الإعلام المصري هذه الأيام قصة تستحق أن تروى كدرس في الإعلام المهني لكن تحت بند: «ما لا يجب أن تفعله في الإعلام». أتذكر كيف كانت القنوات التلفزية الخاصة المصرية تنتقد وتسخر من استخدام الدين لصالح الرئيس المصري المعزول، محمد مرسي، زمن الإخوان. فعبارات مثل: «الله أرسل مرسي إلى مصر»، و«ماذا فعل الرسول في مائة يوم لتحاسبوا مرسي اليوم»، و«مرسي هو حفيد عمر بن الخطاب»، وغيرها من الحماقات التي كانت تظهر في إعلام الإخوان، وكانت محل سخرية وانتقاد لاذع من قبل القنوات التلفزية المعارضة، والتي تسمي نفسها ليبرالية. كل هذا اختفى الآن. لقد ارتكب المتحمسون من أنصار مرسي والجماعة الإسلامية والتيار السلفي بمصر حماقات إعلامية كثيرة، ورموا أنفسهم في ميدان حساس لا يعرفون رسالته ولا تقنياته ولا أخلاقياته... لكن هل خصومهم الليبراليون أعطوهم درسا في ما يجب فعله؟ اليوم يخرج الشيوخ والدعاة الموالون للانقلاب ولخارطة المستقبل الغامض لمصر ليقولوا بالفم المليان إن التصويت على الدستور ب«نعم» هو واجب شرعي وديني، وإن المشير عبد الفتاح السيسي قد أرسله الله إلى المصريين لإنقاذهم من الشيطان الإخواني، وإن من يعارض المشير فهو آثم قلبه وعقله، وإن الدستور الذي وضعته مجموعة عمرو موسى المعينة «يرضي الله ورسوله»، وإن الفريق السيسي من نسل سيدنا الحسين، وإنه مع وزير الداخلية من «جنود الله»... هذا ليس كاريكاتيرا.. هذا بالحرف ما قيل ويقال في إعلام الفلول اليوم وعلى الهواء مباشرة. هل تريدون أكثر... قنوات مصر التابعة لرجال أعمال حسني مبارك تعرض كل مساء تسجيلات هاتفية لأتباع الرئيس المخلوع مرسي التقطتها آذان المخابرات أيام كان رئيساً للدولة وتعلق عليها، ولا تجد هذه القنوات ولا صحفيوها أي مشكل أخلاقي أو قانوني أو مهني في هذا الإجرام الصحفي... على الهواء مباشرة خرج خطيب جمعة أزهري وأفتى بوجوب تطليق الرجل لامرأته إذا كانت إخوانية، لأنها مثل القنبلة الموقوتة في البيت. هل يمكن أن يتصور عاقل خروج مثل هذا الكلام من فم فقيه أزهري؟ وهل يتصور أحد أن يتم نقل هذا الافتراء على الدين والأخلاق والفقه في تلفزات تدخل إلى كل البيوت دون نقد أو عرض لوجهات نظر أخرى؟ هل يوجد تحريض على الكراهية والعنف والعنصرية أكثر من هذا؟ في برنامج «توك شو»، من تلك التي انتشرت كالفطر في التلفزات المصرية الخاصة والعامة، تسأل صحفية ليبرالية متحررة جداً ضيف البرنامج الفقيه المعمم السؤال التالي: «ألم يكن صحابة رسول الله (ص) قادة للأمة وعسكريين مجاهدين في نفس الوقت؟»، فيرد عليها الفقيه: «طبعا، إن الخلفاء الراشدين كانوا حكاماً سياسيين وعسكريين مجاهدين. أكثر من هذا، إن أحد شروط الإمامة في الإسلام هو الجهاد». هذه هي الطريقة الذكية التي يدافع بها الإعلام الليبرالي عن ترشح المشير عبد الفتاح السيسي للرئاسة بعد أن قاد انقلابا ناجحا، وصار مشيرا لأنه هزم الديمقراطية الفتية في بلاد الثورة في معركة اسمها ثورة 3 يوليو. جل الإعلام المصري اليوم، مسموعه ومرئيه ومكتوبه، صار نسخة واحدة من نشرات المخابرات، ومكاتب الدعاية في الجيش المصري، وهذه وتلك لا تهمها حقيقة ولا مهنية ولا رأي عام.. تهمها خدمة أجندة سياسية ومصالح الدولة العميقة، لهذا فإن صناعة الكذب هي الصناعة الوحيدة المزدهرة اليوم في القاهرة، والمشكل أن العديد من الصحافيين الذين كانوا مستقلين وعلى مسافة من السلطة أيام مبارك، انخرطوا في هذه الوليمة المتعفنة، يعميهم عداؤهم الإيديولوجي للإخوان، وإغراء المرتبات الكبيرة لإعلام رجال الأعمال الفاسدين، الذين رأوا في الانقلاب فرصة العمر للانقضاض على الثورة المصرية (لكم أن تتصوروا أن رجل الأعمال وإمبراطور الاتصالات نجيب سويرس، مثلا، توصل مع حكومة هشام قنديل قبل الانقلاب إلى اتفاق رضائي بموجبه كان سيدفع مليار دولار لتسوية وضعيته الضرايبية مع الدولة نظرا إلى تهربه من الضريبة لعقود من الزمن، لكن بعد انقلاب 3 يوليوز توقف كل شيء). الذي كان سيدفع مليار دولار للدولة عن جرائمه المالية ألا يصرف 10 أو 100 مليون دولار على قناة تلفزية لمهاجمة خصومه والدفاع عن العسكر إذا كان العسكر سيقلب الصفحة ويغمض العين عن فساد رجال الأعمال... الإعلام المصري اليوم صار شبه دبابة تقاتل في صفوف المشير.. الليبراليون طعنوا الليبرالية في مقتل عندما باركوا انقلابا عسكريا قالت أمنيستي عن خارطته إنها صارت خارطة للقتل. الاختلاف مع الإسلاميين بكل ألوانهم لا يبرر الانقلاب على الديمقراطية، بل العكس، تنكر الليبراليين لقيم الديمقراطية سيدفع الإسلاميين إلى الكفر بها، وآنذاك فمرحبا بحروب داحس والغبراء وجهل الجاهلين...