يكشف هذا المقال كيف أن الظروف الاقتصادية والاجتماعية الصعبة للمواطنين من أصول مهاجرة، والأحكام القضائية التي لا تسلم من بعض انحياز وأفكار مسبقة، تجعل نسبة هذه الفئة، هي الغالبة وسط الساكنة السجنية بفرنسا. المقال يشير أيضا إلى أن اعتناق الخطاب الإسلامي داخل مراكز الاعتقال، يعود لما يمثله هذا الخطاب من أشكال "المقاومة والتمرد" في وجه واقع سجني بئيس وأمام عقوبات ثقيلة ويكاد الحديث عن ظاهرة تشكيل المهاجرين للنسبة الأكبر من الساكنة السجينة للجمهورية الفرنسية، يدخل في عداد المحرمات. صحيح أنه لا أحد ينكر هذه الظاهرة، لكن التعاطي معها وتناولها بالدرس والتحليل لفهم الأسباب التي تقف وراءها تبقى مهمة مستحيلة بالنسبة للباحثين، رغم أن بإمكان زملائهم القيام بأبحاث من النوع نفسه في أمريكا بخصوص، مثلا، الأشخاص السود في مراكز الاعتقال الأمريكية. فما هي الأسباب التي تقف وراء هذه الظاهرة؟ وهل يمكن اعتبارها نتيجة الظروف الاجتماعية ونظام قضائي تمييزي؟ أم هي نتاج انتشار الانحراف بصفة أكبر بين الأشخاص من أصول مهاجرة؟ يطرح هذا الموضوع نفسه بقوة اليوم في سياق مكافحة الإرهاب، وفي سياق الانشغال بتنامي الدعوة الإسلامية داخل السجون الفرنسية. في 6 أكتوبر الجاري، قال رئيس الوزراء الفرنسي، مانويل فالس، في خطاب وجهه لآخر فوج من الحراس خريجي المدرسة الوطنية للإدارة السجنية، "الوضع الحالي يحتم تطوير مهام حراس السجون بصفة أساسية في مجال مكافحة التشدد". فالقاسم المشترك بين كثير من الإرهابيين الذين ارتكبوا هجمات دامية بفرنسا في 2015 كان المرور من إحدى المؤسسات السجنية للبلاد. وتبقى الإمكانية قائمة لأن يجد الخطاب الجهادي بعض الصدى داخل الوسط السجني الفرنسي، بما أن عدد المعتقلين المسلمين القادمين من الهجرة المغاربية أو من إفريقيا جنوب الصحراء، يظل مهما. أحكام قضائية صارمة في كتابه "سجون فرنسا.. عنف وتشدد وحط من الإنسانية: حينما يتحدث الحراس والسجناء" الصادر في 20 أكتوبر، يميط عالم الاجتماع فارهاد كوسروكافار اللثام عن المكانة التي يحتلها الإسلام داخل الوسط السجني. وتعطي المقابلات التي أجراها لمدة ثلاث سنوات في أربعة مراكز سجنية، مصداقية كبيرة لمؤلفه. وقد تفادت "لوموند " الدخول في مناقشة الجانب الكمي من هذه الظاهرة، باحثة عن استكشاف الجانب الكيفي. وتجب الإشارة بدءا إلى أن الارتفاع المتواصل للساكنة السجنية لا علاقة له بارتفاع ظاهرة الانحراف. الأمر يتعلق، في الحقيقة، ب"إلغاء قوانين العفو" و"تشديد التشريع الجنائي منذ سنوات عديدة"، والذي ترافق مع "صرامة قوية على مستوى الأحكام القضائية"، يكتب جون جاك أورفوا في تقرير نشره بصفته وزيرا للعدل وخصصه للحديث عن ظاهرة اكتظاظ الساكنة السجنية. على مستوى الأرقام، تبلغ نسبة المسلمين داخل مجموع الساكنة السجنية "ما بين 40 و60 في المائة"، حسب ما يورده كوسروكافار في كتابه. وهي نسبة تعترض عليها أني كينسي، رئيسة قسم الإحصائيات والدراسة بإدارة السجون، معتبرة أنه رقم "لا يستند على أي أساس". كوسروكافار يرى في رد كينسي تعبيرا عن "انفصام فرنسي"، قائلا "يمنعونك من القيام بإحصائيات، ولكن عندما نقدم نسبة تقريبية ونحيطها بكل الحذر العلمي الواجب، يقولون لك إنك على خطأ.. ليبرهنوا لي إذن أنني على خطأ". الانحراف يقود إلى السجن بدورها تعترض أدلين هازان، المراقبة العامة لأماكن الحرمان من الحرية، على تقديرات كوسروكافار، لكنها تذكر رغم ذلك أنه سبق لمدير أحد السجون الفرنسية أن تحدث سنة 2015 عن كون 60 في المائة من المعتقلين كانوا من المسلمين. وعموما ترى السيدة هازان أن "تنامي نسبة المعتقلين من المهاجرين ازدادت وتيرته مع تضاعف الساكنة السجنية في ظرف 30 عاما". وإلى الآن يوجد رقمان رسميان فقط، الأول عن نسبة المعتقلين من أصحاب الجنسيات الأجنبية والتي تزيد عن 18 في المائة، فيما لا يتعدى الأجانب المقيمون على التراب الفرنسي 6,4 في المائة، والرقم الثاني يخص نسبة السجناء الذين يقيدون أنفسهم للحصول على وجبات الإفطار خلال شهر رمضان. سنة 2016، بلغت نسبة هؤلاء 18 ألف و630 شخصا، أي ما يمثل 27,5 في المائة من الساكنة السجنية. وترى السيدة كينسي أن هذا الرقم ظل ثابتا منذ عدة سنوات. ويرتفع الطلب على وجبات الإفطار بالخصوص في المؤسسات السجنية الخاصة بالقاصرين، حيث تبلغ نسبة المسجلين 29 في المائة. أما في السجون الكبرى (خاصة بالقضايا الإجرامية الكبيرة)، تم تسجيل فقط 14 في المائة من المعتقلين للحصول على وجبات الإفطار. تشدد مع الفقراء وتسامح مع النخب لورون موسيشيلي، الباحث في علم الاجتماع بجامعة "أي مارساي"، ومدير الأبحاث بالمركز الوطني للبحث العلمي، يقدم تفسيرا أوليا ذا طابع سياسي لظاهرة ارتفاع نسبة المعتقلين من أصول مهاجرة. "انحراف الشوارع، ذلك الانحراف الذي أغلب من يتورط فيه من الفقراء، يقود إلى السجن، بالمقابل، انحراف الطبقات الثرية، مثل التورط في الفساد الضريبي أو التلاعبات، ينتهي إلى إجراء صفقات ودية أو أداء غرامات". مثلا، في مجال التهرب الضريبي "لا تتجه خلية بيرسي (هيأة التقنين الضريبي) إلى القضاء إلا حينما تفشل المفاوضات". السياسة العقابية غير منصفة اجتماعيا. الطلب الاجتماعي، وبالتالي سياسيا قمع انحراف الشوارع (السرقات، بعض أعمال العنف، الاتجار على نطاقات صغيرة بالمخدرات..) أقوى من قمع انحراف النخب. وهكذا فالرغبة في تسريع الردع الجنائي للجرائم الصغيرة التي لا تتطلب تحقيقات مطولة تُرجمت في شكل تشديد لأحكام القضاء. يوم الجمعة 14 أكتوبر بنانتير، عقدت الغرفة السادسة عشرة بالمحكمة الزجرية مجموعة من الجلسات الآنية. في واحدة من تلك الجلسات، دخل كريم مقيد اليدين بعد ليلة قضاها تحت الحراسة النظرية بعدما سرق ساعتي يد، ثمن الأولى 35 أورو والثانية 20 أورو من أحد المتاجر وهو في حالة سكر. أصدر القاضي حكمه بشهرين حبسا نافذا في حق كريم مع الإيداع الفوري بالسجن. إضافة إلى الأفعال التي دخل من أجلها السجن، السجل القضائي لهذا الشاب الثلاثيني الذي يعيش على إعالات الدولة "حافل" بما يبرر العقوبة. فقد سبق أن أدين 15 مرة من أجل سلسلة من أعمال العنف في حالة سكر وسرقات أخرى. بعد حالة كريم، مثل سبعة متهمين آخرين أمام القاضي، اثنان منهم عاشوا جزءا من طفولتهم في دور المساعدة الاجتماعية للطفولة، واحد من هذين الاثنين تمكن من الحصول على الباكالوريا ويعيش بمساعدة الإعانة المادية للدولة، والآخر بلا مأوى ولا أدنى دخل، اثنان آخران من السبعة يشتغلون بعقود عمل مجحفة، وواحد فقط ممن مثلوا أمام القاضي يشتغل بعقد عمل غير محدد المدة. اثنان منهم ولدوا خارج فرنسا، ولكن جميع المتهمين السبعة فرنسيين، أربعة منهم من السود (واحد من هايتي، وثلاثة من أصول إفريقية)، وثلاثة من أصول مغاربية. "الأصل ليس هو العامل الذي يفسر اقتراف هذه الجريمة أو تلك"، يقول لورون موسيشيلي. في دراسة إحصائية شملت 600 شابا تستعد لنشرها، حللت جامعة نانت مجموعة من المعايير من بينها بلد الولادة والجنسية والاسم. ثلاثة عوامل تخلص إليها دراسة الجامعة تقف وراء الانحراف: الوسط الأسري والإخفاق الدراسي والشارع. "يرتفع احتمال الانحراف بين أوساط الشباب في وضعية هشاشة بالأحياء والمدن المهمشة"، يؤكد موسيشيلي. ومن جانبه، يشير الباحث مروان محمد إلى مسألة أخرى تتعلق بطريقة التعامل مع السجناء من أصول مهاجرة، والتي تكون رهينة بعض الأفكار الجاهزة. ويعطي مثالا لمراقب مكلف بتتبع السجناء عبر الكاميرات، والذي يكون مطالبا أحيانا باتخاذ قرارات، "إذا كان هناك جهازا كاميرا يتتبعان في الوقت ذاته مجموعتين مختلفتين من السجناء، واحدة من السجناء المغاربيين والثانية لسجناء من الطلبة البيض، أية كاميرا سيختار"؟ ومن الممكن للمسطرة القضائية أن تعمق عدم الإنصاف في التعامل مع السجناء. فقد كشفت دراسة أجرتها جامعة نانت على حوالي 7000 ملف زجري أن القضاء لا يظهر أي تمييز بين السجناء بناء على مكان ازدياد المتهم، على الأقل ليس بطريقة مباشرة. حيث وجدت الدراسة أن مكان الازدياد لا يؤثر على العقوبة في حد ذاتها، لكنه يؤثر بالمقابل على اختيار المسطرة. وفي هذا الصدد، اكتشفت الجامعة عاملين يؤديان إلى إصدار أحكام ثقيلة في حق المهاجرين. "في حال ارتكاب نفس الجريمة، احتمال إصدار حكم بالسجن يكون ثماني مرات أثقل بالنسبة للأشخاص الذين يتم الحكم عليهم وفقا لمسطرة الجلسات الآنية"، علما أن احتمال المثول أمام القاضي في جلسة آنية يكون ثلاث مرات أكثر بالنسبة للأشخاص المولودين في بلد أجنبي. كما أن قرار الحراسة النظرية يتخذ ضد هذه الفئة 4,8 مرات أكثر مقارنة مع متهم مزداد بفرنسا". للقضاة أفكارهم المسبقة "السبب الرئيسي في اللجوء إلى الحبس الاحتياطي هو الخوف من حالات العود"، يقول نائب عام بمحكمة استئنافية مكلف بتطبيق السياسة الجنائية. لكن القاضي يأخذ هذا القرار أيضا بناء على ضمانات الحضور. وهنا سيضع القاضي ثقة أكبر فيمن يدل عنوانه على السكن بحي راق مقارنة مع من يسكن في حي من الأحياء الهامشية. "للقاضي أفكاره المسبقة، مثله مثل باقي الناس"، يقول جون ماري دولاروي الذي سبق أن شغل منصب مراقب سجون. وعليه تكون الاختلافات الثقافية والاجتماعية عوامل مؤثرة في لجوء القاضي إلى قرار الحبس الاحتياطي.. وهذا القرار يؤدي بدوره وبشكل مباشر إلى إنتاج أحكام ثقيلة، وهي السبب في اكتظاظ سجون فرنسا وخاصة "إيل دو فرانس" و"مارساي" و"تولوز". وما يحدث في فرنسا غير بعيد عن واقع السجون في باقي دول القارة. "بأوربا نسبة الأجانب والأشخاص ذوي الأصول المهاجرة تفوق ثلاث مرات نسبة مواطني البلد المعني"، يقول جون ماري دولاروي. في ألمانيا مثلا، يبلغ هذا المعدل 30 في المائة حسب آخر إحصائيات مجلس أوربا. وفي بلجيكا، يصل إلى 41 في المائة. الحضور الإسلامي ناجم عن ثقل العقوبة وبخصوص علاقة الساكنة السجنية من أصول مهاجرة بالإسلام، يرى الباحثون أنها ليست علاقة سببية. طبيعة التعبير الديني داخل المؤسسات السجنية مختلفة عن طبيعة هذا التعبير خارج أسوار السجن. في هذا الصدد تفيد دراسة أنجزها المركز الوطني للبحث العلمي بأن "نجاح ما هو ديني داخل السجون يعود إلى البحث عن ملء الفراغ الناجم عن العنف الذي ينتجه الوسط السجني". ويرى كوسروكافار "أن الإسلام يمكن أن يُعتبر جزءا من التعبير عن التمرد، باعتباره عنصر تعارف اجتماعي داخل السجن، يجعل السجين يشعر بانتمائه إلى هوية كونية تتعدى العرق والدولة". بكلمات أخرى، فالحضور الإسلامي في السجون ناجم بالأساس عن طبيعة العقوبة نفسها. "الظروف الاجتماعية تخضع لشرط التثقيف والتدين لتستقل بنفسها عن شروط إنتاجها الأصلية"، يؤكد كوسروكافار. وهي ملاحظة لا تنقص شيئا من احتمال التطرف داخل السجون. يقول الباحث "بسبب الفراغ الإيديولوجي، لا يوجد إلا الجهاد في طاولة الثورة". بتصرف عن لوموند