تتعايش النخب السياسية في المغرب مع وضع شاذ تعرفه البلاد منذ سنوات، يتمثل في انعدام الأغلبية والمعارضة على السواء. حكومة عباس الفاسي حكومة أقلية في البرلمان، علاوة على عدم تحكمها في القرارات الاستراتيجية، والمعارضة، التي من المفروض أن يقودها الحزب الثاني في البرلمان، العدالة والتنمية، غائبة لأنها اختارت معارضة الحكومة الغائبة بدورها وليس معارضة أقطاب النظام ومراكز القرار المتحكمة في كل شيء... لا يمكن لأي نظام سياسي، سواء كان ديمقراطيا أو نصف ديمقراطي أو سلطوي أو شبه سلطوي، أن يعيش بدون توازن هيكلي بين حكومة تملك أغلبية- ولو صورية- في البرلمان، ومعارضة -ولو ناعمة- تمارس النقد على يسار الحكومة... كان الحسن الثاني يقول دائما: «لو استيقظت يوما ولم أجد المعارضة في المغرب فسأخلقها»... كان الملك الراحل يعرف بحسه السياسي العالي وتجربته في الحكم أن جميع الأنظمة، حتى السلطوية منها، بحاجة إلى معارضة «مؤسساتية» تتحرك تحت الضوء وتدق جرس الإنذار وتمتص غضب الشارع، وتشكل بديلا محتملا للحكومات القائمة المعرضة للتآكل بفعل الجلوس الطويل إلى جانب رحى السلطة... إذا كانت الأنظمة السلطوية في حاجة إلى المعارضة فكيف بالأنظمة التي تدعي أنها في طريق التحول الديمقراطي...؟ قال عبد الإله بنكيران، رئيس برلمان حزب العدالة والتنمية في حوار مع الزميلة «الوطن» هذا الأسبوع: «حزب العدالة والتنمية لا يواجه الدولة ولا يدخل معها في معارك، نحن حزب يعارض الحكومة وليس النظام... نحن لسنا حزب الاتحاد الاشتراكي السابق.. نحن حزب المنطق والعدل والمصلحة والنية الحسنة». هل يوجد إعلان أكثر صراحة من هذا؟ بنكيران يعلن انسحاب الحزب من المعارضة لاختيارات النظام التي توجد اليوم على محك السؤال.. اختيارات تريد من الملكية أن تبقى سلطوية وليس برلمانية، وتريد أن تبقى مؤسسات الحكومة والبرلمان والقضاء والمجلس الدستوري... مجرد تعبيرات مجازية تخفي الحقائق الواقعية، وتريد أن تجعل من الانتخابات تباريا حول التدبير الجزئي للمرافق الاجتماعية والمحلية، وليس لحظة لانبثاق إرادة أغلبية المواطنين التي تعبر صراحة عن نوع المشروع الاجتماعي والسياسي الذي يريدون أن يحكم لمدة خمس سنوات... إذا كان بنكيران يريد أن يعارض حكومة لا تحكم، فإن معارضته لا تعارض الأنوية الصلبة للقرار، وبالتالي فإن وجودها كعدمه، بل إن هذا النوع من «المعارضة الشكلية» يشجع على اتساع الفراغ السياسي ويسمح لمعارضات «غير مؤسساتية» أن تنبث في هذا الفراغ... ليس قدر المغرب أن يعيش في ظل حكومات شكلية ومعارضات شكلية، كما ليس قدره أن يعيش إما في فراغ سياسي أو على أعتاب المغامرة السياسية لاتجاهات راديكالية... يمكن أن نعارض اختيارات النظام بجدية دون أن نسعى إلى إسقاطه، ويمكن أن نطالب الحكومة بتفعيل كل صلاحياتها دون أن يشك أحد في نواياها... مغرب آخر ممكن.