يصعب عليهن تبرير ما أقدم عليه أزواجهن، وتركهن مع أبنائهن فريسة الظنون والخوف والحاجة. إنهن أزواج وأرامل مغاربة قادهم «واجب النصرة» إلى سوريا للقتال إلى جانب «الجيش الحر» ضد نظام بشار الأسد. «اليوم24» وصلت إلى بعض هؤلاء النسوة واستمعت إلى شهاداتهن الصادمة. توصف حومة «صدام» بكونها حيا من أغرب الأحياء بمدينة طنجة. كان الحي صفيحيا فتحول في رمشة عين إلى ما يشبه مدينة صغيرة، جمعت متناقضات كثيرة. من هذا الحي غادر «مجاهدون» نحو الأراضي السورية للقتال إلى جانب «الجيش الحر»؛ منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر. حاولت «اليوم24» الاقتراب أكثر من أسر من يوصفون ب«الشهداء» داخل الأراضي السورية، وهم مغاربة من مدينة طنجة، لمعرفة تفاصيل أكثر عن حياتهم التي غادرها رب الأسرة، نحو بلاد الشام من أجل القتال، دافعه في ذلك عقيدة راسخة، حسب شهادة إحدى السيدات التي التقيناها، وهي واجب النصرة. نصرة من؟ وضد من ؟ أسئلة لم تستطع السيدات اللواتي قدمن شهاداتهن ل«اليوم24» الإجابة عنها، لكن حديثهن كان مليئا بالمآسي والمشاهد المحزنة. لم يكن من السهل العثور على سيدات غادر أزواجهن بيوتهم دون سابق إنذار، ليتحولوا إلى مقاتلين في بؤر الاقتتال والتوتر في المدن السورية، بل أكثر من ذلك، فقد قدموا حياتهم من أجل «نصرة إخوانهم السوريين»، وحتى إن وُجدت هؤلاء النسوة، فمن الصعوبة بمكان انتزاع شهادة منهن، لأنهن يرفضن الحديث أو تسريب أية معلومات عن أزواجهن، كانوا أحياء أو أمواتا. أنباء السيدات، منهن من صرن أرامل، بدأت تتسرب داخل هذا الحي، فتلك قتل زوجها، وأخرى تستعد لمغادرة بيتها نحو بيت والديها، لأنها لم تعد تمتلك ثمن قنينة ماء، فما بالك بمصاريف الكراء والأولاد. استعانت «اليوم24»، في رحلة البحث عن هؤلاء النسوة، بسيدة قريبة منهن يثقن بها، لذلك وجدن صعوبة في رفض طلبها. كانت النسوة يتوجسن خيفة من أن يتم استغلالهن لتحقيق أهداف أخرى أو لنشر صورهن أو صور أبنائهن. «نحن لا نريد فضيحة أمام أهلنا وأقربائنا»، تقول إحدى السيدات اللواتي قبلن الإدلاء بشهاداتهن ل«اليوم24». أرملة تؤدي ثمن «شهادة» زوجها «في صباح 25 من مارس 2013، أخبرني زوجي (ي. أ) 27 سنة، بأنه مسافر إلى الدارالبيضاء. سألته عن السبب، فأجاب بأنه ذاهب لشراء بضاعة سيقوم بإعادة بيعها هنا في طنجة»، تقول «ن.أ»، لها ثلاثة أولاد وحامل في شهرها الرابع. لم تكن تعتقد هذه السيدة المنقبة أن خروج زوجها في ذلك الصباح الباكر هو الأول والأخير. لم يخبرها الحقيقة، لكنها صدقته، ولماذا لا تصدقه، فهي لم تحص عليه كذبة واحدة قبل ذلك. وصل الرجل إلى مدينة الدارالبيضاء، اتصل بأهله وقال لهم إنه وصل لتوه، وإنه سيتصل بهم بعد أن يقضي مآربه. وكذلك كان. اتصل الزوج الشاب «يوسف أ»، بعد 48 ساعة، بزوجته الحامل بواسطة رقم غريب غير مألوف لديها. حملت السيدة الهاتف، كان زوجها هو المتصل، أخبرها بدون تردد بأنه يوجد حاليا في الأراضي السورية، دون أن يقدم لها تفاصيل كثيرة. «أصبتُ بصدمة حقيقية»، تقول الزوجة في شهادتها ل«اليوم24»، وتضيف بأنه أغمي عليها في تلك اللحظات. لم تستوعب الأمر جيدا، فقد كانت المكالمة قصيرة، كان هدفها هو الإخبار فقط، «ربما كانت تلك تعليمات الجهة التي توجه إليها»، تضيف نادية التي كانت تضم إلى صدرها ابنها الذي لم يكمل سنته الأولى. بدت نادية أثناء حديثها ل«اليوم24» وكأنها متلهفة للكلام والحديث، لاسيما في هذا الموضوع الحساس جدا. لم تكن تكلم أحدا، باستثناء بعض نسوة اللواتي كتب القدر عليهن أن يعشن الظروف والمعاناة نفسها. بيد أن الشوق واللهفة للحديث كانا يمتزجان بالخوف وعدم الاطمئنان، لذلك لم تبح نادية بكل أسرارها، فالمعلومات التي قدمتها في شهادتها كانت هي الحد الأقصى الذي يمكن أن تقدمه حاليا. واصلت نادية حديثها، وقالت إن زوجها اتصل بها عدة مرات وطمأنها عليه، وطلب منها السفر رفقة أبنائها لملاقاته، «كان بالنسبة إلي طلبا غريبا، لكني صراحة فكرت في الذهاب لكني لم أجد إلى ذلك سبيلا»، تعترف نادية التي يبدو أنها لم تكمل الخامسة والعشرين من عمرها. «في اليوم الذي سأتلقى فيه خبر استشهاده، 09/25/2013 عبر زوج صديقتي الذي كان برفقته، كان يوما غير عادي. أحسست بالغم وكأنني أنتظر خبرا سيئا، ولم تكد تغرب شمس ذلك اليوم حتى اتصل زوج صديقتي وأخبرها بأن زوجي استشهد بإدلب». كيف كان رد فعلك لما سمعت خبر مقتله؟ تسأل «اليوم24»، فتجيب السيدة: «كان شعوري وإحساسي كأي امرأة يتوفى زوجها وهو بعيد عنها». لم تبدأ معاناة نادية بعد وفاة زوجها، فالمشاكل بدأت عند مغادرته، حيث لم يترك لها سوى بضع مئات من الدراهم تكفي لسد رمق أبنائه لأسبوع فقط، «كان يقول إن الله معهم، ولن يضيعهم مادمت أنا على حق»، تستطرد نادية. تقطن أرملة «الشهيد» الآن في منزل هو ملكية ورثة يعد زوجها المتوفى واحدا منهم، لكن مع ذلك تعيش المرأة ظروفا مالية قاسية، فهي لا تشتغل، ولا تجد في المقابل من يصرف على أبنائها، فكيف تعيش سيدة حامل ولها ثلاثة أبناء؟ سؤال كبير ظل بدون إجابة ولم تشأ نادية أن تجيب عنه. «جهاد» مفاجئ ونهاية أحلام أسرة لم تمض سوى خمسة أيام فقط على خبر مقتل زوج نادية، حتى عاد المخبر نفسه ليزف نبأ مقتل «مجاهد» آخر، هو زوج «إيمان ب» التي قدمت شهادتها ل«اليوم24». هذا المخبر الذي ستقدم زوجته أيضا شهادتها، وعينها على الهاتف في كل لحظة مخافة سماع خبر مقتل زوجها. غادر زوج إيمان في اليوم العاشر من شهر يونيو 2013. كان الوقت صيفا، وبدأ يتنقل بين المدن السورية لمدة أربعة أشهر التي قضاها في أرض المعركة، قبل أن يقتل على يد الجيش النظامي السوري. لم تختلف شهادة إيمان عن شهادة نادية كثيرا، فإذا كانت الثانية لها ثلاثة أبناء وهي حامل، فإن الأولى أيضا لها ثلاثة أبناء، وتركها زوجها دون أن يخبرها عن مكانه حتى اتصل ذات يوم وقال لها إنه في أرض «الجهاد» رفقة المقاتلين في صفوف «الجيش الحر». «صراحة لم أكن أتوقع رحيله بهذا الشكل، لم يكن يقول شيئا. كان يتدبر أمره بكامل السرية»، تؤكد إيمان في شهادتها ل«اليوم24»، قبل أن تضيف: «كنا نناقش الوضع في سوريا أنا وزوجي، لكن لم يكن يشير لا من قريب أو بعيد إلى إمكانية التحاقه بالمجاهدين». اتصل زوج إيمان أكثر من مرة، وأكد لها ضرورة الالتحاق به رفقة أبنائه، لكن بعد أن تستقر الأوضاع، «كان زوجي يعتقد أن الأوضاع ستعود إلى طبيعتها وسيسقط نظام الأسد قريبا، وسوف نعيش هناك بأمان»، بيد أن ما سيقع مخالف لما كان زوجها يأمله، حيث سيصلها نبأ مقتله. تحدثت إيمان عن هذا اليوم بكثير من التأثر، فمقتل زوجها أجهز على أحلامها وطموحات أبنائها، «كان يوما ب100 يوم»، تعلق أرملة «الحسين.ه» (36 سنة)، الذي مات مخلفا وراءه أسرة لا تملك من حطام الدنيا شيئا. سألت «اليوم24» إيمان حول ما إذا كانت ستوافق على قرار زوجها الذهاب إلى سوريا لو أخبرها بذلك، فأجابت: «لن أوافق طبعا»، سكتت قليلا قبل أن تستطرد: «في كل مرة كان يتصل فيها بي كان يذكرني بالجنة ويقول: هناك نلتقي». السرية نفسها التي كان يحيط بها زوج نادية مشاريعه ومخطط رحيله، كان ينهجها زوج إيمان، بيد أن الأغرب من ذلك هو أن الرجلين عندما كانا يلتقيان قبل سفرهما، لم يخبر أحدهما الآخر بأي شيء، حتى التقيا هناك في مدينة إدلب السورية. الظروف الاجتماعية الحالية لإيمان لا تختلف كثيرا عن ظروف نادية، وإذا كانت هذه الأخيرة تقطن في بيت الورثة فإن إيمان تستعد حاليا لمغادرة بين الكراء باتجاه منزل والديها، فهي لن تجد من يقدم لها سومة الكراء عند نهاية كل شهر. سألت «اليوم24» أرملة الحسين: هل تفكر في الزواج مرة أخرى؟ وبدون تردد أجابت بالنفي قائلة: «أنا أعيش الآن من أجل أولادي فقط، لا أفكر في أي شيء آخر». «الجهاد الأكبر» مع الأبناء هذه شهادة مختلفة، لأن صاحبتها مازال زوجها يقاتل في صفوف «الجيش الحر»، أما زوجته «نزهة.ح»، فهي تتوقع خبر مقتله أكثر من خبر عودته. لماذا؟ تسأل «اليوم24»، فتجيب السيدة: «ما أسمعه من صديقاتي اللواتي استشهد أزواجهن لا يبشر بخير، كل شهر أو أسبوع نسمع عن سقوط شهداء مغاربة، وأحاول التقصي حول ما إذا كان زوجي ضمنهم». من تسألين؟ «أنا أتصل برقم الشخص الذي يتصل بي، هو عادة يكلمني، وقد يكلمني شخص آخر أستعلم منه عن وضع زوجي». غادر «الزبير.ع» (40 سنة) في الخامس عشر من رمضان الماضي، كان قد أحيط علما بعدد الأشخاص الذين اتجهوا نحو سوريا من الحي نفسه، أي حومة صدام ومن أحياء أخرى مجاورة، لذلك كان يخطط ويفكر كيف ومتى يغادر. «كنت قد اشتبهت في تصرفاته، لاسيما عندما قص لحيته، وسألته حول ما إذا كان يعتزم السفر إلى سوريا، فأقسم أنه لن يرحل». تضيف السيدة أنها كانت مريضة في تلك الأيام، وقد استغل هذا الأمر وتركها طريحة الفراش وغادر دون استئذان. بعد شهرين كاملين من مغادرته بيت زوجته المريضة، سيتصل الزبير، «كان يسأل عني وعن الأطفال ببرودة غريبة وكأنه سافر إلى الدارالبيضاء أو الرباط، فكنت أجيبه بانفعال، لكن كان يحاول تهدئة الأوضاع، وتأكيد أنه في مهمة عظيمة وجليلة، وأن الموت فيها هو أسمى ما يتمناه الإنسان». لم تجد المرأة سوى عائلتها التي تعيلها وأولادها، فالزوج لا تتوقع عودته، أما هي فتنتظرها مهمة صعبة للغاية إنه «الجهاد الأكبر»، كما وصفت ذلك، جهاد تربية الأبناء وتعليمهم. على هامش الشهادات تم الاستماع إلى شهادات النسوة الثلاث في جلسة واحدة، وكن برفقة أبنائهن، الذين كانوا يقاطعون أمهاتهم من حين لآخر. إحدى الطفلات التي حضرت رفقة أمها تربطها علاقة غريبة بأبيها، فالطفلة تحس بأن والدها بعيد عنها، وقد لا يعود، بينما أمها تؤكد لها أنه مسافر وقد يعود في أية لحظة. الطفلة لم تبلغ بعد سنتها الرابعة، ومع ذلك فهي تعي أن أمها لا تصدقها القول، وأنها كانت تراوغها عندما تسألها عن أبيها. النسوة الثلاث أكدن جميعهن أن أزواجهن ليسوا حاصلين على شهادات دراسية، ولم تكن تربطهم أية علاقة أو تواصل كيف ما كان نوعه، وكانوا يلتقون في المسجد أثناء الصلوات الخمس. لباس النسوة كان موحدا، فقد كن يرتدين النقاب، وعلى أكفهن قفازات كان لونها أسود مثل لون النقاب، لا ترى منهن سوى العينين، لكن نبرة أصواتهن كانت توحي بكل شيء حتى عن سنهن، فهن مازلن صغيرات السن، وقد بلغت إحداهن الثلاثين ربيعا من عمرها. تحدثت النسوة في شهادتهن عن سيدات أخريات رافقن أزواجهن إلى سوريا، وآخرين رحلوا رفقة أبنائهم القاصرين، ورفضوا البقاء لوحدهم، وإذا كان أبناء هؤلاء «المجاهدين» يعيشون ظروفا سيئة بالمغرب، فكيف يعيش الآن هؤلاء القاصرون الذين زج بآبائهم في أتون الحرب والقتال باسم الجهاد في سوريا؟