لم تكن عندنا «خدامات» في حينا البسيط بدرب السلطان، لذلك ارتبطت لدي، لسنين طويلة، «الخدامة» بصورة واحدة صادفتها رفقة عدد من أقراني في حي للفيلات غير بعيد عن مسكننا: فتاة صغيرة بفولار أحمر شاحب وملابس فوضوية الألوان، وخصوصا حذاء قديم أكبر من قدميها بشكل مثير، وتحمل على وجهها قسمات منطفئة ونظرات مستسلمة، وتحمل قفة صفراء ثقيلة. وكنت لسنين أيضا أجد صعوبة في الاقتناع حينما يخبرني أحدهم بأن النساء والشابات المتجمعات في «الموقف» فعلا «خدامات» في البيوت. وكنت أصر على أنهن يذهبن فقط للقيام بمهمة «التصبين» ثم يعدن، لأن «الخدامة» يجب أن تكون صغيرة ترتدي ملابس بألوان مبعثرة وحذاء أكبر من قدميها الصغيرتين وذات ملامح منطفئة. ولما كبرت قليلا علمت، من تلك الحكايات التي لا تدري أي ريح تأتي بها، أن «الخدامة» لا تحمل القفف الصفراء الثقيلة فقط، بل تصلح أيضا لتجريب فحولة الذكور الذين يتخلصون شيئا فشيئا من ملامح الطفولة، وإطفاء نزوات الآخرين. كنت أغبط هؤلاء في سري، وأحلم بأن أمي جاءتني حتى أنا ب«خدامة» ذات فولار أحمر ولكن لا تحمل القفف، لأجرب فيها فحولتي أنا أيضا. ولما كبرت أكثر، انتبهت إلى أن ذات الفولار الأحمر والألوان المبعثرة ليست منذورة لحمل القفف وتجريب فحولة الآخرين، بل إن أيادي أخرى مجهولة هي التي وضعتها بين تلك الجدران بدل أن تضعها على مقعد المدرسة.. وأن أيادي أخرى هي التي تقبض مقابل العرق والجهد الذي تبذله، وهي تحمل القفة الصفراء الثقيلة وتجاهد لكي لا يسقطها الحذاء الكبير الذي تنتعله. وحين ازددت كبرا، حاولت أن أستوعب لماذا يأتي البعض بهذه الصغيرة وفولارها الأحمر ويرمي بها بين هؤلاء الذين يحولونها إلى حاملة للقفف الثقيلة، وفرج لتجريب الفحولة وإطفاء النزوات، وكيف يقبل البعض باستقبالها وتكليفها بهذه المهام وغيرها. فهل يتعلق الأمر حقا بالفاقة والحاجة والبؤس الذي يدفع البعض إلى قتل طفولة صغارهم من أجل البقاء على قيد الحياة، أم إنها تلك الفكرة التي تجعل الصغار مجرد استثمار يجب الحصول على مقابل له في أسرع وقت؟ هل يتعلق الأمر برغبة دفينة لدى بعض الأسر في استمرار التوفر على «عبيد»، وبالتالي، تحقيق مكانة اجتماعية لا تكتمل إلا بامتلاك ما تيسر من البشر؟ ففي العصور البائدة كانت مكانة المرء، في هذه الرقعة الجغرافية المتوسطية، تقاس بما يملكه من مال وماشية وعبيد. كيفما كان الحال، فإن استمرار استغلال الخادمات القاصرات، حتى لدى كثير من المغاربة والمغربيات الذين يدعون الحداثة، و«يدافعون» ظاهريا عن حقوق الإنسان والحريات، يكشف ذلك الكائن المحافظ جدا الذي يسكنهم. وما تمرير «نواب» البلاد مشروع القانون الذي يسمح بتشغيل القاصرات في لجنة القطاعات الاجتماعية، إلا تجسيد لقوة هذا «الكائن المحافظ» الذي يسكن المغربي، والذي ينتصر لحد لآن في جل المعارك الحاسمة، ويجعل الحالمين مثلي يشككون في مدى رغبة المغربي حقا في التخفف من أثقال الماضي التي ينوء تحت وطأتها. والحال أن رغبة المجتمعات في التقدم تتجسد، في تقديري، في سعيها إلى وضع قوانين متقدمة عنها، تعبد بها الطريق للتقدم نحو زمن تختفي فيه هذه الطفلة ذات الفولار الأحمر والألوان المبعثرة والحذاء الكبير والملامح المنطفئة.