"وإذ نشاطركم أحزانكم في هذا المصاب الأليم، الذي لا راد لقضاء الله فيه، فإننا نضرع إليه جلّت قدرته أن يمتّعك برضاها جزاء على برّك وإحسانك إليها، ويحفظك وذويك من كل مكروه، وأن يعوّضكم عن رحيلها جميل الصبر وحسن العزاء". عبارات المواساة هذه وصلت إلى أيدي رئيس الحكومة المعين عبدالإله بنكيران حبرا على ورق مساء أول أمس الخميس، ضمن صفحتين من برقية التعزية الرسمية التي بعثها الملك محمد السادس بعد وفاة الراحلة للا مفتاحة. برقية اختتمت بالآية القرآنية: "وبشّر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون، أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة، وأولئك هم المهتدون". برقية يحفّها بنكيران بعناية خاصة، وهو يستقبل لليوم الرابع على التوالي وفود المعزّين، فيما تحمل البرقية التوقيع الملكي مؤرخا في يوم الجنازة، أي الثلاثاء الماضي. يومها كانت الراحلة للا مفتاحة قد أسلمت الروح يومين فقط، قبل حلول الذكرى السنوية الثانية لوفاة عبدالله بها، شاءت الأقدار أن يكون قبرا مجاورا لقبر بها في مقبرة الشهداء، غير بعيد عن مؤسس حزب العدالة والتنمية، الراحل عبدالكريم الخطيب. بقعة اعتادت قيادة حزب العدالة والتنمية على زيارتها سنويا في ذكرى رحيل الخطيب، للترحم عليه، وأصبحت منذ العام الماضي تشمل عبدالله بها بالزيارة نفسها، ليصبح لعبدالإله بنكيران اليوم، سبب ثالث للوقوف في المكان نفسه، حين أصبحت والدته ترقد فيها. لكنّ البرقية الملكية التي وصلت إلى بيت نبيلة بنكيران، زوجة رئيس الحكومة، ليست الاتصال الأول من نوعه. فقبل بضع سنوات، وحين كان بنكيران في شهوره الأولى على رأس الحكومة، كان المبعوث الملكي يحلّ بالبيت نفسه حاملا هدية خاصة من الملك محمد السادس العائد حينها من زيارة إلى الولاياتالمتحدةالأمريكية، وموجهة إلى للا مفتاحة. هذه الأخيرة ورغم كل ما كان يثقل جسدها من آلام وأمراض، نبّهت ابنها إلى ضرورة الاتصال والسؤال عن أحوال الملك بعدما كان قد ودّعه في المطار لحظة سفره، وهي التحية التي ردّ عليها الملك بأحسن منها. "كان لديها ثلاثة أبناء ذكور وبنت واحدة، أحد أبنائها توفي بعد رحيل الوالد، أي أن أبناءها الأحياء لحظة وفاتها هم أربعة"، يقول عبدالإله بنكيران في حديث ل"أخبار اليوم"، مضيفا أن التربية التي اعتمدها والده الراحل، الحاج المختار بنكيران، "جعلت نفس التلاحم والتعاطف يجمعنا إخوة أشقاء أو غير أشقاء". ويتذكّر عبدالإله بنكيران علاقته بإخوته غير الأشقاء الذين كانوا يكبرونه بفارق كبير في السن، وكانوا، بالتالي، قد انتقلوا إلى مدن أخرى، خاصة الدارالبيضاء، لتدبير تجارتهم. ويتذكّر رئيس الحكومة كيف أن أخويه اللذين انتقلا إلى العاصمة الاقتصادية ونجحا في تجارتهما، كانا يساعدان والده بمبلغ مالي شهري يقدّر ب600 درهم، وهو الدعم الذي استمرّ بعد رحيل الأب واستمرار الأم والزوجة الرابعة للحاج المختار بنكيران في رعاية أبنائها الصغار. "ظلّت دائما مصرة على المكوث في بيتها القريب مني هنا في الرباط، ولم تقتنع بالمجيء والاستقرار نهائيا هنا إلا عام 2010، بعد وعكة صحية ألمت بها عقب رحيل أخي الحاج بنسالم"، يقول بنكيران في حديث ل"أخبار اليوم" صباح أمس، وهو يستقبل وفد عزاء ويودع آخر. بعد وصفه إياها بالمدرسة المتحرّكة، عاد عبدالإله بنكيران ليتذكّر أحد أبلغ الدروس التي تلقاها على يد أخيه الحاج بنسالم، الذي كان من بين ما يديره من أعمال واستثمارات، شركة خاصة بالنقل عبر الحافلات. آخر ما يتذكّره رئيس الحكومة عن الحاج بنسالم، وفاته التي أثّرت كثيرا في الراحلة للا مفتاحة، كما تأثر بها هو على غرار الفواجع الأخرى التي مرّ بها طيلة حياته، لكن المثير في وفاة الحاج بنسالم، أنه توفّي في اليوم نفسه الذي ستحدث فيه فاجعة وفاة رفيق دربه عبدالله بها، "نعم توفّي في اليوم نفسه، أي 7 أكتوبر من العام 2010، وهو اليوم نفسه الذي توفي فيه سي عبدالله بها، بل إنهما توفيا في الساعة نفسها تقريبا". بروز الشخصية الخاصة للراحلة للا مفتاحة كان بمناسبة أحداث يصفها بنكيران بالصعبة والأليمة، "خاصة منها وفاة والدي رحمه الله، ثم وفاة أخي بعده". كانت للا مفتاحة مضطرة للخروج لمواجهة الحياة والكدّ لإعالة أبنائها الأيتام. "تخلّى لها إخوتي غير الأشقاء عن المحل التجاري الذي كان يشتغل فيه الوالد رحمه الله، وانتقلت فجأة من المكوث في البيت إلى العمل التجاري الذي لم تمارسه قط قبل ذلك". راحت للا مفتاحة تنتقل إلى الدارالبيضاء لجلب السلع، وتمارس نشاطها التجاري في محل زوجها الراحل، "لكنّ بعض السيدات اللواتي قدمن الآن لتقديم التعازي، ذكّرنني كيف أنها مارست ما يسمى الآن بأنشطة التنمية البشرية بشكل مبكر ومنذ الستينيات، فقد كانت تجلب بعض الفتيات إلى البيت وتعلّمهن بعض الحرف مثل الخياطة والطرز…". عندما توفي الحاج المختار بنكيران، والد رئيس الحكومة، كان هذا الأخير في سن 16 سنة، "أي أنني كنت صغيرا نسبيا، ثم توفي أخي عبدالعزيز بعده ب10 ايام، الوالد توفيّ في يوم خميس وأخي في يوم الأحد من الأسبوع الموالي، وهو حدث مفجع وقع في حياتي". قسوة الحادث يفسّرها بنكيران بالعلاقة الخاصة والاستثنائية التي كانت تربطه بوالده، ووقع وفاة والده تجسّد، حسب بنكيران، في بكائه الطويل الذي استمرّ نحو سبع سنين، "وكنت أحيانا أستيقظ من النوم باكيا بفعل الأثر الكبير لوفاته". وعن قصة الاسم العائلي لوالدته الراحلة (الشامي)، والذي يحيل على أصول مشرقية، يقول بنكيران إن مصدره الأصول الشامية لأسرة والدته. "فقد هاجروا من الشام إلى المغرب قبل ستة أو سبعة قرون، وتعود أصولهم إلى سعد بن عبادة الخزرجي، لهذا يحملون اسم "الشامي الخزرجي". أسرة للا مفتاحة التي قدمت من المشرق، استقرت بمدينة فاس، حيث كانت تقيم عائلة بنكيران. "قبل أن تتزوج بوالدي، يحكي بعض الأقارب كيف أنها كانت تحث الفتيات على المزاوجة بين الدراسة وتعلّم الصنعة، كانت تقول لهن ادرسن لكي تتفتح عقولكن، وتعلمن الحرفة لتحصلن على مصدر رزق"، يقول بنكيران في حديث ل"أخبار اليوم". وفيما لم تسعف الظروف للا مفتاحة كي تتابع الدراسة، إلا أنها أقبلت على دروس محو الأمية واجتازت امتحان الحصول على رخصة السياقة بنجاح. "والدي هو ثالث الإخوة الذكور في أسرة جدّي المرحوم حماد بنكيران، هذا الأخير خلّف كلا من الأمين وأحمد، وهما عمّاي، والحاج المختار الذي هو والدي رحمة الله عليهم»، يقول بنكيران في لحظة تذكّر. الحاج المختار وعلى عادة رجال العهود القديمة من التاريخ الحديث للمغرب، تزوّج أربع نساء. "تزوّج بالأولى وخلّفت له ولدا واحدا، ثم الثانية فخلّفت له ولدين وبنتا واحدة، كلّهم توفّوا الآن رحمهم الله، ثم تزوّج امرأة ثالثة لم تلد له أولادا، قبل أن يتزوّج بالرابعة، والتي هي والدتي، حيث خلّفت له بنتا واحدة وأربعة أولاد، أي أننا خمسة إخوة أشقاء"، يقول بنكيران. فيما يعتبر أبرز أسلاف بنكيران الأب، الراحل الطيب بنكيران. "هو جدّنا السادس، الشيخ الطيب بنكيران الذي توفي عام 1812، وكان يسمى شيخ الجماعة، وهو من كبار علماء المغرب في عهد المولى سليمان، لكنه توفي قبله". وعمّ إن كان جدّه الفقيه الطيب بنكيران اكتفى بمعاصرة السلطان العلوي مولاي سليمان، أم كان له دور ما في محيطه السلطاني، قال بنكيران إنه "كان قريبا جدا من المولى سليمان، وكان رجلا معروفا بالعلم والصلاح ويتبرّك به، وكان يسمى شيخ الجماعة، وتوفي ودفن في فاس، وهو جدي السادس". ظلّت للا مفتاحة مصرّة على الإقامة في بيتها الخاص، "بيت الوالد تم بيعه، لكن إحدى أخواتي اشترت لها بيتا آخر"، يقول بنكيران. فيما ظلّت الراحلة تبرّر إصرارها على عدم الانتقال إلى بيت أحد أبنائها الذين يوالون دعواتهم لها، بضرورة الحفاظ على علاقتها بزوجة ابنها خالية من أي خلاف. "كانت تقول إننا سنتصالح إذا وقع بيننا أي خلاف، لكن الأفضل ألا نتخاصم كي لا نحتاج لأن نتصالح أصلا"، يقول بنكيران. هذا الأخير وإن كان ازدياد أخيه الأصغر، يوسف، قد خلّف في ذاكرته فترة من البعد عن الأم التي كانت تهتم بالوليد الجديد، إلا أن "المتاعب" التي تعرّض لها في فترة شبابه ودخوله غمار الدعوة والعمل السياسي، جعلته يربط علاقة خاصة بالراحلة للا مفتاحة. "الأم تحبّ كل أبنائها هذا بدون شك، لكن إخوتي يؤكدون أن عطفا خاصا كانت تبديه الوالدة تجاهي"، يقول بنكيران، مضيفا أنه يتذكر زياراتها وتنقلاتها بحثا عنه خلال فترة اعتقاله بداية الثمانينيات. "عشت وإياها علاقة حب رهيبة، بقدر ما كانت تحرص عليّ كنت معجبا بها. عندما كنت في السجن ونقلوني إلى معتقل درب مولاي الشريف، أخذت تبحث عني وتطالب بمعرفة مكاني ومصيري"، يقول بنكيران، متذكرا كيف أنها توجّهت إلى ضابط الشرطة السابق، محمد الخلطي الذي كان وراء اعتقال عبدالإله بنكيران المبحوث عنه لأسباب سياسية، "قالت له أين ابني، إذا كان لم يرتكب شيئا ردوه إليّ، ومنحته مبلغ خمسين درهما كي يوصله إليّ، وبالفعل توصلت به. هذه المتاعب جعلتها تبدي اهتماما خاصا بي". اهتمام بادله بنكيران في السنوات اللاحقة، حيث أصبح إخوته يلاحظون تعلّقه الخاص بوالدته. "حتى عندما قَبِلت وجاءت لتعيش معي منذ 2010، كنت أجد صعوبة كبيرة في تقبّل تلك الفترات القصيرة التي تغادرني فيها لتقيم عند أحد إخوتي، خاصة أخي حماد الذي كان يأخذها معه إلى بيت قرب الشاطئ في مولاي بوسلهام. كنت أعرف أنني لست عادلا وأن لإخوتي الحق نفسه في والدتهم، لكنني لم أكن أتراجع، ما عمرني ما استحليت الظلم إلا في هذه". تعلّق تمدّد ليصل إلى أكثر لحظات الصراع السياسي سخونة في حياة بنكيران، حيث ظلّ رئيس الحكومة يستشهد بنصائح وحكم والدته حتى وهو أمام جلسة المساءلة البرلمانية.