مرة أخرى يخلق مجلس المستشارين الحدث، لكنه حدث يشبه زوبعة في فنجان وجعجعة بلا طحين. لقد دخل جزء من السادة المستشارين، الذين يوجدون في حالة شرود دستوري باعتبار أن الغرفة الثانية ماتت بتركيبتها الحالية مع دستور 2011 ولم تجد من يدفنها إلى الآن .. دخل المعارضون في هذه الغرفة إلى الجلسة الشهرية المخصصة لمساءلة رئيس الحكومة، عبد الإله بنكيران، يوم أمس وهم يرفعون لافتات مكتوب عليها: «يا رئيس الحكومة كفى من التحكم والديكتاتورية»... من حق المعارضة أن تنتقد الحكومة ورئيسها، وأن تشهر به وبها حتى، لكن النقد له ضوابط وحدود، والمعارضة لها تقاليد وأعراف، وأولها المصداقية والواقعية وطرح البدائل وقول الحقيقة للرأي العام، وليس إثارة الغبار وخلط الأوراق والقفز فوق الحائط القصير وتجنب الحائط العالي. يمكن للمراقب أن يؤاخذ بنكيران وحكومته على قرارات كثيرة لم يحسموا فيها، وسياسات عمومية لم يسارعوا إلى تنزيلها، وتردد كبير طبع ويطبع أداءهم إزاء الفساد والرشوة والإعلام التلفزيوني المحنط، والبطالة المستشرية، والإدارة المعطوبة، والتعيينات في المناصب العليا غير الموفقة، والدبلوماسية النائمة، وملف الصحراء الذي لا تعتبره هذه الحكومة، كما حكومات أخرى، جزءا من عملها... يمكن للمرء أن يكتب كتابا في نقد هذه الحكومة وكفاءة جل وزرائها... لكن أن يتم نعت بنكيران بأنه ديكتاتوري تحت قبة البرلمان ومن قبل من يفترض فيهم تمثيل الأمة، فهذا انحراف ومبالغة وتجن على الحقيقة، وهو أمر لا يضر بنكيران بقدر ما يضر المعارضة وسمعة الغرفة الثانية التي لا جدوى منها في مشهدنا السياسي على الإطلاق. أنا لا أدافع عن بنكيران الذي يغضب من أجل ما أكتبه عنه، ولا أوفر نقدا عندما أظن أنه حقيقي وعقلاني، لكن أن يتم تشكيل جبهة صمود وتصدٍّ ضد الحكومة بخيرها وشرها، والسكوت عن تجاوزات المعارضة ومراكز القوى الأخرى، وأن يتم تشكيل «كوموندو» إعلامي وسياسي ونقابي لمطاردة الحكومة ورئيسها «بيت بيت زنكة زنكة دار دار» بالحق والباطل، هنا نصير أمام جريمة في حق الديمقراطية. ما هي الديكتاتورية التي لا يبدو أن السادة المستشارين يستوعبون مفهومها، وجلهم أعيان لا يربطهم بالسياسة والثقافة إلا السماع، وأكثرهم محدودو التعليم «الله يكون في العوان». تعرف القواميس السياسية المعاصرة الديكتاتورية كالتالي: «الدكتاتورية كلمة مشتقة من اللاتينية: Dictatura، وهي شكل من أشكال الحكم المطلق، حيث لا تعددية سياسية ولا حرية رأي أو تعبير، بل السلطات كلها في يد شخص (ملك مطلق) أو حزب وحيد أو جيش يحكم بالحديد والنار ولا يسمح لغيره بالمشاركة في الحكم، بحيث يتحكم الديكتاتوري في كل مناحي الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية وحتى الثقافية والتعليمية. مثل الحكم الديكتاتوري هو ما عرفته ألمانيا النازية على يد هتلر في الأربعينات وإيطاليا الفاشية على يد موسوليني والاتحاد السوفياتي على يد ستالين». الآن دعونا نمر إلى تحليل وضع المعارضة بكل أطيافها، وهي من أكثر المعارضات ضعفا وإعاقة في تاريخ المغرب. لماذا؟ إنها معارضة تريد أن تعارض الحكومة، وأن توالي الحكم في أكثر تعبيراته سلطوية وانغلاقا، وأن تشهّر، عن حق أو عن باطل، ببنكيران، لكنها تسكت عن مراكز السلطة الأخرى، وبعضها أكثر قوة من بنكيران، أي أنها تمارس معارضة ناعمة لا يتحرك مقصها سوى في لحية بنكيران وحزبه، وهذا ما يضعفها أكثر، ويصور بنكيران وكأنه يواجه امتدادات الحكم السلطوي في هذه المعارضة... لاحظوا سلوك المعارضة في البرلمان وإزاء القضايا الحساسة والقوانين الجوهرية والقرارات الكبرى، ستلاحظون أن المعارضة تبلع لسانها، وتصبح موالية للحكومة كلما كانت هذه الأخيرة محافظة ومستكينة، حيث تصبح المعارضة إلى جانبها، وكلما تحركت الحكومة، ولو على استحياء، في ملفات الإصلاح، إلا ووجدت المعارضة، أو أغلبها على الأقل، مكشرة عن أنيابها. باستثناء الانتقادات التي سجلها الفريق الاشتراكي في مجلس النواب على اتساع لائحة المؤسسات الاستراتيجية التي يعين فيها الملك والتي جاءت من عند الحكومة طويلة كتعبير عن تأويل غير ديمقراطي للدستور لم تبد فرق المعارضة الأخرى أية ملاحظات، بالعكس ما يسجل عليها هي تجنبها للاحتكاك مع أي نص مر من المجلس الوزاري تجنبا للإحراج، مثل ما وقع مع المادة السابعة في القانون العسكري والتي كانت تعطي حماية جنائية مطلقة للجيش قبل سحبها من مشروع القانون الذي تصدى لهذه المادة المتعارضة مع مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة هو حزب العدالة والتنمية وحزب الاتحاد الاشتراكي الباقي أكلت القطة لسانهم ... معارضتنا البرلمانية تريد أن تلعب لعبة خطيرة، وهي أن تعارض الأشخاص وليس السياسات. في ماذا تختلف سياسة وزارة المالية على عهد بنكيران عنها أيام عباس الفاسي وإدريس جطو وعبد الرحمان اليوسفي؟ كلها كانت مشغولة بتقليص عجز الميزانية، وخطب ود المؤسسات المالية الدولية، والاعتماد على الاستثمار الأجنبي والمحلي لإنعاش سوق الشغل... يوم كان الاتحاد الاشتراكي يمارس المعارضة، التي بوأته مكانة كبيرة في المشهد السياسي المغربي، لم يكن حزبا يعارض فقط سياسات حكومات عصمان وكريم العمراني والمعطي بوعبيد والفيلالي... كان حزبا يتصدى للقرارات الكبرى التي يرى أنها تضر بالديمقراطية، وكان ينتقد تركيبة السلطة واختيارات الحكم إلى درجة أن عبد الرحيم بوعبيد، رحمه الله، قال لا لتنظيم الاستفتاء في الصحراء، ومقابل هذا الموقف الاستراتيجي ذهب إلى السجن وهو من هو في تاريخ مغرب الاستقلال... المعارضة يجب أن تضع مصلحة الأمة وسلامة الديمقراطية ومبادئ الحرية والعدالة أمامها وليس حسابات صغيرة هنا وهناك...