من ثلاثة عقود، وأكتفي بالتعليم الجامعي، لأُنَبِّهَك إلى أنَّك كنت أستاذاً جامعياً خلال هذه العقود الثلاثة، فماذا قدَّمْت للجامعة لتخرج بها من هذا المأزق التي هي فيه ؟ ألم تكن ضمن الذين حَوَّلُوا الجامعة إلى ثكنة فيها كنتم تفرضون على الطلبة استعادة خطاباتكم، والكتابة بنفس الطريقة التي كتبتُم بها، أو اتِّخاذ أعمالكم موضوعاتٍ لأطارحهم، أو أن يَتَّخِذُوا من كتاباتكم مراجع لأبحاثهم، في ما كنتم تفرضون الرقابة على أعمال من لا يتفقون معكم، أو لهم رأي لا تقبلونه، بدعوى العلم والمعرفة، ودِقَّة المناهج ؟ فلماذا، اليوم فقط، خرجتَ إلى العلن، لتكتب رسالةً مفتوحةً تُخاطب فيها رئيس الوزراء القادم، على غرار رسالتي له، التي سبقت رسالتك، لكن مع فرق في المبدأ والمقصد ؟ ثم هل كنتَ في لقاءاتك مع السيد عباس الفاسي، وباقي الوزراء الذين اتَّهَمْتَهُم بالانتهازية والتقصير، وبإفساد القطاعات التي كانوا مسؤولين عنها، عن كل هذا الذي اخترتَ أن تضعه عقبةً في طريق الرئيس القادم ؟ جازماً، لا أعتقد هذا. فأنت السيد الوزير المنتهية ولايتُه، تركتَ رسالتك إلى هذا الوقت بالذات، لأنك كنتَ ما زلتَ لا تعرف ما سيجري، ومن سيكون الرئيس القادم، أو الحزب الذي سيتولَّى رئاسة الوزراء. وفي هذا السلوك، في حد ذاته، ما يكفي ليُزَكِّي هذا السلوك الانتهازي للمثقفين المخزنيين، الذين رَوَّضَتْهُم الأحزاب على تدليس الحقيقة، وعلى قلب الأمور، وتصوير الباطل في صورة الحق، والحق في صورة الباطل، وهذا ذروة ما نحن فيه من دَجَلٍ اليوم، خصوصاً حين يأتينا من مُنْتِجِي المعرفة، وممن كُنَّا إلى وقت قريب نعتبرهم أصحاب مبادئ وحرية في الرأي والقرار. من الأمور التي أمْتَعَتْنِي كثيراً في رسالتك، نصيحتُك لرئيس الوزراء القادم أن يختار أعضاء وزرائه، من الأكفاء وذوي الخبرات ومن لهم سِيَرٌ علمية جديرة بالاعتبار، وبالابتعاد عن وزراء لم يعد الرأي العام المغربي يطيق رؤيتهم، إلى غيرها من الأمور الأخرى التي لا داعي لسردها هنا، أسألُكَ، مرَّةً أخرى، هل توفَّرَت فيك بعض هذه الشروط، حين تَمَّ اقتراحُك وزيراً للثقافة ؟ وهل كانت لك خبرة وكفاءة في تسيير الإدارة، وتدبير الشأن الثقافي ؟ يعرف جميع من كنتَ معهم في اتحاد كتاب المغرب، أعني في المكتب المركزي، أنك لم تكن تحضر اجتماعات الاتحاد، وكنتَ تكتفي بحضور اللقاءات التي كانت تتم مع بعض السفراء، أو المسؤولين الحكوميين، وربما، محاضر الجلسات، إذا كانت الاجتماعات تتم وفق هذا الشرط التنظيمي، تكشف بوضوح هذا الأمر. السيد الوزير المنتهية ولايته، لا يمكن مسح الطاولة بمجرد رسالة تكتبُها بهذا الأسلوب الفقهي الذي لا علاقة له بلغة الفكر الحديث، أو بمجرد اتهام الآخرين بالفشل، وقلب الطاولة على الجميع. فَيَدُك في العجين، وَلنْ تَسُلَّها مثلما تُسَلُّ الشَّعْرَةُ، دون ضَرَرٍ أو خطر. فأنت حين عدت للتاريخ لتكتب بعض رواياتك، ذهبت إلى أشخاص، أردتَ كشف أعطابهم، أو ما طبع حياتهم من جنون، وشطط في استعمال السلطة، في هذا الماضي الذي اخْتَرْتَه زمناً لأعمالك، لكنك غَضَضْت الطرف، أو حاولت أن تَغُضَّ الطرف عن هذا الحاضر الذي هو ماضيك أنت، وهو قادم لا محالةَ، الذي فيه ستكون أنت ' مجنون حًكْمٍ ' صغيرٍ، في وزارة صغيرة، أتَيْتَ فيها بعظائم الأمور، مما لم يفعله من كانوا في مناصب أكبر من منصبك، أو ما لم يجرؤ حتى وزراء السلطة على فعله، ممن كانوا يأتون إلى هذه الوزارة دون إذن أحدٍ. التاريخ أكبر منك، وهو يَقِظٌ، يمكن أن نؤجِّلَه، لكننا لا يمكن أن نُخْفيه، أو نُزَوِرَه، أو نُضْفِي عليه غير المعاني التي يَحْتَمِلُها. وفي هذا السياق أريد أن أسألك عن هذه السفينة التي أصبحت تخاف عليها من الغرق، متى كنتَ تخاف عليها من هذا المصير، وأنتَ من قاطعك المثقفون، في المعارض الدولية للكتاب، حين كنتَ تريد فرض ريحك على شراعها، وكنتَ لا تعبأ بما أَحْدَثْتَهُ من ثُقُوبٍ فيها ؟ ليس سهلاً أن نستعيد مواقعنا، إذا كُنَّا فَرَّطْنا فيها مقابل ثمن بَخْسٍ وضئيلٍ، أو بالانتصار للسلطة، مقابل التأسيس لقيم المعرفة، ولتهيئة التُّرْبَة لمجتمع المعرفة، الذي أَخْطَأْتَه، أو كنتَ بالأحرى، ممن عملوا على تأجيله، وأنت بالأسف، رجل فكر، كاتب له أعمال سعيتَ من خلالها لتكريس قِيَمٍ فكرية وجمالية، خانتكَ مهمتُك في الوزارة، في تأكيدها، أو حتى في الدِّفاع عنها. أنا لا أدافع هنا عن العدالة والتنمية التي سترأس الحكومة، بفعل ما حصلت عليه من أغلبية برلمانية، بقدر ما أستغرب أمر رسالتك، وأنت كنتَ وزيراً في حكومة لها يَدٌ في هذا الحَرَج الذي تعيشه البلاد، و ما عرفتْه وزارة الثقافة من انتكاساتٍ عهدك، وتغاضيك عن بعض ما كان حصل عليه المثقفون من امتيازاتٍ، رغم ضحالتها، وإجهازُك على سياسة دعم الكتاب، وغيرها من الأمور التي كان حَرِياً بك أن تعمل على وضعها ضمن إنجازاتك، وهي صِفْرٌ، بالمناسبة، بدل أن تهرب إلى الأمام، لتُهاجم حكومة، عرفتَ مُسْبقاً أنَّ لا مكانَ لك فيها. عُدْ إلى الجرائد المغربية المختلفة، وأعد قراءتها، منذ تولِّيك وزارة الثقافة، إلى حين انتهاء ولايتك، فأنتَ صِرْتَ فيها بمثابة الحدث اليومي. هل هذا حدث مع غيرك من الوزراء ؟ لهذا لم تكتف بعداء الثقافة والمثقفين، فذهبتَ للصحافة و الصحفيين، لِتَتَّهِمَهُم بالسُّوء، والقذف والتشهير، والمس بكرامة وزراء وبأعراضهم، هكذا، دون أن تُدْرِكَ أنَّ ما يدفع الصحافة للكتابة، ليس وفق هذا المعنى الذي ذَهَبْتَ إليه، هو ما قد يحدث من خروج عن النص، خصوصاً حين يكون الشخص في موقع المسؤولية، أو يًشْرِف على قطاع، هو قطاع نخبة المجتمع، من مثقفين وكتاب ومنتجي الأفكار والمعاني. الاستهتار بالمسؤولية، هو أحد أسباب ذهاب الصحافة إليك، وما كتبه مثقفون من رسائل لك، يُنَبِّهُونَكَ فيها، ويدعونك إلى تفادي ما أنتَ فيه من شططٍ وغَيٍّ، وأنتَ في موقع السلطة، هو تعبير عن امتعاض كل هؤلاء من مواقفك، ولم تكن لتصدر عن واحد من أهل البيت، بتعبير السيد المسيح. ليس للرسالة صلة ... صلاح بوسريف شاعر مغربي